قال تعالى: «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون» (آل عمران:196). تمر علينا هذه الأيام ذكرى استشهاد شهيد المبدأ والعقيدة الخالد، المرجع السيد محمد باقر الصدر (رض) واخته المظلومة بنت الهدى (زينب زمانها) وذلك لمواقفها الشجاعة والجريئة بالوقوف الجسور ضد الطغمة الحاكمة في العراق وأزلامه المارقين المجرمين، وفي سبيل الله وكلمة الحق في وجه السلطان الجائر صدام الطاغية الذي أعدمهما في يوم التاسع من أبريل/ نيسان العام 1980، اليوم الأسود كما أطلق عليه العراقيون.
إن استشهاد السيد المرجع الكبير والخالد محمد باقر الصدر كان بحق خسارة كبيرة للإسلام والمسلمين قاطبة... لما يتمتع به من علم فاق الحدود، فقد زُقَّ العلم زقا وكان يطلق عليه «نابغة الزمان» و«العبقري» بشهادة أهل عصره، وكان بحق لا مثيل له. ولذلك كان لفاجعة إعدامه صدى كبير على مستوى العالم لما له من دور ريادي على الصعيد الإسلامي ومؤلفاته التي طبعت بشتى اللغات وكان تدرَّس في مختلف الجامعات وخصوصا الإسلامية منها. ولم تشهد كتبه التي ألفها وهو في عمره القصير نظيرا أمثال «اقتصادنا» و«فلسفتنا» و«الأسس المنطقية للاستقراء» الكتاب الذي حيّر عقول الأساتذة والمفكرين والمثقفين، إنه بحق كتاب عجزت الأقلام أن تأتي بمثله أو تطبع على شاكلته.
وكان الشهيد الصدر في قمة المجد والعلو في نفوس من عرفوه ومن لم يعرفوه. وكان على صغر سنه مرجعا يستنبط الأحكام الشرعية، وكانت له رسالته العملية «الفتاوى الواضحة» التي اتبعها مقلدوه، وكانت رسالته العملية المبسطة (غير معقدة الأحكام) وتحتوي على المسائل الشرعية العامة. ونظرا إلى علو المنزلة التي سخرها له الله سبحانه وتعالى فقد صار الطاغية الدموي صدام يتربص به الدوائر، وخصوصا أثناء بدء الحرب العراقية الإيرانية، تلك الحرب التي تسبب فيها صدام البائد ضد إيران التي انتصرت على الشاه المقبور، وضربت مصالح الدول الاستعمارية وخصوصا أميركا التي جعلت من إيران شرطيا للمنطقة، ما حدا بنفوذها أن ينهار على يد الإمام الخميني.
وكان صدام يخشى على حكمه أن يزول، لذلك قام بقتل وإعدام جميع معارضيه، وكان يمارس أبشع صور التعذيب والقسوة ولم يسلم من جراء ذلك حتى معاونوه من حزب البعث بمجرد إبداء الرأي.
وبعد أن استشعر صدام هذا الخطر المقبل من الحوزة العلمية «شعاع الثوار» أرسل إلى السيد الصدر رحمه الله يغريه ويعده بالنفوذ والجاه إذا أفتى لصالح حزب البعث في الحرب وتطاول على إيران أو زعيمها الإمام الخميني، فكان جواب السيد الصدر أن الحق يعلو ولا يعلى عليه، وأن لا سبيل له غير كلمة الإسلام مهما كانت النتائج... بمعنى أن حزب البعث مرفوض البتة في ناموسه ومبدئه. فاستشاط صدام غضبا منه ومن جوابه، ثم أمر بعد ذلك في أبريل 1980 جلاوزته بتطويق النجف الأشرف وحكمهم بالحديد والنار خوفا من الفتنة وخوفا من غضب أبناء النجف على ملهمها السيد الصدر رحمه الله، إذ أمر باعتقال الصدر بأي شكل وبأية طريقة ومهما كانت انعكاساتها مع أخته الشهيدة بنت الهدى.
وكانت الطامة الكبرى في اعتقال السيد وأخته بنت الهدى اذ قيدا بالحديد، وعذبا تعذيبا قاسيا شديدا على يد المجرمين البعثيين، ولقيا من هذا العذاب ما يفوق الوصف وما لا يتصوره أي إنسان وخصوصا العلوية الشهيدة بنت الهدى التي سحقت سحقا أمام عيون أخيها السيد الصدر لكي يتنازل ولو باليسير لصدام وحكمه.
ولما يئس صدام من ذلك قام بنفسه بإطلاق النار والرصاص على رأس السيد الصدر وأخته بنت الهدى رحمة الله عليهما. وفي مساء ذلك اليوم وتحديدا في العاشرة مساء قطعت الكهرباء عن النجف الأشرف، وفي ظلام الليل الدامس تسللت مجموعة من قوات الأمن البعثيين إلى دار المرحوم محمد صادق الصدر رحمه الله وطلبوا منه الحضور إلى مبنى محافظة النجف... وهناك سلموه جثمان السيد وأخته الطاهرة بنت الهدى، وحذروه من الإبلاغ عن شهادة بنت الهدى، ثم أخذوه إلى مقبرة وادي السلام اذ وارى الجثمانين... رحمة الله عليهما وأسكنهما فسيح جناته.
ويبقى الشهيد الصدر وأخته بنت الهدى مخلَّدَين في قلوب المؤمنين، محتسبين عند الله تعالى إن شاء الله في الفردوس الأعلى، وعاقبتهما وعاقبة أمثالهما خيرا كما قال تعالى: «والعاقبة للمتقين» (الأعراف:128). أما جزاء الطاغية صدام فالخزي والعار في الدنيا والنار في الآخرة، قال تعالى: «ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها غضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابا عظيما»(النساء:93).
علي ثامر
العدد 239 - الجمعة 02 مايو 2003م الموافق 29 صفر 1424هـ