العدد 1588 - الأربعاء 10 يناير 2007م الموافق 20 ذي الحجة 1427هـ

إرنستو جيفارا

لن تجد صورة أزهى من صورة جيفارا على قمصان الفتية، سواءٌ أكانوا يساريين أم خارج نطاق السياسة أصلا، جيفارا المناضل الكوبي أو «تشي» كما يحلو للبعض تسميته هو رمز دعائي بامتياز. لكن قلة من الناس أيضا - وخصوصا من يتباهون بصوره على ملابسهم - يعرفون سيرته، حتى لمحاتٍ مختصرة عن شخصيته المثيرة. جيفارا هو «كوبي» الأصل أرجنتيني المولد، يعتبر شخصية ثورية فذّة في نظر الكثيرين. يساري محبوب. درس الطب في جامعة بوينيس آيريس وتخرج العام 1953، وكانت رئته مصابة بالربو، ولم يلتحق بالتجنيد العسكري بسبب ذلك. قام بجولة حول أميركا الجنوبية مع أحد أصدقائه على متن دراجة نارية وهو في السنة الأخيرة من الطب وكونت تلك الرحلة شخصيته وإحساسه بوحدة أميركا الجنوبية وإحساسه بالظلم الكبير من الدول الإمبريالية للمزارع الأميركي البسيط.

توجه بعدها إلى غواتيمالا، حيث كان رئيسها يقود حكومة يسارية شعبية، كانت من خلال بعض التعديلات في شئون الأرض والزراعة تتجه نحو ثورية اشتراكية. وكانت الإطاحة بالحكومة الغواتيمالية العام 1954 بانقلاب عسكري مدعوم من قِبل وكالة الاستخبارات الأميركية، قد تركت لدى جيفارا رؤية للولايات المتحدة بصفتها الدولة الإمبريالية المضطهدة لدول أميركا الجنوبية التي تسعى إلى تبني النظام الاقتصادي الاشتراكي، فحاول القيام بثورة في زائير إلا أن عدم تعاون الثوار الأفارقة، وحاجز اللغة حطما آماله الثورية في القرن الإفريقي.

قتل جيفارا في بوليفيا أثناء محاولة تنظيم ثورة على الحكومة هناك، وتمت عملية القبض عليه بالتنسيق مع المخابرات الأميركية، إذ قامت القوات البوليفية بقتله. وقد نشبت أزمة بعد عملية اغتياله، وسميت بأزمة «كلمات جيفارا» أي مذكراته. وقد تم نشر هذه المذكرات بعد اغتياله بخمسة أعوام وصار جيفارا رمزا من رموز الثوار على الظلم.

أعدم هذا الثوري الأرجنتيني بالرصاص في لا هيغويرا بغابة فالي غراندي في بوليفيا، في 9 أكتوبر/ تشرين الأول العام 1967. ونشر العميل السابق في جهاز المخابرات الأميركية (CIA) فليكس رودريغيس صورا من لحظات إعدامه. وتظهر الصور كيفية أسر جيفارا، وكيفية استلقائه على الأرض، وكيف أن عينيه كانتا شبه مغلقتين ووجهه المورم والأرض الملطخة بدمه بعد إعدامه. كما تنهي الصور كل الإشاعات بشأن مقتل جيفارا أثناء معارك طاحنة مع الجيش البوليفي. وكشف رودريغيس النقاب عن أن أيدي جيفارا بُتِرت للتعرف إلى بصمات أيديه.

كره جيفارا اتكال الثورة الكوبية على الاتحاد السوفياتي، واستمر في ابتكار وسائل أخرى للحصول على التمويل وتوزيعه. ولأنه الوحيد الذي درس فعلا أعمال كارل ماركس بين قادة حرب العصابات المنتصرين في كوبا، فإنه كان يحتقر البيروقراطيين ومافيا الحزب الذين صعدوا على أكتاف الآخرين في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، وفي كوبا أيضا.

جيفارا مثل كثيرين في الحركة الناشئة لليسار الجديد حول العالم، خاض تجربته الأولى مع بيروقراطية الحزب الشيوعي، ومقت محاولاتهم فرض بيروقراطيتهم على الحركات الثورية للسكان الأصليين. اصطدم احتقار جيفارا كهنوت الماركسية الرسمي (بينما كان يعتبر نفسه ماركسيا)، واحتقاره البيروقراطيين من كل لون بالنزعة الاقتصادية الميكانيكية المخدرة التي صارت عليها الماركسية. ببساطة، «الثورة» عند جيفارا واليسار الجديد تقهقرت إلى خلفية الأجندة التاريخية.

أممية جيفارا وارتباطه المميز بالفقراء والمنبوذين في كل مكان، ورفضه الاعتراف بقداسة الحدود القومية في الحرب ضد إمبريالية الولايات المتحدة، ألهمت الحركات الراديكالية الجديدة في العالم كله. نادى جيفارا الراديكاليين بقوله: «لنحول أنفسنا إلى شيء جديد، أن نكون أناسا اشتراكيين قبل الثورة، هذا إذا ما كان مقدرا لنا أن يكون لدينا أمل في أن نحقق فعلا الحياة التي نستحق أن نعيشها». وكان نداؤه «أن نبدأ العيش بطريقة لها معنى الآن».

بالنسبة إلى جيفارا، القاعدة الماركسية الأساسية: «من كل بحسب قدرته إلى كل بحسب احتياجه»، لم تكن ببساطة شعارا للمدى الطويل ولكنها ضرورة عملية ملحة يجب تطبيقها على الفور. العراقيل المضنية لتطوير بلد صغير - أو محطة إذاعية! - طبقا لقواعد اشتراكية، وعلى الجانب الآخر، العراقيل الخاصة في سياق هجوم الإمبريالية الأميركية المستمر (على شكل حصار ومقاطعة، وغزو، وتهديد بحرب نووية، وتحرشات اقتصادية وايديولوجية)، كل ذلك كان يصارع ضد رؤية جيفارا وضيق اختيارات المجتمع الثوري لبدائل يبدو أحلاهما «مر».

في خضم هذه الضغوط المتعارضة، حاول جيفارا وضع مقاييس مختلفة لكوبا خصوصا، والإنسانية عموما. أدار جيفارا عملية توزيع ملايين الدولارات التي حصل عليها من الاتحاد السوفياتي بصفته وزيرا للمالية، على الفنانين، والفلاحين الذين يعيشون في فقر مدقع.

استشاط البيروقراطيون الروس غيظا من اتجاه جيفارا القائل بـ «خذ ما تحتاج إليه، ولا تشغل بالك بكيفية سداده». فقد نبهوا فيدل إلى ضرورة السيطرة على جيفارا وشددوا على ضرورة إصدار لوائح لتنظيم التوزيع «الأمثل» للتمويل، وهو ما حدث بالضبط بعد 20 عاما تحت حكم برجنيف.

وفي العام 1959 اكتسح رجال حرب العصابات - برئاسة فيدل كاسترو - هافانا واسقطوا الدكتاتورية العسكرية لفولغنسيو باتيستا. وكان جيفارا هناك في منصب رئيس بنك كوبا الوطني، جعل جيفارا الأوراق النقدية الكوبية مشهورة عندما كان يوقع عليها بكلمة «تشي». وكان السؤال الأول الذي سأله جيفارا موظفيه عندما تولى إدارة المصرف: «أين تودع كوبا احتياط ذهبها ودولاراتها؟» وعندما أخبروه: «في فورت نوكس»، بدأ مباشرة تحويل احتياط الذهب الكوبي إلى عملات غير أميركية.

لم يكن اهتمام جيفارا منصبا على تطوير مؤسسات مصرفية «كمحلل» في كوبا، ولكن اهتمامه انصب على شيئين: محاربة الإمبريالية الأميركية، مثل إبعاد ذهب الثورة عن مخالب حكومة الولايات المتحدة، واهتم أيضا بإيجاد سبل بناء وتمويل خلق إنسان اشتراكي جديد من دون الاعتماد على الآليات الرأسمالية، التي فهم أنها ستنتهي بتدمير أروع الجهود.

وضع جيفارا وجهة نظره بأروع ما يكون، والذي جرى أيضا أنها أصبحت أفكار اليسار الجديد دوليا، في خطاب عن «الطب الثوري» فقال: «زرت لحد ما، كل بلاد أميركا اللاتينية، ماعدا هايتي وسانتو دومينغو. وكانت الظروف التي أحاطت بترحالي - في المرة الأولى كطالب، وفيما بعد كطبيب - سببا في تعرفي عن قرب إلى الفقر، والجوع، والمرض؛ بالعجز عن علاج طفل بسبب الحاجة إلى المال؛ بظلام العقول الذي يخلقه الحرمان المستمر والمعاملة القاسية، لتلك الدرجة التي يستطيع الأب فيها أن يقبل موت أحد أبنائه كأمر عادي غير مهم، كما يحدث غالبا في الطبقات السفلى في أميركا موطننا الأم. بدأت وقتها إدراك أن هناك أشياء كانت في الأهمية بالنسبة إلي مساوية لأن أصبح عالما مشهورا أو مساوية لتقديمي مساهمة كبيرة في العلوم الطبية: أدركت أني أرغب في مساعدة هؤلاء الناس».

حب جيفارا للناس أخذه أولا إلى الكونغو ثم بوليفيا، حيث نظم فرقة من رجال حرب العصابات لتكون عاملا مساعدا على الإلهام بالثورة.

ومن جديد كان على جيفارا أن يصطدم بالماركسية الرسمية، فدخل هو ورئاسة الحزب الشيوعي البوليفي في كفاح على قيادة رجال حرب العصابات. كان السؤال: «من الذي يجب أن يضع سياسة حرب العصابات، جيفارا ورجال حرب العصابات أنفسهم أم رئاسة الحزب الشيوعي؟». ذهبت أصوات رجال العصابات إلى جيفارا، وربما كانت هذه هي المرة الوحيدة التي تورط فيها جيفارا في انتخابات. فور انتصار جيفارا على ممثلي الحزب الشيوعي في الانتخابات هجّر الحزب الشيوعي حركة العصابات. وكان فشل رجال العصابات في بوليفيا في أن يصبحوا جزءا من حركة اجتماعية متعددة الرؤوس، الطريق إلى حتفهم. وكان جيفارا في أيامه الأخيرة في حال يرثى لها من الحزن والسخط على عدم قيام الطبقة العاملة في المناجم بانتفاضتها، التي كان يأمل في أن يكون حافزا لها.

في بوليفيا صيف العام 1967، تم التقاط رجال حرب العصابات واحدا تلو الآخر. أجبر جيفارا والرجال الباقون على التعامل مع الحقيقة على الأقل في بوليفيا في تلك اللحظات، وهي أن استراتيجيتهم في العمل على تحفيز انتفاضة ثورية قد فشلت.

ومع إرسال حكومة الولايات المتحدة - تحت رئاسة الديمقراطي ليندون جونسون - «مستشاريها» العسكريين والأسلحة إلى القيادة العسكرية البوليفية، أصبح الأمر مجرد مسألة وقت، لا يتعدى الأشهر القليلة، قبل أن يهزم الكفاح هزيمته النهائية، ويتم استئصال جيفارا ورفاقه.

ليست الصورة الحقيقية لجيفارا هي صورته التي نراها في البوسترات، لكنها صورة رجل نذر نفسه للفقراء في العالم كله، محاولا مع عصبة من الرجال المسلحين إشعال فتيل انتفاضة ثورية يقوم بها الفلاحون والعمال لخلق حياة أفضل يعيشونها، صورة رجل يقابل إحباطا وراء الآخر مع مصادفة بعض انتصارات قليلة بعيدا عن الانتصار الهائل للثورة الكوبية نفسها.

وقع جيفارا في الأسر و تمت ممارسة التعذيب عليه وقتل في بوليفيا في 9 أكتوبر / تشرين الأول العام 1967.

العدد 1588 - الأربعاء 10 يناير 2007م الموافق 20 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً