العدد 230 - الأربعاء 23 أبريل 2003م الموافق 20 صفر 1424هـ

أولويات الاستراتيجية الاميركية في القرن الحادي والعشرين

شواهد مباشرة من كتابات معاصرة

سيد كامل الهاشمي comments [at] alwasatnews.com

يبدو من المهم جدا قبل أن نشرع في استعراض الشواهد على طبيعة الاستراتيجية المتبعة من قبل الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين أن نقدم إطارا عاما لهذه الاستراتيجية يختزل أهم معالمها، ويكشف عن خصوصياتها، والذي يمكن قوله بهذا الصدد انه ستحدد أو بالاحرى تحددت أولويات السياسة الأميركية في هذا القرن ضمن الاستراتيجيات الآتية: السيطرة على مصادر أسلحة الدمار الشامل (مصادر التفوق العسكري)، والسيطرة المباشرة على مصادر الثروات النفطية والمائية، وتغيير النظام القيمي لبقية دول العالم وعولمة النظام القيمي الأميركي. وهكذا تتلخص السياسة الأميركية في القرن الحادي والعشرين في محاولة الاستحواذ المطلق على: السلطة، والثروة، والقيم. وانطلاقا من ذلك ستتحرك الولايات المتحدة في العالم باتجاهات ثلاثة:

الأول: إنشاء أنظمة سياسية موالية لأميركا، بل هي صناعة أميركية كاملة.

الثاني: إنشاء أنظمة اقتصادية يتكامل دورها ويتواصل مع دور وأهداف السوق الأميركية وسياسات الشركات الاقتصادية الكبرى.

والاتجاه الثالث: إنشاء أنظمة قيمية ومعرفية تستلهم النموذج الأميركي وتروج إليه بوصفه النموذج الإنساني الأكمل والأمثل.

هذا هو الإطار العام للاستراتيجية الأميركية في هذا القرن، والذي سيفرض على أميركا خوض ثلاثة حروب: السيطرة على القوة، والسيطرة على الثروة، وحرب السيطرة على المعرفة.

وبعد تفهم هذه الاستراتيجية يتوجب علينا بيان الشواهد والدلائل التي تفصح عن هذه الاستراتيجيات والتعرف على الدوافع التي تكمن وراءها، وهذا ما سنقوم به عبر التذكير بالنقاط الآتية:

- سيطرة القطب الواحد: من أهم الاستراتيجيات التي ستعتمدها بل اعتمدتها فعلا الولايات المتحدة الاميركية في القرن الحادي والعشرين الذي نعيش بداياته هو مبدأ «استقرار عالم القطب الواحد»، فأميركا دخلت القرن الحادي والعشرين كقوة مهيمنة وحيدة بعد انتهاء مرحلة الحرب الباردة، وزوال القطب المقابل والذي تمثل في اتحاد الجمهوريات السوفياتية، وتقوم هذه السياسة الأميركية القديمة الجديدة على منع ظهور وبروز ثنائية قطبية مرة أخرى بأي شكل من الأشكال، وتبدو هذه السياسة كأبرز معلم من معالم الاستراتيجية الاميركية في هذا القرن، وقد تحولت فكرة «عالم القطب الواحد» إلى مبدأ من مبادئ السياسة الاميركية بشكل حاسم بعد انهيار ما كان يعرف بالاتحاد السوفيتي في العام 1989، فقد (أحدث انهيار الاتحاد السوفياتي أكبر تغير في العلاقات بين قوى العالم منذ الحرب العالمية الثانية، فبسقوط موسكو الهائل من مرتبة القوى العظمى زالت بنية القطبية الثنائية التي ظلت تشكل السياسات الأمنية للقوى الكبرى لفترة تناهز النصف قرن، وبرزت الولايات المتحدة الأميركية باعتبارها الدولة العظمى الوحيدة التي استطاعت الصمود) «وليم وولفورث: استقرار عالم القطب الواحد، ص7».

- عودة أحلام الامبراطورية: لم يكن الحلم بأن تصبح الولايات المتحدة امبراطورية لا تغيب عنها الشمس حلما جديدا، بل نستطيع القول انه حلم سمحت كل القيادات السياسية الاميركية لنفسها أن تحلم به، وقد قدم الساسة الاميركيون تجربتهم التاريخية على أساس أنها التجربة الأفضل والأكمل في تاريخ البشرية، وقد تحدث الرئيس الأميركي توماس جيفرسون عن دستور الولايات المتحدة بوصفه الدستور الصالح لتشكيل امبراطورية عالمية، إذ يقول: (مقتنع أنا بعدم وجود أي دستور سبق له أن درس بعمق وفصل بشكل جيد مثل دستورنا ليكون صالحا لامبراطورية واسعة للحكم الذاتي) «مايكل هاردت وأنطونيو نيغري: الامبراطورية... امبراطورية العولمة الجديدة، ص 242».

وعن سبب ظهور هذه الإمبراطورية الجديدة في عصر الديمقراطية والحريات والحداثة يقرر كاتبا الامبراطورية أنه: (لا يأتي الانتقال إلى الامبراطورية الجديدة إلا من غسق احتضار السيادة الحديثة. فعلى النقيض من الإمبريالية، لا تقوم الامبراطورية بتأسيس مركز إقليمي للسلطة، كما لا تعتمد على أية حدود أو حواجز ثابتة. إنها أداة بحكم لا مركزية ولا إقليمية دائبة، تدريجيا، على احتضان المجال العالمي كله في إطار تخومها المفتوحة المتسعة) «المصدر نفسه، ص 13».

- تشابك متطلبات السيطرة: لم يكن ليخفى على أميركا وهي تريد تشكيل امبراطورية في مطلع القرن الحادي والعشرين أن السيطرة لا يمكن أن تكون من خلال احتكار الوسائل العسكرية والاقتصادية فحسب، بل لابد أن تشمل كل مفاصل الحياة البشرية، ومن أجل ذلك بنت أميركا استراتيجيتها الجديدة للسيطرة على العالم على مبدأ احتكار القوة والاقتصاد والمعرفة، وهو الأمر الذي يوضحه ميشال بوغنون - موردان في كتابه عن «أميركا التوتاليتارية»، إذ يقول: «لطالما اعتبرت الولايات المتحدة أن من الجوهري امتلاك ثلاثة احتكارات».

الأول: هو احتكار القوة المسلحة، الذي اكتسبته من خلال «الحلف الأطلسي» وقبعات الأمم المتحدة الزرقاء، وبيع الأسلحة، والنار النووية بالنسبة إلى الشطر الغربي (باستثناء فرنسا وحدها).

الثاني: هو احتكار الاقتصاد. وقد كان جزئيا فعلا منذ «معاهدات برتون وودز» العام 1944، حين كان المعيار النقدي العالمي (ولا يزال) هو العملة الوطنية الأميركية (الدولار)، وحين خضع النظام العالمي، الناشئ من تلك المعاهدات، لتقلبات السوق - الذي تستطيع الولايات المتحدة التأثير فيه - ومن النتائج الاقتصادية الأميركية، والذي أفضى إلى قيام مؤسسات دولية (صندوق النقد الدولي، المصرف الدولي) في خدمة مصالح الولايات المتحدة ومجموعات المصالح على الصعيد العالمي...

الثالث: (هو بلا ريب الاحتكار الأدهى في المدى المنظور، لأنه توتاليتاري بجوهره، نعني احتكار وسائل الاتصال الجماهيري...) «ميشال بوغنون - موردان: أميركا التوتاليتارية، ص 177 - 178».

- العولمة واستباحة الخصوصيات: انطلقت «العولمة» كمفهوم ضبابي غائم تستهدف أميركا من خلال تعويمه وتعميمه السماح لنفسها بالتدخل في خصوصيات الآخر، والذي هو هنا كل أحد سوى أميركا نفسها، وهذا التدخل لن يستهدف الخصوصيات الثقافية أو الاجتماعية فحسب، بل من المسموح له أن يطال كل الخصوصيات وأن يعيد تشكيل الهوية كما يعيد تشكيل الاقتصاد، وكما يعيد تشكيل الجغرافيا السياسية لأي منطقة في العالم، ولأجل ذلك من الخطأ تصور العولمة بوصفها مجرد مفهوم يهدد الثقافات فحسب، بل هو يريد أن يبتلع ويلغي كل التمايزات عن النموذج الأميركي الذي تستهدف العولمة تسويقه والترويج له، وفي ضوء ذلك ذهب بعض الباحثين إلى تحديد أبعاد ثمانية للعولمة هي:

- العولمة المالية: وتصف السوق العالمية الآنية للنتاجات المالية المتعامل بها في «المدن المالية» عبر العالم على مدى أربع وعشرين ساعة يوميا.

- العولمة التكنولوجية: وتصف المجموعة المترابطة من تكنولوجيات الكمبيوتر والاتصالات وعمليات ربطها بالأقمار الاصطناعية والتي نجم عنها «انضغاط الزمان/ المكان»، والانتقال الفوري للمعلومات عبر العالم.

- العولمة الاقتصادية: وتصف نظم الإنتاج المتكامل الجديدة التي تمكن «الشركات الكونية» من استغلال المال عبر العالم على اتساعه.

- العولمة الثقافية: وتشير إلى استهلاك «النتاجات الكونية» عبر العالم، وتعني ضمنا في أكثر الأحيان التأثير المهيمن كما في تعبير «الكوكبة» Cocacolaization و«عالم ماك» Mc World.

- العولمة السياسية: والتي سلطنا عليها الضوء فيما سبق، وتمثل انتشار الأجندة «الليبرالية الجديدة» المؤيدة لخفض إنفاق الدولة، والتحرير التشريعي، والخصخصة، و«الاقتصادات المفتوحة» عموما.

- العولمة البيئية: وهي الخشية من أن تتجاوز الاتجاهات الاجتماعية الراهنة قدرة كوكب الأرض على البقاء ككوكب حي، وهي تطمح إلى أن تصبح «عولمة سياسية خضراء».

- العولمة الجغرافية: وتتعلق بإعادة تنظيم الحيز أو المساحة في الكوكب بإحلال الممارسات المتعدية للدولة القومية محل الممارسات «الدولية» في عالم تذوب فيه الفواصل الحدودية بصورة متزايدة، عالم سينظر إليه في غالبية الأحيان على أنه شبكة من «المدن العالمية».

- العولمة السوسيولوجية: (هي ذلك الخيال الجديد الذي يستشرف ظهور «مجتمع عالمي» واحد، أو «كل» اجتماعي مترابط يتجاوز حدود المجتمعات القومية) «بيتر تيلور وكولن فلنت: الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر، ص 19 - 20».

- النزعة الانسانية العسكرية الجديدة: نستعير هذه التسمية من عنوان كتاب للمفكر الأميركي المعروف نعوم تشومسكي والذي جاء طبقا لها، وتنبه تشومسكي إلى ظهور هذه النزعة لدى الأميركيين منذ الحرب على يوغسلافيا، فقد عملت أميركا قبل خوض الحرب وأثنائها على صوغ مفاهيم جديدة تضفي المشروعية على تدخلها في شئون الآخرين، فقد (أمطرت «التدخلية الجديدة» بآيات الاستحسان من قبل المفكرين والباحثين الاكاديميين والقانونيين، الذين أعلنوا بدء حقبة جديدة في الشئون الدولية تكون فيها «الدول المتنورة» أخيرا قادرة على استخدام القوة إذ «رأت القوة مبررة»، نابذة بذلك «القوانين القديمة المقيدة»، وخاضعة «للمفاهيم الجديدة للعدالة» التي صاغتها هي بنفسها. «إن الازمة في كوسوفو توضح... استعداد أميركا الجديد لان تفعل ما تعتقد أنه صواب، بغض النظر عن القانون الدولي) «تشومسكي: النزعة الانسانية العسكرية الجديدة، ص 11».

- أميركا والخشية من امكانية الاستمرار: على رغم كل الامكانات التي تحظى بها الولايات المتحدة اليوم والتي جعلت منها قطبا أحاديا منفردا يتربع على عرش الكرة الأرضية إلا أنها مازالت تستشعر أن لديها الكثير من النقص الذي يهدد بقاءها واستمرارها ضمن هذا الوضع الحالي، وهذا الشك في امكانات الاستمرار والبقاء السياسي القوي والفاعل لا يحمله أولئك الذين يكرهون أميركا ويتمنون زوالها فحسب، بل هو يسري حتى في عروق أولئك الذين ساهموا بكل ثقل في رسم سياسات أميركا على مدى عقود من الزمن، ففي كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» يفصح زبغنيو برجنسكي عن هذا الهاجس الذي يجعل منه لا يرتقي بطموحه لبقاء أميركا حتى لأكثر من جيل واحد، إذ يقول: «لسوء الحظ كانت الجهود المبذولة من أجل تحديد هدف مركزي وعالمي جديد للولايات المتحدة، منذ نهاية الحرب الباردة وإلى حد الآن، ذات بعد واحد. فقد فشلت في ربط الحاجة الى تحسين الوضع الانساني بضرورة المحافظة على مركزية القوة الاميركية في الشئون العالمية.

- الحرب والمخرج من الأزمة: ابتدع استراتيجيو السياسة مصطلح «الحرب الوقائية أو الاستباقية» لتبرير سلسلة من الحروب يخوضونها ضد الآخرين ممن يرون أنهم سيمثلون موانع تعوق تطبيق رؤاهم الاستراتيجية التي تتيح للولايات المتحدة تحقيق رغباتها في الاستئثار بمصادر القوة والثروة والسلطة في العالم، ولأجل ذلك عمل الاميركيون بكل جد لاقناع العالم بأنهم إذا لم يخوضوا حروبا استباقية ضد الآخرين فإنهم سيخسرون الحروب التي يفتعلها الآخرون ضدهم، ولقد تم بلورة هذا المبدأ ضمن دراسة مهمة نشرت في كتاب «هكذا يصنع المستقبل»، فكاتب الدراسة التي تتحدث عن « الحرب في القرن الحادي والعشرين» يقرر أولا أنه (في القرن الحادي والعشرين سيكون هناك ثلاثة أنواع من الحروب هي: حرب المواجهة المتكافئة وحرب السيطرة وحرب البنية التحتية).

والنوع الثالث من الحروب هو أخطرها واسهلها في الوقت نفسه، إذ يمكن لهذه الحرب أن تشن من قبل جهات وربما أفراد حتى يمتلكون القدرة على تخليق جراثيم ومكروبات خطيرة وفتاكة في مختبر ذي امكانات محدودة ومن ثم اطلاقها في الجو لتقوم بعد ذلك بعمل بشكل تلقائي، وهو ما حدث في قضية «الجمرة الخبثة» كما يعتقد، ومن أجل ذلك لابد من تغيير استراتيجيات الحروب التقليدية واستباق رغبات الحرب لدى الطرف المقابل بشن الحرب عليه قبل ان يبدأها، وإلا فإن الخسران سيكون من نصيب من يتأخر في شن الحرب، وهذا المبدأ يكشف عنه - بوصفه استراتيجية أساسية في حروب القرن الحادي والعشرين - الكاتب «ايرل تيلفورد» حينما يقول تحت هذا العنوان «كيف سنخسر حرب العام 2020؟»: «وفي حرب العام 2020 سيتمكن العدو من تشكيل قوات عسكرية مطورة جزئيا ومصممة لصد التقنية الأميركية بتفوق كاف في استغلال مجالات التطور التي يتيحها عصر المعلومات وسيعمل العدو على حرماننا من المبادرة أو استغلال عنصر المبادرة من جانبه. وليس من الضروري أن يهزمنا مثل هذا العدو. وقد يكون كافيا بالنسبة إليه أن يردع تدخلنا في أزمة إقليمية عن طريق زيادة عنصر المخاطرة بدرجة كبيرة، لكن المؤكد أن يحاول التكافؤ مع قدراتنا طائرة وسفينة بسفينة وبابة بدبابة، كما أنه لن يقيدنا باستخدام أسلوب الحرب الذي تتبعه قواتنا، بل سيسعى الى تحقيق أفضليات محدودة في ردع المبادرات الأميركية وحرمانها واجهاضها. وبالنسبة الى العدو المستقبلي فإن توريطه للجانب الآخر في مأزق ما يعتبر هدفا مقبولا.

لكن هناك امكانية أن يتمكن العدو من تحقيق نصر حاسم، ولاسيما إذا أثبتت الولايات المتحدة قدرتها على حصر نفسها في القتال باستخدام التقنيات المتفوقة المبنية على مبادئ الثورة في الشئون العسكرية. وقد يهاجم العدو المستقبلى باستخدام كل اشكال الحرب، أي سيستخدم أشكال الحرب الثلاث معا. وفي حين أن العدو يمكن أن يخسر إذا حاول الاشتباك مع الولايات المتحدة الأميركية في حرب قائمة أساسا على مبادئ الثورة في الشئون العسكرية، فإنه قد يتفوق في استخدام قدرات التقنية العالية الملائمة، من خلال التركيز على الصيغ المرتبطة بحرب السيطرة وحروب البنى التحتية) ايرل تيلفورد في هكذا يصنع المستقبل، ص 182 - 183.

- الحرب... من النظرية إلى الممارسة: سرعان ما عملت الولايات المتحدة بعد بلورة استراتيجيتها في ضرورات الحرب الاستباقية على تطبيقها والعمل بها، وقد وجدت في الوضع الراهن في العالم الاسلامي الحلقة الأضعف والأقوى في الوقت نفسه الذي يستثيرها لخوض حرب عالمية، فالعالم الاسلامي هو الحلقة الأضعف لأنه يتمتع بالكثير من الكيانات السياسية المهترئة والمرفوضة على المستوى الشعبي، والتي تفتقد أقل القليل من مبررات القبول والرضا، وهناك حالة من السخط الجماهيري على الوضع القائم في ظل غياب دور فاعل للقيادات السياسية في مواجهة التحديات الكبيرة التي تحيط بمصير هذا الجزء من العالم، ولكن العالم الاسلامي من جهة أخرى هو الحلقة الاقوى التي ظلت تستعصي على رغبات التغيير الثقافي ومسخ الهوية التي طمحت الولايات المتحدة الى تحقيقه بوصفه العنصر الذي يكمل تحقيق استراتيجيات التغيير وتفعيل مبادئ العولمة الثقافية والاجتماعية، وسبب القوة هنا لا يكمن في الشخصية الفردية للانسان في هذا العالم، وانما يكمن في القدرات الذاتية التي مازال الاسلام ينطوي عليها بوصفه الدين الذي ظل قادرا على ربط الانسان المسلم بهويته الاسلامية التي ظلت تختزن الكثير من عناصر الشد والربط إليها في نفس الانسان المسلم، وقد أدرك المعنيون بشئون السلطة وفلسفة الحكم منذ أقدم العصور (أن الذي يقود الشعوب إنما يعود الى جملة الاعتقادات والعادات الماثلة في الذهن على شكل صور، جرى تقعيد أهمها وتطويبه في شعائر فالوظيفة الاساسية لهذه الشعائر والقواعد تكمن في أنها تطبع في الجماجم الاعتقادات والعادات حتى تشرطها وتعدها للطاعة والولاء «ميشال بوغنون: أميركا التوتاليتارية، ص 178»).

السؤال الأهم والأدق هو هل ستنجح أميركيا في استكمال تحقيق استراتيجياتها كما رسمتها من قبل؟ إن الرؤية السطحية لمسار الحوادث والوقائع فضلا عن الرؤية المعمقة والفاحصة تدلل على أن أميركا لن تلفح في تحقيق ما تحلم به، وذلك للاعتبارات الآتية:

أولا: على مستوى التفوق العسكري والسياسي تبدو أميركا اليوم أعجز ما تكون عن تحقيق الأمن المطلوب داخل حدودها فضلا عن خارج الحدود، وذلك لأن التفوق العسكري اليوم لا يقاس بما يمتلكه طرف المواجهة من أسلحة دمار وهجوم، ولأن الوقائع التاريخية أثبتت أن الانسان قادر على تحطيم أسطورة وهيبة السلاح الذي يقمع رغباته في التحرر والانعتاق من هيمنة رغبات التسلط والقهر التي تمارس ضده.

ثانيا: على مستوى التفوق في امتلاك الثروات ومصادر الرفاية تبدو أميركا اليوم أكثر الدول التي تعاني أزمات اقتصادية خانقة تهدد اقتصاداتها بالانهيار والتداعي، وليس أدل على ذلك من سلسلة الفضائح المتتالية للشركات الكبرى، داخل الولايات المتحدة الاميركية، والمنافسة الحادة التي باتت تستشعرها الولايات المتحدة من قبل اطراف جديدة صاعدة مثل أوروبا.

ثالثا: على مستوى التفوق في امتلاك القيم والمعارف فإن اميركا اليوم لم تعد تحظى بأي احترام وتقدير حتى من الشعوب التي مثلت في يوم من الأيام النواة الأولى لتشكيل ما يعرف اليوم باسم «الولايات المتحدة الاميركية»، وإذا كان اليوم تشعر بأنها باتت مفصولة ومنفصلة عن اصولها وجذورها فمن الأولى أن تشعر بالغربة في عالم لا تنتمي إليه ولا ينتمي اليها، وهو يوما بعد يوم يصر على ان يتمايز عنها على رغم كل ما تزعم أنها تقدمه إليه من خدمات، وما تزعم أنها تبدله من أجل تطويره وتنميته، وهكذا تبدو أميركا خاسرة في كل الاتجاهات ما يجعلها تواجه مصيرا أسود يهدد باسقاطها رمزيا قبل أن تسقط سياسيا وعسكريا

إقرأ أيضا لـ "سيد كامل الهاشمي"

العدد 230 - الأربعاء 23 أبريل 2003م الموافق 20 صفر 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً