العدد 1595 - الأربعاء 17 يناير 2007م الموافق 27 ذي الحجة 1427هـ

شجاعة قلب جان ماري مولِّر

الإنسان «الشجاع» هو مَن يغلِّب فضائلَ القلب (كلمة courage الفرنسية «شجاعة» مشتقة حصرا من كلمة cœur «قلب») باعتباره مقرَّ الإرادة والطاقة والخصال التي تشكِّل «قوة النفس» أمام الخوف والمجازفة والتهديد والخطر والعذاب والموت. الشجاعة هي فضيلة الإنسان القوي الذي يصمد عند الامتحان. ولما كان خوف الإنسان متأصلا دوما في خشية الموت، فإن خصلة الإنسان الشجاع هي سيطرته على خوفه من الموت، مجازفا بحياته للذود عن قضية عادلة، كرامته مرهونة لها. كان غاندي يضع «رباطة الجأش» في المرتبة الأولى من فضائل الإنسان القوي. أن تكون «رابط الجأش» in-trépide، بحسب المعنى الاشتقاقي لهذه الكلمة بالفرنسية (من اللاتينية: in «بادئة النفي» وtrepidere «ارتعد»)، يعني ألا ترتعد أمام الخطر، أي ألا تخاف أو، بالأدق، أن تتغلب على خوفك.

يقال أحيانا إن الشجاعة يمكن لها أن تُستخدَم في الشر كما تُستخدَم في الخير. لكن شجاعة الإنسان لا تكون موضع إعجاب وتقدير إلا إذا استخدمها في الخير. لا، ليس هناك من شجاعة في فعل الشر. ولدى إعمال النظر في الأمر، يجب الإصرار على أن الشرير ليس شجاعا، مهما تكن المخاطر التي يتجشمها لبلوغ مآربه. الشجاعة، في جميع الثقافات، هي فضيلة البطل الذي يتحلى بقوة التغلب على خوفه لمواجهة المخاطر الملازمة لنضاله من أجل العدالة.

في موروثاتنا الثقافية، تُمتَحن شجاعةُ الإنسان عند الحرب؛ فيُتغنَّى بالشجاعة عند ذاك بوصفها فضيلةَ المحارب الذي يُقدِم ويستبسل أمام المخاطر. وتُعتبَر الحربُ اللحظةَ التي يقوم فيها المواطن، إذ يتخلى عن مصالحه الخاصة، بتحقيق كيانه الأخلاقي والروحي بالتحلي بشجاعة المخاطرة بحياته لخدمة المصلحة العامة. منذ قرون والمجتمعاتُ تتعهد العنفَ وتمجِّده وتقدِّسه بوصفه فضيلة الإنسان القوي الذي يتحلَّى بشجاعة ركوب أعظم الأخطار للذود عن شرفه وحريته وعن شرف أبناء جلدته وحريتهم. يضمن هذا الإشراطُ الاجتماعي والإيديولوجي، من جيل إلى جيل، استنساخَ سلوكياتِ إذعانٍ وطاعةٍ لأوامر السلطات التي تأمر بالقتل حفاظا على المصالح العليا للجماعة.

تظهر نبالةُ فضيلة الشجاعة في وضوح حين تُقارَن بالجبن، المشين دوما. لكن ثقافة العنف تسجن المواطن في وضع يشعر فيه أن لا خيار له، إذ يواجه الظلم، إلا بين العنف والجبن؛ فيُهاب به إذ ذاك أن يبرهن على شجاعته باختياره العنف. ولأنه يرفض أن يكون جبانا، إنْ في نظره أو في أعين الآخرين، يقبل عموما أن يكون عنيفا. وبهذا تمارس إيديولوجيا العنف ابتزازا حقيقيّا على المواطنين بتأكيدها على أن الطريقة الوحيدة للتحلي بالشجاعة هي الاتصاف بالعنف وباتهامهم مسبقا بالجبن إذا رفضوا أن يكونوا عنيفين.

وإن الذي يختار العنف، مجازفا بحياته لمقاومة الظلم، إنما يبرهن عن شجاعة لا ريب فيها؛ فلا يجوز لأحد أن ينكر عليه حقَّه في الاحترام. وفي الظروف التي يحسب فيها الإنسانُ، أمام موقف ظلم، أن لا خيار له إلا بين العنف والجبن، تُلزِمُه الشجاعةُ بالعنف. فإذا كان رفضُ العنف والحرب صادرا عن كراهة الموت، لا عن الاشمئزاز من القتل، إذ ذاك يكون هذا الرفض في الواقع دليلا على الجبن.

لكن من طبيعة الحرب، في أحسن الحالات، أن تجمع بين النقيضين جمعا عميقا: إذْ يمكن لها أن تكون تعبيرا عن الشجاعة، لكنها دوما إعمالٌ للعنف القاتل. وهنا من شأن الفلسفة أن تقلب المنطقَ الذي رجَّحتْه الايديولوجيا السائدة على مرِّ القرون، التي ترى في الحرب، على الرغم من أنها تعلِّم القتل، عملا مشرِّفا لأنها صنيعة الشجاعة: يجب التأكيد على أن الحرب، على كونها ابنة الشجاعة أحيانا، ليست شريفة أبدا لأنها قاتلة.

لقد بيَّن غاندي أن الإنسان ليس مخيرا بين العنف والجبن، بل بين العنف والجبن واللاعنف. إذا كان العنفُ مفضلا على الجبن فإن اللاعنف خيرٌ من العنف. يتطلب اللاعنف، في المحصلة، شجاعة أكبر من العنف. لكنْ وحدَه القادر على فعل العنف يستطيع اختيار اللاعنف. شجاعة الإنسان القوي الحقيقية هي مقاومةُ الشر ومكافحة الظلم، راكبا خطر الموت لئلا يقتُل، لا خطر القتل لئلا يموت. الشجاعة الكبرى هي مقاومة الشر برفض الاقتداء بالشرير.

العدد 1595 - الأربعاء 17 يناير 2007م الموافق 27 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً