العدد 1622 - الثلثاء 13 فبراير 2007م الموافق 25 محرم 1428هـ

الخبز والحرية في مواجهة الفقر والاستبداد!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

في ظل الضوضاء السياسية الصاخبة، التي تسود المناخ العام، من أزمة الحريات والإصلاح الديمقراطي السليم، إلى أزمات العراق وفلسطين ولبنان والسودان، توارت أزمة المعيشة وحصار الفقر والبطالة وغلاء الأسعار والفساد المنتشر.

للأسف فإن الاهتمام أصبح ينصرف إلى التركيز على الإصلاحات السياسية، وهي مهمة طبعا، على حساب الإصلاح الاجتماعي، الذي تآكل أيضا في ظل ما يسمى بالإصلاح الاقتصادي، بما أتى به من خصخصة وإطلاق حرية القطاع الخاص، وانسحاب الدولة من أداء مهماتها في حماية المواطن ومدّ شبكات الأمان الاجتماعي!

وقد أدى ذلك إلى ما نراه الآن من اتساع مساحات الفقر، بحيث أصبح يرهق نحو 42 في المئة من الشعب المصري، وأكثر من ربع المواطنين في مجمل الدول العربية، الذين يتأرجحون على خط الفقر وتحته، بمعدل دولارين، (نحو أحد عشر جنيها مصريا) في اليوم الواحد فقط للإنفاق على الغذاء والمسكن والعلاج لكل فرد، هكذا تقول التقارير الدولية الرسمية، سواء الصادرة عن الأمم المتحدة وبرنامجها الإنمائي، أو تلك الصادرة عن البنك الدولي، بما يعكس أوضاعا صادمة حقا.

إذا، فالأوضاع الصادمة المعبأة بمزيد من الأخطار الجسام، ليست قاصرة على الاحتقان السياسي وتجلياته في الحكم الاستبدادي فقط، ولكن الأمر أخطر طالما أنه قد وصل إلى الجوع والفقر «والشعوب تمشي على بطونها»، وطالما أن الضجيج السياسي يُستغل لتمرير سياسات اقتصادية تزيد الفقراء فقرا والأغنياء غنى، وطالما أن كل ذلك ينتج في النهاية بطالة متزايدة وإحباطا متراكما، يقودان حتما إلى العنف والتطرف بل والانتحار!

ولكي نزيد الأمر وضوحا فإننا نستعين بالثنائيات المعروفة، وخصوصا تلازم الحرية مع العدالة الاجتماعية من ناحية، وتلازم الاستبداد مع الفقر من ناحية أخرى، وأحسب أن أوضاعنا العامة تقدم خير نموذج على هذه الحال، إذ جميع نظم الحكم الفردية والسلطوية لم تقدم لنا تنمية حقيقية، ولم ترفع مستوى المعيشة بالقدر اللازم، ولم تضع استراتيجية واضحة للأمان الاجتماعي، الذي هو في حقيقته ركن رئيسي من الأمن القومي، لا يقل شأنا عن تأمين الحدود ومجابهة المخاطر الأجنبية، وتعبئة الجيوش وتسليحها والإنفاق عليها بسخاء شديد.

وحين بدأت «ارتعاشة الديمقراطية» في بلادنا، وقد بدأت خجولة مترددة، انصب اهتمام الدولة وسياستها العامة، على تحرير الاقتصاد، وليس أيضا على تحرير السياسة، بمعنى تحرير الإنسان وحمايته وتأمين معيشته الإنسانية.

ومنذ نهاية سبعينات القرن الماضي، ونحن نعايش صخب تحرير الاقتصاد وحده، وبمفهومه الضيق، ووفق نصائح وضغوط مؤسسات دولية وحكومات أجنبية، قطعت الشوط الأطول في التقدم، ولا تعاني شعوبها شيئا من تجليات الفقر والبطالة وتدني التعليم والصحة، كما نعاني، فإذا بالدولة تركز على الخصخصة مثلا، وتشجيع القطاع الخاص على حساب مصالح الغالبية من الطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل والقدرة، معتبرة أن ذلك هو الطريق إلى الليبرالية، لكنها تركت الجناح الآخر لليبرالية، وهو جناح إطلاق الحريات العامة والمشاركة الشعبية وحسن توزيع الثروة، وتداول السلطة وإفساح المجال أمام منظمات المجتمع المدني للإسهام في تطوير المجتمع الحر في ظل دولة القانون.

وبقدر ما انصاعت الدولة لروشتة المؤسسات الدولية والحكومات الأجنبية، فيما يتعلق بسياسة تحرير الاقتصاد، بقدر ما سارعت بالتخلي عن دورها المحوري في تأمين شبكة الحماية الاجتماعية للفقراء المتزايدين نتيجة تحرير الاقتصاد، وفي الانسحاب من مهمتها في توفير الحد المعقول من مستويات التعليم والعلاج والسكن والمرافق والخدمات العامة والغذاء والملبس، تلك التي ارتفعت أسعارها بجنون في السنوات الأخيرة، في ظل «حرية السوق وفق مبدأ العرض والطلب»، وقد كانت سببا رئيسيا من أسباب الإضرابات العمالية الأخيرة مثلا.

والنتيجة، أن مصر، التي كانت ميسورة الحال، أصبحت فقيرة بالمعنى العام، على رغم كل الإصلاحات الاقتصادية، وعلى رغم كل الأرقام التي تذيعها الحكومة عن ارتفاع نسبة النمو إلى أكثر من 6 في المئة، وانخفاض العجز، وزيادة رصيد النقد الأجنبي إلى 26 مليار دولار، ودخل السياحة وقناة السويس معا إلى نحو 15 مليارا سنويا، وانخفاض معدل الفقر إلى 28 في المئة كما تقول الحكومة، وإلى 42 في المئة كما تقول التقارير الدولية، فهل انعكس ذلك على الحياة الاجتماعية للمواطن... لا أظن!

بل نظن أننا نعيش مرحلة ارتباك هائلة، نتيجة الانتقال السريع من سيطرة الدولة، على كل مصادر الثروة والإنتاج، وهيمتها على حركة المجتمع، أفرادا ومنظمات، بما في ذلك الحريات العامة، وفق ما وضعته ثورة يوليو 1952، من تخطيط مركزي، ساهم إلى حد كبير في توفير الخبز ومحاربة الفقر والبطالة، وإعادة توزيع الثروة لصالح المهمشين، إلى سياسة الانفتاح الاقتصادي، دون الانفتاح السياسي الواسع، التي جاء بها حكم الرئيس السادات، بعد حرب أكتوبر 1973.

إلا أن التحولات الكبرى، الأهم والأعمق، في مجال التحرير الاقتصادي والتكيف الهيكلي، بدأت عملياَ مع مطلع تسعينات القرن الماضي، وهي تشهد في السنوات الست الأولى من القرن الحالي، تسارعا واضحا في نفض يد الدولة من كل أعبائها الاقتصادية ومسئولياتها الاجتماعية، ممثلا في بيع كل شيء من بواقي القطاع العام، والمشروعات الاستراتيجية الكبرى والمصارف والصناعات والأرض إلى القطاع الخاص، سواء كان عصريا أو أجنبيا.

باسم الخصخصة والعولمة وقوانين اتفاق التجارة العالمية، تخلت الحكومة طائعة أو مجبرة، عن إدارة الثروة القومية بمصادرها المادية والاقتصادية والطبيعية، وكذلك تخلت عن رسالتها ومسئوليتها عن الجناح الآخر من الثروة القومية، وهي القوة البشرية المتعاظمة التي وصلت 75 مليونا.

وبذلك فإن مصر تتحول من الدولة الراعية إلى الدولة المتخلية، من دون إدراك حقيقي لمخاطر ترك الأمان الاجتماعي لهذه الملايين، لتقلبات السوق وإدارة الاقتصاد الخاص، وغياب تأمين حقيقي وفعال للحقوق الاقتصادية والاجتماعية لجموع المواطنين، تلك الحقوق التي وضعها الميثاق العالمي لحقوق الإنسان، في موازاة الحقوق السياسية والمدنية، وهو ما أقلق ليس فقط الشعب المصري، لكنه أقلق أيضا حتى الدول الصناعية الكبرى، التي تعرف معنى وخطورة اتساع مساحات الفقر، كما أقلق الأمم المتحدة ذاتها.

ولقد انعقد في القاهرة الأسبوع الماضي، مؤتمر مهم غاب عنه الصخب الإعلامي السياسي، هو المؤتمر الوطني للسياسة الاجتماعية في مصر، نظمته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الاسكوا) بالتعاون مع وزارة التضامن الاجتماعي المصرية، بهدف ترشيد السياسات الاجتماعية في ظل العولمة، خوفا من ظواهر الفقر والبطالة المؤدية للعنف والتطرف.

وتقول الورقة الرئيسية في هذا المؤتمر نصا: «إنه مع استراتيجية مصر في إعادة التكيف التي اعتمدتها منذ التسعينات، وإطلاق العنان للقطاع الخاص، فقدت الدولة سلطة ومؤسسات، الكثير من الموارد المالية، وانحسر دورها في تمكين الناس، وتوفير الفرص الاجتماعية لهم وتلبية حاجاتهم الأساسية، وتم إجهاض أو تفريغ كثير من السياسات الاجتماعية، من مضامينها التنموية، كمجانية التعليم، وتحسين الأجور، والارتقاء بالصحة، وتركز العمل الاجتماعي في معنى ضيق ومحدد، لعلاج المشكلات الاجتماعية ودعم المعوزين والمحتاجين، واهتم التعليم بالكم أكثر من الكيف، واهتمت السياسات الصحية لعلاج بعض الأمراض، وترك العنان بلا ضوابط، للقطاع الخاص للاستثمار في الصحة والتعليم، وسادت البيروقراطية وعدم الشفافية وغياب المحاسبة، في أداء الكثير من المؤسسات الحكومية».

ونظن أن تداعيات ذلك، إنما تشكل خطرا داهما على أمن الوطن، يستدعي تغيير السياسات المنفلتة الراهنة، والتي لا تركز إلا على جانب اقتصادي محدود، يقوم على الخصخصة وبيع ثروة الوطن، ويتغافل عن الآثار السلبية لذلك، الأمر الذي تحذر منه رئيسة الاسكوا السفيرة مرفت التلاوي، بقولها: «إن وجود سياسة اجتماعية مدعومة بتشريعات قانونية واضحة، تحمي الدولة من مخاطر جمّة، أهمها غياب الأمن والسلم الأهلي، ولذلك تسعى الأمم المتحدة إلى مساعدة دول المنطقة العربية، في وضع سياسة اجتماعية متكاملة، ركيزتها العدالة الاجتماعية، والتسامح الديني والمساواة بين الأفراد، وتقبل الآخر والحوار بدل العنف، مع وجود رؤية والتزام سياسي باعتبار التنمية الاجتماعية ركنا أساسيا، في تحديد السياسة العامة للدولة...».

ولأننا كنا ومازلنا نكرر دائما، التنبيه لمخاطر انفلات السياسات الاقتصادية محدودة الرؤية، وتغييب السياسات الاجتماعية، على مستقبل الوطن وأمنه القومي، من دون أن يستجيب أحد، إلا بادعاء الحكمة واحتكار المعرفة. جاءتنا الأمم المتحدة لتقول وتحذر وتنذر، بأن ترك الحبل على الغارب، لاقتصادات السوق وحدها، من دون توفير شبكات الأمن الاجتماعي، يؤدي إلى التهلكة، ممثلة بالفقر والبطالة والإحباط والعنف.

ولقد علمتنا حكمة التاريخ وتجاربنا وتجارب غيرنا، أن الشعوب حين تجوع تثور، وأن الفقر لا يلد إلا عنفا، وأن تركز الثروة والسلطة في شريحة صغيرة من المجتمع، يؤدي إلى الاحتقان وانسداد قنوات التواصل، فيزدهر التطرف والعنف، حتى يأخذ الفقراء حقوقهم بأيديهم كسرا حتى للقانون وتحديا للمحظورات!

ونختتم بأنه لا يمكن الفصل تعسفيا بين الحرية والخبز، بين الإصلاح الديمقراطي الحقيقي، بما يعنيه من إطلاق الحريات العامة وضمان الحقوق الأساسية للمواطنين، وبين التنمية الشاملة، وتبني الدولة لاستراتيجيات شاملة لمكافحة الفقر وتوابعه وتداعياته.

وحتى لا يزايد علينا المزايدون، نقول إن أكثر دول العالم تقدما وليبرالية وحرية رأسمالية، مثل أميركا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا، وأشدها رفاهية وارتفاعا في مستوى المعيشة، مثل اليابان والدول الاسكندنافية، هي الدول التي وفرت لشعوبها أفضل شبكة للأمان الاجتماعي... من دون أن تترك الكبير يلتهم الصغير، والغني يقهر الفقير، وأسماك القرش الجارحة الجانحة، تدمر المجتمع بتوازناته المختلفة، لكي تلتهم ضحية صغيرة، والضحايا عندنا بالملايين!

خير الكلام

يقول فاروق جويدة:

لا تغضـــبوا من حديـــثي... إنــــه ألمٌ

كم ضـــاق قلـــبي به جهــرا... وكتمــانا

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1622 - الثلثاء 13 فبراير 2007م الموافق 25 محرم 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً