العدد 1588 - الأربعاء 10 يناير 2007م الموافق 20 ذي الحجة 1427هـ

أزمة عائلة مسلمة تنتقل من مكـان إلى عصـر آخر

فيلم «صباح» الكندي - السوري

«صباح» شريط سينمائي كندي يتحدث عن فتاة سورية تعيش أزمة علاقة في المجتمع الذي انتقل إليه والدها مع الأسرة بحثا عن إقامة عمل في بلاد الاغتراب. الفيلم يستخدم اللغتين الإنجليزية والعربية في الحوار. وهذه اللفتة ذكية لأنها تشير إلى تلك الازدواجية التي تعاني منها أسرة متمسكة بتقاليدها وثقافتها في بلد غريب يحمل ثقافة مغايرة وينتهج تقاليد مخالفة لتعاليم الإسلام. هذه الازدواجية في استخدام اللغة تعكس في النهاية ازدواجيات مختلفة الأوجه والمستويات بين الحجاب ورؤية العالم الآخر للمرأة المسلمة، وبين عادات تتصل بثقافة تقليدية ومنهج حياة معاصرة تعاكس الكثير من المفاهيم التي نمت في ظلها الأسرة. وتحت سقف هذه «الثنائيات» يركز مخرج الفيلم على «صباح» وهي تلك الابنة اللطيفة التي ضحت بحياتها من أجل سعادة أسرة والدها من خلال الاهتمام بوالدتها المريضة التي تعاني من العزلة بعد رحيل زوجها.

«صباح» في الفيلم هي مركز الموضوع، فهي الفتاة المحجبة والمكلفة بالاهتمام بشئون المنزل وتلبية حاجاته اليومية. وبسبب مهمتها هذه كانت تعاني الحرمان نظرا إلى ابتعادها عن الحياة العامة وما يتفرع عنها من متطلبات. فهي دخلت سن العنوسة وأصبحت تعيش حالات فراغ وقلق وخوف. وبسبب هذا التعارض بين واجباتها المنزلية وحاجاتها الطبيعية والإنسانية دخلت فترة توتر لا تعرف الاتجاه الصحيح الذي يجب أن تسلكه للمحافظة على واقعها وتلبية متطلباتها من زواج وإنجاب وبناء أسرة مستقلة.

فيلم «صباح» متنوع الوجوه والاهتمامات. فهو لا يركز على المحجبة في بلد أجنبي وإنما يتخذ منها مثالا للانطلاق نحو طرح مشكلة أكثر تعقيدا وتتجاوز مسألة الحجاب. فالشريط السينمائي يشير إلى إشكال العلاقة بين ثقافة عائلة انتقلت معها بالطائرة في رحلة تمتد إلى ثماني ساعات إلى بلد آخر يختلف عن الأصل في المناخ والحياة والعادات والتقاليد وقواعد التربية والمسلكيات الاجتماعية واليومية. وفي الحقيقة تعتبر هذه المشكلة عامة وتتجاوز حدود مسألة أسرة مسلمة. فكل الأسر التي انتقلت فورا من مناطق إقاماتها في الهند أو الصين أو كوريا أو أميركا اللاتينية أو إفريقيا تعاني من تلك الإشكالات الناتجة عن انخلاع العائلة من جذورها وشجرتها وتربتها والذهاب بعيدا إلى عالم مجهول بحثا عن العيش أو للعمل في منطقة لا تنسجم بالضرورة مع تلك المفاهيم المنقولة من مكان مختلف.

الأزمة إذا ليست في الحجاب وإنما في اختلاف الثقافة وهي تولد عادة تلك الصدمة «الحضارية» بسبب التفاوت في التكوين الاجتماعي لأسرة ما عاشت في بلد واضطرت لأسباب مختلفة الانتقال بالطائرة إلى مكان بعيد في بضع ساعات. هذه الساعات ليست كافية لإحداث التغير والتبدل وخصوصا إذا كانت أصول الأسرة ريفية وانتقلت فورا من القرية إلى مدينة كبيرة وغريبة من دون المرور في المدينة العربية. مثل هذه القفزة الجغرافية تشكل بطبيعة الحال صدمة للأبناء وكذلك للآباء. فكل الأمور مختلفة من اللغة والدين واللباس والطعام والشراب إلى المفاهيم والعادات والتقاليد والسلوك والنظرة إلى الحياة... وأخيرا وهذا هو المهم في موضوع فيلم «صباح» علاقة الرجل بالمرأة.

إشكال التعارف وما يرافقه من اتصال وتفاهم وعقد قران وانتقال من بيت إلى آخر شكّل نقطة محورية في حياة «صباح» التي تلتقي مصادفة مع رجل في بركة سباحة. اللقطات فعلا موفقة لأنها عكست حالات الإرباك والخوف والقلق وتوتر الأعصاب والاندهاش من فعل الأحاسيس الأولى وربما الفزع والإحساس بالذنب من وجود رجل في مسبح.

الفيلم إذا عن علاقة امرأة مسلمة (محجبة) برجل كندي (مسيحي). ومن خلال هذا المدخل العام يتطرق الشريط السينمائي إلى كل المعضلة ويسرد حياة تلك الأسرة التي رحل راعيها تاركا للشقيق الكبير تدبير أمورها. الشقيق قام بواجباته ونجح على مستوى تأمين المسكن والعناية بوالدته وتغطية نفقات العائلة من تركة الوالد وما وفره من أموال وودائع.

المشكلة ليست إذا في سلوك الأخ الكبير المسئول عن إدارة شئون أسرة والده الراحل. فالشقيق تحمّل واجباته وأكثر من طاقته ولكنه بالغ في الإشراف على تفصيلات الحياة اليومية إلى درجة التدخل في مسلكيات شقيقاته.

هذا الأخ الأكبر ليس سيئا في حضانته للأسرة ولكنه شكّل قوة ردع للفصل بين المتطلبات الأخرى وما تقتضيه متطلبات بلد مختلف في ثقافته وسلوكه. فهو مثلا يريد الزواج ولكنه لا يستطيع ترك مسئولية إشرافه على أسرة والده والانتقال للسكن في بيت مستقل. وأمه المريضة تحتاج إلى عناية ورقابة وهذا ما تكفلت به «صباح». وشقيقته الكبيرة تزوجت وأنجبت ابنة أصبحت في سن الزواج.

وتحت كل هذه الطبقات الأسرية تحصل حوادث القصة. فالأخ يريد تزويج ابنة شقيقته بطريقة تقليدية وترفض الفتاة «الكندية» فكرة الزواج المدبر أو المرتب من دون علمها. والأخ أيضا يريد من شقيقته أن يقتصر دورها في العناية بوالدته من دون انتباه لشخصيتها وحاجاتها وقلقها على مستقبلها.

وبسبب هذا الإشكال المفروض قسرا على أسرة قيّض لها أن تعيش في بلد الاغتراب تدخل الفتاة المحجبة في علاقة ملتبسة مع «الكندي» ولكن تلك الصلة وصلت في النهاية إلى الحقيقة وهي ضرورة الزواج. المحجبة ضائعة فهي تريد عقد القران ولا تريد، تخاف من قول الحقيقة خوفا من ردة فعل شقيقها وتتردد في قطع العلاقة حتى لا تفوتها الفرصة. اللقطات هنا أيضا موفقة لأنها تدخل في تفصيلات الحيرة والارتباك والقلق وعدم المقدرة على كشف الحقيقة.

الشاب الكندي كان في غاية اللطف والنبل والتقدير. فهو متزوج وطلّقته زوجته ويعاني بدوره من العزلة ويمارس مهنة النجارة ويعيش في منزل قريب من حي الأسرة المسلمة. وهو أبدى استعداده لتغيير دينه والذهاب إلى شقيقها وعرض الزواج عليها وفق الشرع الإسلامي والتقاليد الدينية. فالشاب منضبط ومستعد للتجاوب مع كل طلبات ورغبات حبيبته ولكن «صباح» ترددت وتخوفت ولم تقتنع بفكرة التعارف لسبب بسيط برأيها وهو أنها أصلا لا يجوز لها الاختيار وكذلك لا يجوز لها مخالفة الأعراف والوقوع في غرام رجل قبل الزواج.

فيلم «صباح» فعلا يسرد حكاية ولكنها واقعية وتتكرر يوميا في بلدان أوروبا وأميركا. وهناك الكثير من القصص المتشابهة التي تتحدث عن مصاعب ومصائب أولاد أسر لا ذنب لهم ولا يتحملون مسئولية التعارض بين ثقافة (لغة، دين، عادات) انتقلت فجأة ومن دون تجارب سابقة من مكان إلى آخر. و»صباح» هي مثال على نماذج متفاوتة ومختلفة ولكنها في النهاية تشترك في طرح إشكال العلاقة بين حضارتين وما تعكسه من أزمات اجتماعية لا تنتهي ولكن الأهم فيها علاقة الرجل بالأنثى. وأبرز ما في تلك الأزمات هي زواج امرأة مسلمة محجبة من رجل أجنبي مسيحي.

الشريط السينمائي يطرح ذلك الإشكال من خلال أسئلة خفية وتصرفات قلقة تصدر عن «صباح». فهل الحجاب هو عازل يفصل المرأة عن الرجل، أم قوة تعطي الفتاة ثقة بالنفس وتعزز مكانتها في العلاقة مع الآخر؟ وهل الحجاب عقبة لصد الرجل ويقوم بوظيفة الجدار الذي يمنع التواصل والاتصال أم أنه يتمتع بدور آخر يرفع من عنفوان الأنوثة؟ وهل وظيفة الحجاب ضبط المرأة في إطار عزلة محكومة بشبكة العلاقات الأسرية الضيقة أم يلعب دور الضابط للحرمة والحامي لما تبقى من ثقافة منقولة أو موروثة من التفكك والانهيار؟ أسئلة كثيرة يطرحها الشريط السينمائي برمزية ومن دون فلسفة. وتأتي الأجوبة تباعا ومن خلال تداعي الأسرة واقترابها من هاوية الضياع. فالشقيق الكبير المتعصب على خلاف والده الراحل المنفتح وصل أمام مأزق يحتاج إلى حسم واختيار الطريق الأفضل للأسرة وهو إما المحافظة على وحدتها وتعاضدها وإما تمزقها إلى فرق متنافرة تعيش في مناطق متباعدة. واختار الشقيق وحدة الأسرة وتعايشها السلمي من خلال تقديم تنازلات قد تكون شكلية ولكنها ضرورية للمحافظة على تضامن العائلة في مجتمع بارد يميل إلى تحطيم كل علاقات اجتماعية وحارة بين الناس.

الدقائق الأخيرة من فيلم «صباح» سخيفة وسريعة وتنتهي نهايات سعيدة. فالشقيق يصالح شقيقته وأسرة والده. والكندي يتعرف على العائلة ويتزوج من المحجبة. والأم تعاود لعب دور زوجها الراحل للحفاظ على وحدة الأسرة. والفتاة التي ولدت في كندا قررت الزواج من الشاب بعد أن تجاوزت عقبة التعارف حين التقته مصادفة في مكان عام وبمناسبة حفلة مختلطة. وهكذا تعود المياه إلى مجاريها والفتاة التي كادت أن تخلع الحجاب عادت وانضبطت بعد أن تزوجت من الرجل الذي أحبته.

إجمالا، الفيلم ليس ضد الإسلام ولا ضد الحجاب ولا ضد العادات والتقاليد الملتبسة وتلك الازدواجية في المظاهر الخارجية والسلوك المحاط بالألغاز والسرية. كل هذا وارد في الشريط السينمائي ولكن «صباح» تتجاوز هذه الحلقة لتطرح بقوة شخصيتها إشكال ثقافة منقولة من مكان إلى آخر بالطائرة وتريد حمايتها من محاصرة المحيط وهجمات مجتمع يعيش في زمان غير زمانها. فمن هنا تبدأ الأزمة.

العدد 1588 - الأربعاء 10 يناير 2007م الموافق 20 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً