العدد 1589 - الخميس 11 يناير 2007م الموافق 21 ذي الحجة 1427هـ

البدايات الأولى لفكر النهضة العربية

بلاد الشام تدخل عصر الطوائف (5)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

عانت «النخبة الشامية» منذ ولادتها من أزمات أسهمت في التأثير على وعيها التاريخي. فهناك أزمة التأسيس، وهناك أزمة الانتماء، وهناك الظروف الموضوعية التي أحاطت بتلك الولادة. فالتأسيس بدأ في القرن السادس عشر وتحت سقف التفاهم العثماني - الفرنسي. والانتماء الطائفي/ المذهبي شكل قوة ضغط ايديولوجية وعطل نمو ذاك الاستقلال الفكري/ الفلسفي الذي طمحت النخبة إليه. وجاءت الظروف الموضوعية وما رافقها من تحولات كونية رفعت من شأن أوروبا وعلومها مقابل تراجع دور السلطنة العثمانية وما تعنيه من رمزية إسلامية موروثة عن عصور سالفة.

كل هذه الأزمات شكلت عقبات في وجه نمو «النخبة الشامية» الذاتي اذ منعت تلك الأطر العامة النخبة من لعب دور قيادي في إدارة الدولة كما كان حال النخبتين المصرية والمغاربية (التونسية بداية) فاكتفت بموقع إطلاق الأفكار والعمل على نشرها. وبسبب اعتماد «النخبة الشامية» على الطباعة لترويج أفكارها نجحت مع السنوات في التأثير على أجيال وتأسيس ما عرف لاحقا بفكر النهضة العربية.

إلا ان رواد النهضة العربية انقسموا في تكوينهم الايديولوجي إلى حلقات سياسية تأثرت بدورها في الظروف التاريخية التي أحاطت بها وشطرتها إلى تيارات متعارضة. إضافة إلى الفضاءات الدولية انقسم عصر رواد النهضة إلى مراحل ثلاث. الأولى تشكلت بين القرنين السادس عشر والسابع عشر، والثانية ظهرت إلى سطح الثقافة المعاصرة بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وجاءت الأخيرة لتلعب دورها الحديث بين نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

بسبب تفاوت الظروف التاريخية بين جيل نهضوي وآخر تعارضت الاهتمامات واختلفت نتيجة تنوع مصادر الفكر والمنابت الفلسفية للمدارس التي تلقت فيها النخبة علومها ومعارفها.

مثلا الجيل الأول الذي تأسس في القرنين السادس عشر والسابع عشر تلقى علومه في الغرب من خلال تلك البعثات التي كانت تتوجه إلى روما وثم باريس لدراسة الدين والفقه المسيحي (اللاهوت) وما يتفرع عنه من معارف فلسفية سيطر عليها الفكر الديني/ الفلسفي الأوروبي. وآنذاك كان التفكير الفلسفي الأوروبي يتأثر بقوة بالقرآن والفقه الإسلامي وتلك المدارس الفلسفية المسلمة التي شقت طريقها إلى أوروبا قبل أن تشهد القارة نهضتها باستقلال عن تأثير محيطها الإسلامي.

في تلك الفترة شهدت المنطقة ظهور جيل من الفلاسفة «اللبنانيين» لعب دوره المحدود في التأثير على وعي فئات اجتماعية تسنت لها فرصة التعلم في مدارس الإرساليات التي توزعت على مناطق المسيحيين في جبل لبنان. وجاء معظم هؤلاء «الفلاسفة» من قرى تسيطر على ثقافتها المحلية علاقات اجتماعية ريفية تتحكم بها مؤسسات دينية ترتبط بعلاقات مميزة مع الفاتيكان أو فرنسا (الكاثوليكية). وبرزت في تلك الفترة ما أطلق عليها المدرسة المارونية وهي «مؤسسة لبنانية» نشأت في روما إلى أن أقدم نابليون بونابرت على نقلها إلى باريس بالقوة في غزوة من غزواته لإيطاليا. وأهمية هذه المدرسة تكمن في دورها السياسي الذي شكل ذاك الجسر التاريخي/ الثقافي بين أوروبا وبلاد الشام حين جددت ربط منابت الفكر الفلسفي بالدين في ضوء التحولات المعاصرة التي أخذت تنتشر في القارة الأوروبية.

إلى ذلك لعبت «المدرسة المارونية» في روما وباريس دورا مميزا في تنقية الفكر الاستشراقي من تلك الملابسات والخرافات والتجنيات على الإسلام والتاريخ العربي. وأوضح تلامذة المدرسة (مسيحيون عرب) الكثير من الغموض الذي كان يسيطر على المفكرين الأوروبيين من خلال السجالات أو البحوث والترجمات التي أسهمت في إلقاء الضوء على زوايا غامضة بسبب اللغة (أخطاء في الترجمة) أو ازدواجية المعاني أو نتيجة الجهل والتعصب.

تراث «المدرسة المارونية» في القرنين السادس عشر والسابع عشر وصولا إلى القرن الثامن عشر لم يكشف النقاب عنه حتى الآن على رغم وجود ما لا يقل عن 1200 مخطوطة مسجلة هناك وكلها من نتاج هذا الجيل الأول من «النخبة الشامية». ومن أبرز فلاسفة القرن السابع عشر كان الأب بطرس التولاوي، فهذا الأب (رجل دين مسيحي) ولد في قرية تولا في البترون في العام 1657 ودرس في «المدرسة المارونية» في روما في العام 1669 وعاد إلى لبنان في العام 1682. وبعد عودته كلفه الأب اسطفان الدويهي مسئولية التدريس في «المدرسة المارونية» في حلب. فالمدرسة أسست مجموعة فروع لها في المشرق العربي. وكان فرعها الحلبي أسسه لبنانيون في العام 1666 وأشرفت على إدارته الكنيسة المارونية وبدأت بتخريج دفعات برعاية المتخرجين من مدرسة روما وثم باريس، كما كان حال الأب تولاوي الذي توفي في العام 1746 بعد أن تخرجت بإشرافه مجموعة كبيرة من الطلبة على امتداد أكثر من نصف قرن.

آنذاك كان برنامج التربية والتعليم يقتصر على بضعة فروع منها تعليم اللغات العربية والايطالية والفرنسية إضافة إلى اللغات القديمة كالسريانية واليونانية، وتعليم الدين والفقه، وتدريس الفلسفة والمنطق. وكان البرنامج يتشدد في تدريس الفلسفة الأوروبية الدينية التي أسسها القديس توما الاكويني الذي تأثر سلبا وإيجابا بالفلسفة الإسلامية من الفارابي وابن سينا والإمام الغزالي وصولا إلى القاضي ابن رشد.

وبسبب هذه الصلة الخفية بين الفلسفة اليونانية والفلسفة العربية الإسلامية والفلسفة الأوروبية في طورها الأول تشكلت قاعدة قوية لذاك الترابط المنهجي/ التاريخي بين الحضارات الثلاث وهذا ما اشتغل عليه تلامذة المدارس المارونية وأسهموا لاحقا في التأثير على جيل من ناحية دورهم في تشكيل وعيهم التاريخي الذي مزج بين ثقافات البحر المتوسط ومراكزه الحضارية الثلاثة.

الجيل المؤسس

هذا الجيل الأول في «النهضة العربية» الفكرية مجهول الهوية وغير معروف لدى الكثير من منظري ومؤرخي فكر النهضة العربية. إلا انه وعلى رغم الغبن الذي لحق به والتهميش الذي أصابه لعب هذا الجيل دور التأسيس في نقل المعارف الأوروبية في إطارها الديني والفلسفي إلى المشرق العربي الأمر الذي ترك تأثيره القوي في وعي نخبة سيكون لها موقعها الخاص في توليد طاقة فكرية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

مؤلفات تولاوي مثلا تراوحت بين 15 و25 كتابا تعرضت للكثير من علوم عصره واشتملت على سجالات منطقية ونقلت إلى العربية الكثير من المعلومات السائدة في عصره من أوروبا إلى المشرق العربي، وقدمت للتلامذة فكرة تاريخية توجز تلك النقاشات التي كانت دائرة بين التيار اللاهوتي والتيار الرشدي (الفلسفي). وبحكم موقع الأب الديني والقروي انتقد تولاوي أفكار جون سكوت وخصوصا تلك المتصلة بالخالق والسيد المسيح. وقام أيضا بترجمة بعض اعمال توما الاكويني، كذلك اهتم بتلك الدراسات التي اشتغل عليها دنس سكوتس الفرنسيسكاني في الفلسفة وصلتها بالدين.

الأب بطرس التولاوي هو نموذج على تيار الجيل الأول في النهضة الفكرية العربية المعاصرة الذي يعتبر وفق النهج الخلدوني الجيل المؤسس حين وضع القواعد المبدئية لمجموعات من المتعلمين استلهمت أفكارها من آباء يسوعيين درسوا باكرا في معاهد أوروبية ذات طابع ديني. وعلى يد هذا الجيل المؤسس تشكل وعي النخبة الشامية التي تنتمي جذورها الاجتماعية إلى أصول ريفية وتعلمت قبل نزوحها إلى المدينة (بيروت آنذاك) في مدرسة القرية.

بعد الجيل الأول سيظهر على الشاشة الفكرية العربية المعاصرة الجيل الثاني المشهور والمعروف. إلا ان الثاني تعلم على يد أبناء الرعيل الذي تخرج من تلك المدارس القروية التي أسسها الجيل الأول. مثلا الشاعر ناصيف اليازجي الذي ولد في قرية كفر شيما (جبل لبنان) في العام 1800 درس علومه الأولى على يد والده (عبدالله بن جنبلاط اليازجي) وأنهاها في الرهبانية المارونية. كذلك كان حال المفكر أحمد فارس الشدياق الذي ولد في العام 1805 في قرية عشقوت ثم انتقل إلى الحدث (قرب بيروت) ودخل مدرسة «عين ورقة» المارونية التي كان برنامجها التعليمي يقتصر على تدريس العربية والسريانية والبلاغة وعلوم المنطق (الفلسفة) واللاهوت.

من مدرسة «عين ورقة» ستتخرج الأجيال وسيسهم تلامذتها في تشكيل النواة الثانية في ما أطلق عليه لاحقا «فكر النهضة العربية». فالمعلم بطرس البستاني الذي ولد في قرية الدبية في إقليم الخروب في الشوف اللبناني سنة 1819 سيدرس بداية على يد خوري القرية ميخائيل البستاني وبعدها سيرسل إلى «عين ورقة» ليكمل علومه ودراسته للغات العربية والسريانية واللاتينية والايطالية والانجليزية إضافة إلى الفلسفة واللاهوت المسيحي. فعين ورقة إضافة إلى مدرسة عينطورة وتلك الشبكة من المعاهد التعليمية التي أشرفت عليها الرهبانية المارونية وحركات التبشير والإرساليات في المشرق العربي ستتشكل في ضوء برامجها التربوية نواة «النخبة الشامية» التي ستلعب دورها بدءا من الجيل الثالث في تكوين الفكر المعاصر وما تفرع عنه من ايديولوجيات قومية وعلمانية ووطنية واشتراكية ونقابية وإلحادية وغيرها من تيارات ونظريات مترجمة أو مقتبسة من مدارس أوروبا، وهي لاتزال سارية المفعول حتى أيامنا.

إلا ان الجيل الثالث تشكل بدوره على قاعدة انقسامات موروثة أو نتيجة ردود فعل غاضبة طبعت عقلية الجيل الثاني الذي تمثل آنذاك في شخصيتين حركيتين: بطرس البستاني وفارس الشدياق.

أهمية البستاني والشدياق تكمن في انهما حاولا نقل أفكارهما من الفكر إلى التوعية من خلال النشاط الميداني وإنشاء المدارس وإصدار الصحف. وشكل هذا الانتقال من الفكر إلى الفعل خطوة مهمة في تكوين مؤسسات مستقلة عن مظلة إرساليات أوروبا تطمح إلى تخريج طلبة يحملون تلك الآراء الوطنية التي تحاول عدم إخضاع الانتماء الوطني (الهوية القومية) إلى الدين. وتعتبر هذه الخطوة بداية وعي لما عرف لاحقا بالعلمانية وما تعنيه من محاولات فصل للدين عن الدولة والقومية عن الدين.

ظاهرة البستاني/ الشدياق مهمة جدا في سياق تأريخ النواة الأولى للفكر العربي المعاصر الذي سيلعب دوره السياسي في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. إلا انها على رغم أهميتها في التأثير اللاحق على الايديولوجيا العربية المعاصرة كانت في بداياتها التأسيسية أسيرة الأصول الريفية (القروية) لنمط الحياة والتفكير ونتاج تكوين ديني لعب دوره في تغليف الفكر القومي أو التفكير العلماني وإلحاقه بانتماءات طائفية أو مذهبية. وهذا ما يمكن ملاحظته في مجموع المفاهيم التي تأسست لاحقا وهيمنت على عقول أجيال عربية تخرجت في فضاءات متشابهة من أقطار مختلفة وعلى مراحل متفاوتة.

ولكن تعارض الولادة الأولى مع نهاياتها لا يعني أن هذا الثنائي المؤسس (البستاني/ الشدياق) لم يفعل فعله في إطلاق شرارة نهضة سواء من خلال إنشاء البستاني «المدرسة الوطنية» في سنة 1863 التي اعتمدت مبدأ الوطنية وحرية المعتقد الديني أو من خلال رحلات الشدياق واحتكاكه بالمثقفين العرب المغاربة وحين أقام في مصر تسع سنوات تعرّف خلالها على رفاعة الطهطاوي واشتغل معه محررا في مطبوعة «الوقائع المصرية».

البستاني والشدياق المتخرجان من مدرسة «عين ورقة» سيكون لهما تأثيرهما على تكوين العقل المعاصر في «فكر النهضة العربية». إلا ان هذه المعاصرة ستبدأ منقسمة ومنفعلة بسبب تأثير حركات التبشير والإرساليات وتصادمها مع الكنائس الشرقية العربية التي وجدت في المدارس الانجيلية والبروتستانتية (الاميركية والانغلكانية) منافسة قوية وخصوصا حين لجأ البستاني إلى تغيير مذهبه من الماروني الكاثوليكي إلى الإنجيلي البروتستانتي بينما أقدم الشدياق على تغيير دينه من المسيحية إلى الإسلام. وهذا التبديل له قصصه وحكاياته لكنه شكل مفارقة تركت أثرها في بدايات تكوين «الفكر العربي المعاصر».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1589 - الخميس 11 يناير 2007م الموافق 21 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً