العدد 1582 - الخميس 04 يناير 2007م الموافق 14 ذي الحجة 1427هـ

الأصول الايديولوجية للنخبة الشامية

بلاد الشام تدخل عصر دول الطوائف (4)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في ظل الفضاءات الدولية نجحت النخبة الشامية في توليد أنماط من التفكير المعاصر تميز بنوع من الخصوصية الثقافية. وشكلت هذه الخصوصية مدارس متنوعة خلطت الكثير من المناهج البحثية بانتماءات محلية متوارثة. فالنخبة كانت أوروبية في وعيها وشرقية في تكوينها الاجتماعي. وهذا الخلط بين وعي يعتمد على فلسفات أوروبية وتاريخ متسلل من الطوائف والمذاهب والمناطق أسهم في تشكيل نواة ايديولوجية «حديثة» في لغتها ومفرداتها ومصطلحاتها ومناهجها و»متخلفة» في أهدافها وغاياتها. وشكل هذا التعارض بين الفكرة والواقع أزمة سياسية للنخب الشامية وعطل عليها لعب الدور التاريخي بسبب تعثرها الايديولوجي وعدم قدرتها على توظيف أفكارها في مشروع أو هيئة كما كان أمر النخبة المصرية أو المغاربية في القرن التاسع عشر.

النخبة المصرية كانت مختلفة عن الشامية في موقعها ودورها بسبب اختلاف نموها. فهي تأسست من فرعين الأول تقليدي يتصل بجامع الأزهر وشبكته الأهلية من مدارس (كتّاب) ومساجد المدن والريف. والثاني حديث يتصل بالدولة وشبكة علاقاتها الممتدة في المؤسسات والأجهزة التابعة للباشا (محمد علي). وبسبب اختلاف نشوء النخبة المصرية (الطهطاوي مثلا) أو المغاربية (خير الدين التونسي مثلا) عن تكوين النخبة الشامية تميزت الأولى عن الثانية بدور خاص حين وجدت أن وظيفتها مشروطة بعلاقاتها مع الدولة. فالدولة في مصر أو تونس مثلا كانت المصب الوحيد المتاح لنشاط النخبتين بينما الدولة في بلاد الشام لم تكن موجودة كقوة مركزية وإنما كانت مجموعة هيئات لامركزية على نمط الملل والنحل ومتفرعة على المناطق. وبسبب تعارض وظيفة النخبة الشامية عن وظيفة النخبة المصرية (والمغاربية إلى حد معين) تشكل في بلاد الشام (وتحديدا في جبل لبنان) ذاك المثقف العضوي الذي يحمل الأفكار التقدمية ولكنه محكوم بذاك الرابط غير المقدس مع طائفته أو مذهبه أو منطقته.

غياب الدولة (المركز) في بلاد الشام عطل على النخبة القيام بدورها التاريخي ومالت إلى تشكيل أفكار أكثر من تكوين برامج. النخبة المصرية مثلا كانت توظف أفكارها في الدولة من خلال ابتكار البرامج واقتراح الخطط والمشروعات بينما النخبة الشامية كانت تضخ تلك الأفكار في سياق فضاءات ايديولوجية تؤسس من خلالها الهيئات والجمعيات والأحزاب. وبسبب هذه المعضلة التكوينية اتجهت أفكار المثقف الشامي (الطائفي/ المذهبي) إلى الايديولوجيا بينما تركزت أفكار المثقف المصري على تصورات تنظيمية تبحث في الواقع وتعمل على تطوير العلاقة بين الدولة والمجتمع.

هذا جانب من أزمة النخبة الشامية. الجانب الثاني يتمثل في تاريخ التأسيس. ففي مصر تأسست النخبة المعاصرة المنافسة للنخبة التقليدية بتشجيع ورعاية وضمانة وحماية من الدولة مباشرة. فالباشا كان يختار البعثات ويرسلها تباعا إلى إيطاليا وفرنسا وفق خطة منهجية ومبرمجة. وحين تعود البعثات من الخارج كان الباشا يعيد توظيفها في مؤسسات وهيئات تابعة للدولة محاولا الاستفادة من علومها ومعارفها وتجاربها لبناء مشروع حديث يتصل مباشرة بطموحاته السياسية والعسكرية.

أما في بلاد الشام (وتحديدا في جبل لبنان) تأسست النخبة وفق مناهج مختلفة تحكمت في برامجها الإرساليات الأجنبية. وهذا ما أدى لاحقا إلى نشوء تصورات متخالفة في منابعها ورؤيتها بسبب تخالف المدارس التي أشرفت على تربية أجيال وفق نمطية دينية وسلوكيات أوروبية لا تتوافق كثيرا مع الموروث الاجتماعي والتقاليد المشرقية. فالنخبة كانت في أساس تكوينها مزدوجة الهوية ومن دون وظيفة عمرانية ، الأمر الذي جعلها تعتمد على تفريغ طاقاتها بالايديولوجيات وصراع الأفكار.

بدأت الإرساليات الأجنبية (الأوروبية ثم الأميركية) نشاطها في جبل لبنان قبل نشوء دولة محمد علي في مصر بنحو قرن تقريبا. واستفادت تلك الإرساليات من تلك المظلة التي وفرتها السلطنة العثمانية على إثر توقيعها تلك الاتفاقات التي تعطي الدول الأوروبية (وتحديدا فرنسا) امتيازات تجارية وعلاقات خاصة مع المجموعات الأهلية غير المسلمة.

إرساليات وحركات تبشير

تحت ذاك الغطاء السياسي / القانوني باشرت الإرساليات نشاطها التربوي. فبدأ اليسوعيون يتحركون في القرن الثامن عشر في المشرق العربي ونجحوا في تأسيس مدرسة عينطورة في كسروان سنة 1734. وبعدها دخل الرهبان العازاريون على الخط وأخذوا بالمنافسة فتراجع دور اليسوعيين ليعود مجددا بعد مئة عام بسبب ظهور قوة تبشيرية جديدة ارتبطت بالحركة البروتستانتية في أميركا.

أخذ المبشرون الأميركيون من البروتستانت ينشطون منذ العام 1820 واتسع نفوذهم بين 1840 و1850 الأمر الذي أزعج السلطنة العثمانية فعزمت على إخراجهم من المشرق العربي. ولكن الخارجية الأميركية رفضت الانصياع فاضطرت السلطنة إلى التراجع وأقدمت في الآن على تشجيع فرنسا على الدخول كطرف منافس للولايات المتحدة.

وتحت هذا السقف الدولي/ العثماني دخل الفرنسيون (الكاثوليك) في صراع تربوي/ ثقافي مع الولايات المتحدة وبريطانيا (البروتستانت) فتأسست المدارس والمعاهد والجامعات وفق برنامجين الأول يسوعي/ كاثوليكي، والثاني انجليكاني/ بروتستانتي.

لم يقتصر الصراع الثقافي/ المذهبي على الدول الأوروبية وإنما دخلت على خطها دولة الفاتيكان حين أوعز البابا غريغوريوس السادس عشر على تأسيس مدارس (إرساليات) وشجع اليسوعيين منذ العام 1831 على المجيء إلى بلاد الشام لوقف الأنشطة البروتستانتية أو منافستها. وهكذا انتشرت في جبل لبنان وفلسطين عشرات المدارس التعليمية/ الدينية، إذ بلغ عدد الإرساليات الأميركية في بلاد الشام آنذاك 174 مدرسة مقابل 38 مؤسسة تربوية تمولها مدارس انجليزية واسكتلندية وايرلندية وألمانية وسويدية ودنماركية.

اقتصرت برامج الإرساليات بداية على تدريس الكتب الدينية (الإنجيل والتوراة) لتأسيس ما عرف لاحقا بالروح السياسية. ولعبت هذه «الروح» دورها في تكوين ايديولوجيا مغايرة لتاريخ المنطقة وحضارتها وأسست نواة أفكار معاصرة تتعارض في جوهرها مع الثقافة الموروثة.

على خط مواز للإرساليات (المدارس) نشطت حركات تبشيرية في منطقة بلاد الشام وعمدت على نشر توعية دينية تقوم على ثلاثة أهداف: الأول تثقيف المسيحيين وتعليمهم وتدريبهم. والثانية تنصير بعض العائلات المسلمة من خلال البعثات في الخارج وإعادة التأهيل والتوظيف في الشركات والمؤسسات بعد العودة. والثالثة تنصير اليهود ومحاولة تجميعهم في فلسطين.

شكلت الأهداف الثلاثة نقاط توتر سياسية في مراحل لاحقة لأنها شجعت أقليات غير مسلمة على البحث عن هوية لا تنسجم مع الموروث التاريخي. وكذلك شجعت الكثير من الأسر المسلمة على تغيير دينها مقابل مواقع ومكاسب. وأخيرا وهذا الأخطر أيقظت المشروع الصهيوني وأسست له منافذ ايديولوجية للعبور إلى المنطقة.

فكرة تجميع اليهود في فلسطين والعمل على تنصيرهم بدأت حين تأسست في العام 1809 «الجمعية اللندنية». وعندما قام إبراهيم باشا بحملته على فلسطين وبلاد الشام تحركت الإرساليات ونشطت حركات التبشير وقامت «الجمعية اللندنية» في وضع حجر الأساس لما أسمته «كنيسة صهيون»، وهي تعتبر أول كنيسة بروتستانتية في السلطنة العثمانية. إلا أن هذا المشروع التأسيسي انهار حين انسحبت قوات إبراهيم باشا من بلاد الشام في العام 1840.

بعد هذه الخطوة جرت محاولة ثانية حين أقدم ملك بروسيا (ألمانيا) فريدريك ويلهام الرابع (1840-1861) على تأسيس الأسقفية الانجليزية - البروسية في القدس لتكون مركزا بروتستانتيا بذريعة إصلاح الكنائس وتنصير اليهود. وبعد فترة وجيزة ازدهرت الجمعيات التبشيرية في فلسطين وجبل لبنان ليبلغ عددها 27 مدرسة من مختلف الجنسيات الأوروبية.

في ظل هذه الفضاءات الدولية وما شهدته من منافسات ايديولوجية/ دينية بين المؤسسات الكنسية في أوروبا وبعثات التبشير والتعليم وصولا إلى دخول الولايات المتحدة على خط التزاحم ، تشرذم وعي النخبة الشامية لأنه أساسا تربى ونشط في إطار ثقافي منقسم في تكوينه الاجتماعي وغير موحد في أهدافه. فالولاءات كانت موزعة على منابت فكرية وفلسفية متباينة في مصادرها وأصولها. وبسبب اختلاف التأسيس النظري بين فئة درست في معهد ألماني أو فئة درست في معهد فرنسي أو انجليزي أو إيطالي أو أميركي وبين فئات تعلمت في مدارس إسلامية تقليدية تشكلت في بلاد الشام وتحديدا في فلسطين وجبل لبنان أوعية متنوعة في مناهج البحث والتفكير اختلفت لاحقا على تحديد هوية جامعة ومشتركة للمنطقة وكذلك تباينت رؤاها في قراءة التاريخ والمستقبل.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1582 - الخميس 04 يناير 2007م الموافق 14 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً