العدد 242 - الإثنين 05 مايو 2003م الموافق 03 ربيع الاول 1424هـ

الحرية: الجنرال الذي أسقط بغداد

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

يبحث الناس عن الاجابة عن سؤال مفاده لماذا سقطت بغداد هذا السقوط السريع والمفاجئ؟ ويجيبك البعض بأنها الخيانة، فلابد ان هناك (اتفاقا) من نوع ما قد حصل في الايام الاخيرة من الحرب، وربما كان معدا له قبل ذلك، بين مجموعة من المتنفذين العراقيين في السلطة السابقة، وبين قيادة القوات الاميركية الزاحفة، جعلت من سقوط بغداد ممكنا بهذه السرعة، في الوقت الذي قاومت فيه مدينة عراقية اصغر هي البصرة لفترة أطول.

وتتعدد الاجابات وتختلف الرؤى، ولكن معظم الاجابات في الواقع لا تخرج عن فكرة «المؤامرة» المدبرة! وهو افتراض ينطلق من تصور عقلاني لا شك فيه، إذ ان ما قيل للجميع عن الإعداد غير المسبوق لاستقبال المنازلة ضد الحلفاء، وما ردده الاعلام العراقي ومن ثم الدبلوماسية العراقية من مقدرة على الصمود، قد اوهمت اعدادا كبيرة من العرب إلى درجة الايمان الذي يقود إلى هذا التفكير المنطقي، بأن هناك (ملعوبا) ما كان وراء الانهيار السريع للعاصمة العراقية الذي ادى بدوره إلى سقوط العراق وتلاشي النظام.

وبعد قراءة ما توافر حتى الآن من معلومات، تم اكتشاف السبب الحقيقي الذي كان وراء سقوط بغداد السريع، وكان ذلك هو جنرال اسمه (الحرية)، أما التفاصيل في كيف قام هذا الجنرال في الخفاء من تمكين الاميركان وحلفائهم البريطانيين من تسجيل نصر في ثلاثة اسابيع على جيش متعدد الحلقات يبلغ تعداده ملايين من البشر، فيكمن تفسيره في القصة الآتية:

يقال ان احد سلاطين آل عثمان كان له صديق صدوق يعزه ويريد ان يكرمه بوظيفة كبيرة، ولكن هذا الصديق تنقصه الخبرة والكفاءة في كل شيء تقريبا، إلا أن إكرامه كان واجبا، فقرر السلطان ان يصدر فرمانا يصبح بموجبه هذا الصديق واليا على بغداد، وأن يرسل معه احد ثقاته كي يدبر امره، ويقف إلى جانبه في الملمات التي لا شك في انها ستصادفه لقلة خبرته، وبساطة رأيه القريب إلى السذاجة.

دخل الوالي الجديد إلى بغداد بكل هيلمان السلطة وشكيمتها، وسبقته إليها البشائر، ان مولالنا اعزه الله قد ارسل إليكم من ثقاته الاقرب، ومن رجاله الافصح ومن محبيه الاوفى، وكان يوم دخول الوالي يوم عيد لدى الخاصة والعامة، فبغداد مدينة تجارية مزدهرة، تشرف على نهرين عظيمين وبها من المعاش والرياش الكثير.

ولكن الوالي الجديد هو في اصغر اصغريه، فلا فكر يرتجى ولا عقل نير ينتظر ان يضاء، فسأل مرافقه الذي ارسله معه السلطان كيف يمكن لنا ان ندير مدينة بها كل هذه العقول والرجال، وكيف نتدبر امرهم وهم متدبروه بحسن العمل والتنظيم على افضل وجه، وجاءت النصيحة الذهبية بعد طول تفكير من الناصح المجرب، عليك يا سيدي ان تنقل كل شخص في قيادة المدينة ومن القائمين على امرها من اختصاصه إلى غير اختصاصه، فتنقل إمام الجامع إلى الاشراف على اسطبل الخيول، وتنقل المشرف على اسطبل الخيول إلى رئاسة الشرطة، وتنقل رئيس الشرطة إلى الجامع كي يؤم الناس، وتنقل القاضي إلى الاشراف على المخابز، أما رئيس الخبازين فتعينه قاضي القضاة، وهكذا يصبح الناس في حيرة من امرهم ويختلط الحابل بالنابل، ويصبح لعظمة الوالي ولي النعم الامر كله، وفي هذه الحال فإن اي قرار يتخذه مولانا الوالي سيكون افضل من اي قرار آخر يتخذه المنفذون، سيكون افضل من فتوى رئيس الشرطة في الجامع، وأفضل من مشرف الخيل في اعمال الشرطة، وأفضل من امام الجامع في الاعتناء بالخيول والعناية بالاسطبل، فيشير الناس بعد ذلك إلى حكمتك، لأن الحكمة افتقدت في الباقين، وإلى عدلك لأن العدل قد اختل. فسر الوالي بهذه النصيحة وعمل بها، فسارت امور الناس إلى السوء وانشغلوا بمشكلات سائس الخيل، والمشرف على الافران ورئيس الشرطة الذي تحوّل البشر لديه إلى حيوانات وهكذا، أما الوالي فقد كان الشعب ينظر إلى تفاهة اعماله نظرة الممتن، لأنه اخف في الضرر على الناس وأبعدهم عن عدم التخصص، ولم يكن هناك من يعترض على اوامر الوالي ونواهيه، مهما كانت تافهة وغبية.

هذه القصة التراثية التي لها معنى عميق في سياسة الناس وتدبير شئونهم، تصغير الكبير منهم بتكليفه بعمل حقير، وتكبير التافه عن طريق تكليفه بعمل كبير لا يفقه عنه شيئا، هو بالضبط السبب الرئيسي في سقوط بغداد، هذا السقوط الذي يعتقد البعض ان وراءه خيانة.

حقيقة الامر لا توجد خيانة، ولا توجد مؤامرة، فقد تم القبض على (الجنرال) الاكثر قدرة على التصدي للدفاع عن الوطن، وهو الجنرال (حرية) فتقدم عبدالتواب ملا حبوش وهو المسئول في نظام العراق السابق عن هيئة التصنيع العسكري، بفكرة عبقرية صرف عليها النظام - كما قيل لنا ونشر - بليون دولار، من اجل ان يسقط طائرات العدو المغيرة على بغداد والعراق بأشعة الليزر، وتنقل الاخبار ان هذه الفكرة الرائعة صفق لها الجميع في اكثر من اجتماع حضره القائد، ولم يستطع احد من الحاضرين، وفيهم اذكياء وأهل فطنة، ان يعترضوا لأن الاعتراض معناه الموت فورا ومن دون تأخير.

وعندما نسبر غور محاصرة الجنرال (حرية) نراه ظهر لنا في صورة ان (القائد) الذي يعرف كل شيء، يدير السياسة كما يدير الاقتصاد، كما يفتي في العلاقات الخارجية، ويقود المعارك الطاحنة، رأيه هو الاوفى وهو الاكثر حكمة، لأن شخصا ما ذكيا جدا قد اوجز له سياسة الوالي العثماني اياه، بأن اسند الامر إلى غير اهله، وحاصر الحرية. تستطيع ان تفتي لهؤلاء جميعا، فأنت نسبيا ستصبح اعلم منهم، انت اعلم طبعا من سائق سيارتك ذي النجوم الساطعة على كتفه في شئون الحرب، وأفضل من يعرف الاقتصاد من ابن خالتك الذي لم ينه المدرسة الابتدائية، وهكذا انت الفرد الاوحد العالم بما تقدم وتأخر، ومادام الجنرال (حرية) مغبونا ومقموعا فأنت القابض على كل الامور.

في فضاء كهذا كيف يمكن ان تصمد بغداد، وكيف لا يمكن ان تسقط العراق في اسابيع من زاخو إلى ام قصر؟، فكروا في سياسة الوالي وأقرأوا من جديد رواية السابق صدام حسين (زبيبة والملك) وأنتم تعلمون كيف سقطت بغداد... ان التفسير لا يخرج عن غياب الحرية

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 242 - الإثنين 05 مايو 2003م الموافق 03 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً