العدد 249 - الإثنين 12 مايو 2003م الموافق 10 ربيع الاول 1424هـ

هل بقي من البعث شيء؟

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

سقوط بغداد هل هو سقوط البعث فكرا وممارسة؟ أم هو سقوط نظام من حكم الأقرباء، استولوا على الحكم في بغداد بالحيلة و القوة فانحرفوا به إلى درجة لا تصدق من الأنانية والفجور؟ بمعنى، هل ما سقط هو الأفكار أم التطبيق المنحرف لهذه الأفكار؟وهل أفكار البعث تستحق أن تعيش في مضامينها المحققة على الأرض في ظل التطورات العالمية القائمة؟

السخرية في الأمر أن شاه إيران محمد رضا بهلوي عندما قرر أن ينشئ حزبا في سنوات حكمه الأخيرة سماه أيضا (البعث). أما حكم حزب البعث العربي الذي استمر سنوات برأسين في بغداد ودمشق، وكان عصيا على التوحد ومقاوما للتحديث، فقد قامت الدروع الاميركية أخيرا بفعل ذلك التوحد، فأصبح البعثان واحدا، عدا بعض الجماعات الصغيرة في صنعاء، أو بعض دول الشمال الإفريقي العربي.

المتابع لما يكتب ويقال على فضائياتنا العربية لايزال يسمع من البعض ويقرأ لآخرين تقريضا لمواصفات (بطل قومي) هو صدام حسين المختفي الآن، وإنجازات يصفونها بأنها (المشروع العربي النهضوي) ولا تبدو إلى العلن إلا في شكل قبور وأدوات قمع، ولكن هذا البعض لايزال تراوده أحلام (البعث) من جديد، بأفكاره (المنقذة للأمة)، فهل البعث هو جماعة أم فكرة؟ وما النتيجة التي خلفتها هذه الفكرة أو الأفكار التي اعتمد عليها البعث في حكمه واستعباده ملايين البشر في بلاد العرب، أن جردة الحساب محبطة لأي عاقل والتي انتهت بالاحتفاظ (بالسلطة والثروة) لبضع عشرات من الناس في دائرة عائلية مغلقة، وزجت بملايين في الفقر والفاقة والخوف، وآخرين في المنافي وعدد لا يحصى في القبور المموهة.

من اجل الوصول إلى فهم أفضل للمسيرة السياسية العمياء التي يطالب البعض ضالا أو/ومضللا بالتمسك بها فإني ابسط هنا نصين: واحد قديم يعود إلي الستينات لمحمد حسنين هيكل، وآخر حديث لأمين سر البعث اليمني، وعضو القيادة القومية البعثية في العراق قاسم سلام، يتيح النصان مقارنة عقلية لفهم (البعث) الفكرة والممارسة.

محمد حسنين هيكل والبعث

كتب هيكل في إحدى مقالاته المشهورة التي كانت بعنوان (بصراحة) حديثا طويلا بعد زيارة لروما وقد زوده سفير مصر وقتها بكتاب عن الفاشستي الأشهر موسيليني، أوحت لهيكل كما قال القيام بمقارنة بينه وحزبه من جهة، وحزب البعث وقيادته من جهة اخرى وكتب ما يأتي:

وراحت الحوادث تتتابع في بغداد وفى دمشق وتفتت في سرعة مذهلة تجربة دولة البعث التي فلسفها ميشيل عفلق ورسم إطارها وأراد لها الحياة على أرض المشرق العربي، وتصور أنه ضمن لها الحماية بتنظيمات الحرس القومي الذي يعيد إلى الأذهان - هو الآخر - شكل المليشيا الفاشستية المسلحة التي أنشأها موسيليني لتدعم نظام حكمه وترهب معارضيه. ومن مفارقات القدر أن الحرس القومي لم يستطع أن يحمى ميشيل عفلق، أو الحزب في بغداد، بمقدار ما المليشيا الفاشستية لم تستطع أن تمنع سقوط موسيليني ونظامه في روما.

ثم يذهب الأستاذ هيكل لمقارنة مطولة بين حكم البعث وحكم الفاشست فيقول (وانقل باختصار) هناك عشرات الأسباب... إن لم أقل مئاتها من التماثل بين الحزبين مثلا ان الفاشستية كانت الأصل، والبعثية كانت التقليد الرخيص! ومثلا ان الفاشستية في مطلع العشرينات كانت شيئا جديدا براقا لكنها في مطلع الأربعينات كانت بقايا مستهلكة من مخلفات الحرب!

خطف (عفلق) شعارات الحركة الفاشستية الأولى ولم يسائل نفسه في ضباب المطامع إلى أين وصلت بأصحابها؟

وأخطر من ذلك أن حزب البعث قفز إلى السلطة غصبا وخداعا في جزء من الوطن العربي، في ظروف اجتماعية تختلف عن الظروف التي بدأ فيها الحكم الفاشستى في إيطاليا.

مقال هيكل طويل، وقد كتب إبان الصراع العربي - العربي وله ظروفه، ولكن النتائج تبدو كأنها تعيد نفسها بعد سقوط بغداد، والمحزن أن البعض لايزال يعتقد بأن هذا النوع من الحكم الفاشي فاقد الأجندة السياسية الذي يمكن مجموعة من الأفراد من ذوي القربى من اختطاف الحكم وتأليه النفس، وإفقار الوطن تحت شعارات براقة للعامة، يمكن أن يكون له مكان في بداية عصر سريع يعج بالمتغيرات، ولكن البعض لايزال يحاول، فقد نشر أخيرا لقاء مطول مع (عضو القيادة القومية، وأمين سر البعث اليمني) قاسم سلام، وقد كان في بغداد أيام حرب تحرير العراق، ثم عاد منها، وقد خلت أن سلام ربما كان تحت تأثير (التخزين) عندما قال ما قال، ومما قاله، (وانقل باختصار)

قاسم سلام... كم أنت رائع سيدي!

(كنا تصورنا أن العرب سيحترمون قرارات القمم الثلاث، قمة شرم الشيخ وقمة بيروت وقمة القاهرة، وكان الرئيس صدام حسين يشعر أن المعركة غير متكافئة، لكنه كان واثقا بالنصر على أرض العراق، كان يقول سننتصر نحن بالصمود وسيخسر الأميركان هذه المعركة)!

ثم يكمل... (كنا في الأسبوع الأول والثاني نشعر أن الأميركان والبريطانيين سيخسرون الحرب، فالأميركان والبريطانيون عندما أوقفوا المعارك مدة أسبوع كانوا في حال عجز، والمقاومة العراقية تزداد، وبدأت الحالات الاستشهادية في العراق ترعبهم، وبدأت أعداد الأسرى والقتلى والجرحى من الأميركيين والبريطانيين تتصاعد، وبدأت مستشفيات ألمانيا وأثينا وقبرص وباريس تستقبل ما عجزت عنه المستشفيات المتنقلة، وكانت الإنزالات الأولية في بغداد تعالج فورا من قبل الفدائيين العراقيين الذين شكلوا أسودا كاسرة وكانت الدبابات الاميركية عندما تصل إلى أرض بغداد تحرق فورا وكانت ناقلات الأفراد التي تنزل من الطائرات أول ما تلامس الأرض تدمر).

ثم يكمل... (وعندما قام صدام حسين في اليوم الثاني بتصفية المطار وأبوغريب ورجع على جسر نفق الشرطة وسط بغداد باتجاه المنصور في حي الجامعة وصفى الدبابات الاميركية التي كانت هناك وعددها 3 دبابات وصفى أيضا 6 دبابات كانت في ساحة الاحتفال... بعدما سيطرت على الجسر الجمهوري ومنه احتلت فندق فلسطين، وعمل القائد الاميركي مؤتمره الصحافي يوم 7 نيسان/أبريل وقال سيطرنا، فهذه هي حال السقوط لمدينة بغداد، لأن الاميركيين خافوا من ارتفاع معنويات الحرس الجمهوري العراقي، بعدما صفوا المطار وبعدما صفوا أبوغريب، على رغم أن الجيش العراقي كان - عمليا - لايزال لم يشترك في الحرب، وكانت الصواريخ العراقية مكدسة في البساتين كأنها جذوع النخيل، وكان صدام دقيقا إلى درجة أنه استطاع أن يموه على الجواسيس وعلى الأقمار الاصطناعية بأماكن وجودها وبأماكن وجود جيشه الذي خبأه بين النخيل، في حين كان الأميركان يبحثون عن الجيش العراقي في المعسكرات) ثم يقول في النهاية:

(إنها خيانة الحرس الجمهوري (التي) أسقطت بغداد)!

إذا كان قاسم يعتقد بما يقول فإن عقلاء العرب لم يعطوا عقولهم إجازة بعد، ولكنها عقلية تميزت عن غيرها بإحلال (الكلام عن الانتصار) محل ( الفعل) وهي عقلية دمرت جزءا عزيزا من عالمنا العربي فالبعثية ليست مجموعة من البشر فقط، ولكنها عقلية فيها من التمني والخيال ما يؤكد مفارقتها للواقع، وفيها من جهل الإنسان وتجهيله ما لا يتوافق مع العالم الذي نعيش، وهو ما يؤكد (فاشية المعرفة والسلوك) لدى قيادات أصرت أن تعيش بعيدا عن الحقيقة، إلا أن تلك الأفكار مع الأسف مازالت تعيش بيننا، وتغذيها مدخلات فكرية ومصالح خاصة ومواقف مشوهة من العالم. إن قاسم سلام يتحدث عما يراه في خياله من جرحي وقتلى، وما في الخيال الشعبي من قيادة (تعطل دبابات هنا وتقتل جنودا هناك)! وتبرير الهزيمة (بالخيانة) جاهز في مفردات البعث، ويريد تفعيل قرارات قمم عربية كان النظام العراقي أول من انتهكها! ولم ير الحقيقة البسيطة القائلة إن الشعوب المضطهدة لا تدافع عن مضطهديها، وقد يأتينا هذا الفكر أو ما يجاوره بأفدح مما ارتكبه حتى الآن من مصائب

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 249 - الإثنين 12 مايو 2003م الموافق 10 ربيع الاول 1424هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً