العدد 1595 - الأربعاء 17 يناير 2007م الموافق 27 ذي الحجة 1427هـ

«أبوكاليبتو»... مشاهد العنف الأخيرة من حضارة «المايا»

مل غيبسون جعل من العنف مجرى لتاريخ البشر

منذ أن انتقل الفنان مل غيبسون من التمثيل الى الإخراج انفتح أمامه باب السينما من عالمها الواسع الذي يجمع الصورة والحوار والفكرة والموضوع والموسيقى وغيرها من فنون. فالسينما في النهاية هي ذاك المسرح المتحرك الذي يفتح امام المخرج الكثير من الأبواب ليطرقها. واختار غيبسون التاريخ كمساحة زمنية تتحرك في نطاقها الكاميرا. إلا أن الجانب الذي اختاره غيبسون كان الأكثر إثارة لأنه بحث من خلاله عن مخزون العنف الذي يحمله الإنسان وما ينتج عنه من عذابات وآلام. ففي فيلمه الأول اختار شخصية «السيد المسيح» ليفرغ من داخله ذاك المخزون المخيف من العنف. وبسبب قسوة مشاهد الصلب اضطرت الكثير من الدول إلى منع عرض الشريط السينمائي الذي اثار الجدل السياسي والفني في وسط النقاد. وكانت البحرين من الدول التي منعت عرض «آلام السيد المسيح» احتراما للمعتقدات وتحاشيا لمشاهدة تلك الصورة العنيفة والمؤلمة.

الفيلم الثاني كان عن حضارة «المايا» في اميركا عشية الاكتشافات الجغرافية. فالشريط يتحدث عن لحظة تاريخية، ولكنه أيضا يتضمن تلك المساحة الواسعة من العنف. والفارق بين الفيلمين أن غيبسون تحدث في الأول عن شخصية واحدة بينما تناول في الثاني قصة حضارة في طريق الزوال. والجامع بين الفيلمين كان لغة العنف والبطش والقوة والدم المراق، إضافة الى استخدام اللغة الأصلية في الحوار. وهذه تعتبر بدعة جديدة ونافعة في عالم السينما. فغيبسون استخدم اللغة الارامية/ السريانية في فيلمه عن السيد المسيح كذلك استخدام لغة المايا (المنقرضة تقريبا) في فيلمه عن حضارة المايا الهندية. واللجوء الى اللغة الأصل أعطى قوة واقعية للفيلمين حين جعل من الحوار نقطة وصل بين عالم غاب عنا وواقع لايزال يلاحقنا بالقوة والعنف والبطش في عصرنا الراهن.

فيلم «أبوكاليبتو» الذي يعرض الآن في «السيف» من الأعمال الفنية الرائعة في موضوعها وفكرتها وقوتها وأخيرا الرسالة المعاصرة التي يريد أن يوصلها إلى ذهن المشاهد. فهي مشاهد العنف الأخيرة من حضارة «المايا».

ينطلق الشريط من نظرة فلسفية للتاريخ. فهو يبدأ من فكرة أن الحضارة حين تصل إلى نهاياتها تبدأ بافتراس نفسها وهي ليست بحاجة إلى قوة خارجية للقضاء عليها. فالضعف الداخلي يتكفل بها فهو يجرجر الناس إلى الاقتتال والتقاتل والمطاردة والثأر والتلذذ بالدم والتفرج على عذابات الضحية.

من هذه الفكرة ينسج غيبسون رؤيته ويؤسس عليها ذاك الحوار المأسوي الذي يتناول اللحظات الأخيرة من حضارة عظيمة دخلت عالم الماضي وبدأت تموت تدريجيا في وقت كانت أوروبا تدخل العالم الجديد آتية إلى مناطق تلك الحضارة من وراء بالبحار.

مشاهد الفيلم عنيفة وقاسية. وغيبسون كما يبدو تقصد تصوير تلك اللقطات التي تظهر مدى شراسة الإنسان في تعامله مع الإنسان في لحظة تشهد الحضارة كلها مرحلة النزول إلى الحضيض ودخول عالم التوحش والافتراس. فالحضارات صعود وهبوط وحين تصل إلى مرحلة لا تستطيع تجاوزها تبدأ بالتفكك والانهيار والعودة إلى الماضي وتقديس الخرافة والهياج من مشاهد الدم وقطع الرؤوس.

حضارة المايا هي واحدة من حضارات امازونية وهندية عظيمة عاشت المئات وربما آلاف السنين فيما عرف لاحقا بأميركا الجنوبية والوسطى والشمالية. فهذه المساحة الجغرافية كان يسكنها ملايين البشر وتحكمها حضارات توزعت على مختلف المناطق من السهول والجبال والوديان والغابات. وحين وصل الإنسان الأبيض من أوروبا في نهايات القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر كانت هذه الحضارات دخلت مرحلة النزاع وبدأت من داخلها تفترس نفسها وتتآكل حتى جاء الأوروبي بقوته الجديدة وسلاحه وخبراته وعلومه ومعارفه فقضى عليها عنوة.

غيبسون أراد أن يقول في قصته عن «المايا» إن هذه الحضارة كانت ستنتهي حتى لو لم يقضِ على صورتها الأخيرة ذاك الأبيض المبحر إليها من العالم المجهول. طبعا هو لا يريد أن يعطي صك براءة للأعمال الوحشية والإجرامية التي ارتكبها المهاجر الأوروبي. إلا أنه حاول قدر الإمكان نقل صورة مجردة عن العنف والقتل. وتجريد صورة العنف تعني توزيعها بالتساوي على مختلف الحضارات والثقافات. فكل الحضارات عظيمة وعنيفة وكلها تدخل في درجات صعود تنبني خلالها أحجار المعابد وترتفع إلى السماء ثم تعاود الهبوط على الدرجات فتأخذ الرؤوس المقطوعة بالتدحرج.

هذه الفكرة تتحكم بالشريط السينمائي العنيف الذي أخرجه غيبسون. ومنها ينطلق ذاك السيناريو الدموي. يبدأ الفيلم بلقطة عن مجموعة شبان ينتمون إلى قبيلة تعيش على الصيد. فهذه المجموعة تتشكل من عناصر مقاتلة متفاوتة في درجات تراتبها الاجتماعي وكانت تشترك مجتمعة في مطاردة فريستها وتنجح في اصطيادها. وتبدأ اللقطات المقرفة حين يبدأ رئيس المجموعة بتوزيع أحشاء وأعضاء الحيوان المقتول على الأفراد. والفكرة واضحة في قوتها وعنفها. فالإنسان متوحش حتى حين يتعامل مع الوحش.

بعدها تنتقل المشاهد إلى لقطات تصور مجموعة أفراد من قبيلة مطاردة وخائفة. وتطلب المجموعة المرور أو اللجوء مقابل تبادل السمك باللحوم. ويدخل أفراد المجموعة المطرودة إلى قرية اللجوء.

في المساء تجتمع القبيلة إلى شيخها ويبدأ الأخير برواية الأساطير عن الإنسان والطبيعة والحيوانات وعلاقات القوة بأسلوب خرافي يدهش الأبناء والنساء والأطفال. والفكرة هنا واضحة فهي تتحدث عن معتقدات ولكنها تشكل قناعات إيمانية عند هذه المجموعة لأنها تتكلم عن مصادر القوة والعظمة وأيضا تتكلم عن المحبة والتسامح وعدم الخوف. في الصباح تتعرض قرية القبيلة لهجوم وحشي من قبيلة مجهولة وغريبة وبعيدة اجتازت النهر ودخلت منطقة نفوذ مجاورة. ويبدأ المهاجمون بالحرق والقتل والسحل وتنتهي المعركة بمجزرة كبرى لا يبقى فيها سوى بعض الأسرى من الرجال والنساء يساقون إلى أرض أخرى وسط بكاء وصراخ الأطفال الذين يلاحقون أهلهم ويتوقفون عن السير حين تصل القافلة إلى النهر الفاصل بين المقاطعتين. وهنا أيضا الفكرة واضحة. فالمشاهد التي يتمعن غيبسون في تصويرها تشبه تلك الوحشية التي ارتكبها هؤلاء الشبان حين وقع الصيد في شباكهم. وينتقل الأسرى إلى ساحات القبيلة الأخرى التي تعيش في مرتفعات جبلية شديدة التعرج والوعورة. وبسبب تعقيد الطبيعة تشكلت لدى القبيلة شخصية شديدة القساوة تضبطها علاقات اجتماعية مركزة تعتمد فكرة التأليه من خلال منظومة حاكمة تتألف من رئيس العشيرة والكاهن والعراف وقاطع الرؤوس. فالقبيلة هذه تنتمي إلى الحضارة نفسها ولكنها أكثر تطورا وتقدما في تقنيتها ووسائط عيشها. فهي تعتمد على الزراعة ومستقرة في منازل حجرية وتؤمن بخرافات تأسست عليها المعابد التي تشبه أهرامات مصر. وقساوة القبيلة فرضت عليها أن تمارس توحشها وعنفها الدموي على القبائل المسالمة التي تعيش على الطبيعة وصيد السمك أو مطاردة الحيوانات في الغابة. ولذلك كانت تلجأ إلى اقتحام قرى القبائل التي تعيش في الوديان والسواحل والغابات وتأسر ناسها لبيعهم في سوق النخاسة أو التضحية بهم في احتفالات طقسية تجري بمناسبات شتى منها خسوف القمر وكسوف الشمس.

إذا هناك حضارة واحدة تتألف من ثقافات تتدرج من الغابة إلى الساحل إلى النهر إلى الوادي ثم ترتفع إلى الجبال العالية. وبقدر ما تتسلق الثقافة المرتفعات تزداد شراسة وقوة وتشتد عزيمتها وتتماسك تنظيميا وتبدأ بالهبوط إلى الأدنى للانقضاض عليه.

قبيلة المرتفعات هذه هي الأقوى والأكثر تقدما وقساوة فهي تملك المعبد (المؤسسة) وتخضع للسلطة المركزية وتمارس الزراعة (حقول الذرة) ولا تعتمد كثيرا على موارد الطبيعة (الصيد مثلا). القبائل الأخرى بسيطة ومسالمة وتعيش على قوتها اليومي ولا تعرف التراكم والاتجار بالسلعة واقتصاد البيع والشراء في السوق. وبسبب موقعها المتدني في تراتبه الجغرافي والاجتماعي كانت عرضة لاجتياح الأقوى من جنسها ولونها وحضارتها. وهذه أيضا فكرة يريد أن يرسلها غيبسون للمشاهد، فالأقوى يفترس الأضعف ويسيطر عليه ويمتلك مصادر رزقه ويستخدمه قربانا للآلهة.

نحن الآن أصبحنا أمام مجموعة درجات من العنف. الأولى تبدأ من تلك المطاردة للحيوان ثم للأسماك. والثانية مطاردة الإنسان للإنسان. والثالثة انتقال العنف وانتشاره كوسيلة للحياة والبقاء. وهذا ما فعله الناجي الوحيد من مجموعة الأسرى، إذ يتحول من إنسان مسالم إلى وحش يقاتل لحماية حياته وصيانة أسرته الصغيرة التي لم تقضِ عليها المجزرة.

العنف إذا هو قانون يحكم علاقات الإنسان بالطبيعة والحيوان ثم الإنسان. والقتل هو الوسيلة التي يلجأ إليها البشر حين يتملكهم الخوف والفزع من الآخر أو حين يسيطر عليهم الطمع والجشع وحب الامتلاك والسيطرة. والإنسان في هذه المسألة ليس مخيرا دائما. فهو احيانا يتعرض للمطاردة كالحيوان ويضطر للجوء إلى القوة دفاعا أو حماية وليس حبا في القتل. والإنسان أيضا يستطيع أن يختار بين حياة منفتحة تتحكم بها قوانين القوة والبطش، وحياة العزلة في الغابة بعيدا عن قساوة الدنيا. فالخيار يتركه غيبسون للمشاهد في اللحظات الأخيرة، بين الدعوة للاندماج مع القادم في السفن أو الهرب إلى الغابة بحثا عن ملاذ آمن. فالعنف برأيه مجرى لتاريخ البشر والإنسان أحيانا لا يختار. وهذا هو حال القبيلة التي تعرضت للموت من داخل أهلها. وكذلك هي حال القبيلة القوية التي تقدس الشمس وتهلك الناس من اجل بقاء الهيكل، فهذه القبيلة أيضا دخلت عصر الهبوط والانحطاط وأخذت تفترس نفسها وتتآكل من أحشائها... وذلك عشية وصول الأبيض من وراء البحار ليكمل المهمة التاريخية ويفتك بها ويلغيها من الوجود تاركا تلك الحجارة والمعابد تشهد على أن حضارة عظيمة مرت في زمن ما في هذا المكان.

العدد 1595 - الأربعاء 17 يناير 2007م الموافق 27 ذي الحجة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً