معلوم أن الغليان العاطفي والحماسي الذي يبرز في الحوادث السياسية الساخنة عادة ما تظهر به الفئات الشبابية، غير أن ظاهرة غريبة من نوعها طفت على سطح حوادث التسعينات الساخنة مازال يذكرها الشباب البحريني، تجلت واضحة في موقعين تحديدا، الأول: مواكب العزاء حينها، والثاني: الاعتصامات التي تحدث أمام منزل المرحوم الشيخ الجمري.
رجل سبعيني هرِم... عليه ملامح رجال الغوص، تحكيها تجاعيد وجهه وسواعده السمراء وقامته الطويلة التي أحنتها السنون، وطبيعي أنه ليس ببعيد عن الغواصين إذ إن مهنته البحر وبيع السمك... تشد الأنظار هرولته ونظراته الغاضبة وصرخاته المدوية بالهتافات الثورية من أجل إشعال الحماسة في صفوف الشباب المعزين/ المعتصمين... إنه الحاج «بدّاو» كما يعرفه الناس.
رجل بهذا العمر، كان لافتا بوجوده الأبوي، الكثيرون كانوا يهابون منه؛ لأنه لا يترك صغيرا ولا كبيرا إلا ويوجهه بشدة وحزم للمشاركة في صفوف المعزين/ المعتصمين، فهو يرفض الوقوف موقف المتفرج، ومن يخالفه لن يسلم ربما حتى من دفعه بيده حينها.
بدّاو... على رغم قساوته مع الشباب إلا أنهم كانوا يحبونه، ولو لم يكن إلا لذوبانه في معشوقهم الشيخ الجمري، وما لا يعلمه الكثيرون أنه الوحيد الذي لم يمنعه الحصار الأمني آنذاك عن زيارة الشيخ الجمري كل يوم بعد أن ينتهي من بيع محصوله السمكي. كان مؤنسا للشيخ، تضحكه ملاطفاته مع الشباب، وكلما رآه الشيخ ارتسمت الابتسامة على وجهه.
الغريب في الأمر أن هذا العجوز الظاهرة اختفى عن الأنظار أو قلّ حضوره منذ اللحظة التي لازم فيها زميل جراحاته وزميل صموده (المجاهد الجمري) فراش المرض، وكأنه تقاسم معه ساعات الصبر، وساعات الألم والعذابات، حتى تلك اللحظات العصيبة! غاب حتى نسيته أو كادت أن تنساه الناس، وما أخرجته من عزلته سوى لحظات الوداع مرة، ولحظات التأبين مرة أخرى. نعم بالأمس كان هناك شامخا من جديد مع آلاف المعزين بحروف الوفاء للقامة الشامخة التي ضحت بكل ما ملكت من أجلهم ومن أجل وطنهم.
بدا وكأنه لم يغب، فهاهي صولاته لم تتغير و«الغترة» التي يشدها على خاصرته لم تتغير، وتأنيبه للمتفرجين بقي كما كان، إلا أن شيئا واحدا بدا متغيرا وواضحا للعيان، إنه الشحوب والغبن الذي لم يفارق قسمات وجهه، والمؤلم أن الحاج «بداو» لم يستطع أن يكتم هذا الغبن حين رأى مجموعة من الصبية يحملون صور رفيق دربه الراحل أمام موكب التأبين، جلس حينها على الأرض ثم نظر نظرة لوعة في الصور المعلقة على صدور الفتيان... وصفق كفا بكف، ثم تأوه بحرقة وأجهش بالبكاء... لحظات أبكت كل من رأوا ذلك المشهد المؤلم... لحظات الشوق إلى الحبيب حين لا تجدي الدموع نفعا... وكأن دموعه تقول: أحبيب مالك لا ترد جوابنا... أنسيت بعدي خِلّة الأحباب؟!
العدد 1618 - الجمعة 09 فبراير 2007م الموافق 21 محرم 1428هـ