العدد 1642 - الإثنين 05 مارس 2007م الموافق 15 صفر 1428هـ

استراتيجية الحروب الدائمة

«أحفاد» تروتسكي وتيار «المحافظين الجدد»

تأسست على نظرية «الثورة الدائمة» 

05 مارس 2007

الوسط - وليد نويهض

بعد مرور أقل من ست سنوات على حكم تيار «المحافظين الجدد» من وراء واجهة الحزب الجمهوري الأميركي بدأ هذا التيار يترنح من كثرة الضربات السياسية والايديولوجية التي أخذ يتلقاها من الحزب الديمقراطي والقوى الفكرية والثقافية الأميركية والأوروبية.

حتى الآن لايزال هذا التيار يتحكم بقرار إدارة واشنطن ويحاول قدر الإمكان تحسين سمعته بعد تلك «البهدلة» التي أصابته خلال انتخابات الكونغرس النصفية في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. وبسبب تمسك رجال هذا التيار بمقاليد السلطة يخشى منه أن يتخذ قرارات مغامرة تدفع بالمنطقة نحو مزيد من التوتر والانهيار. فالخطر منه لم يضمحل وهو لايزال يراهن على عامل الوقت لكسب العطف الذي افتقده إلى درجة أن المؤيدين لنظرياته باتوا على قناعة بوجود هزيمة كبرى تنتظرهم في السنوات المقبلة.

كتب الكثير عن ايديولوجية «المحافظين الجدد» ويرجح أن تنكشف أوراقهم بعد خروج جورج بوش من «البيت الأبيض». والسؤال من أين جاءت أفكار هذا التيار المتطرف؟ وكيف تراكمت لتشكل مجموعة اجتهادات متنافرة لعبت دورها في تغيير سلوك الإدارة الأميركية ودفعها بالقوة للانتقال من اعتماد نهج البراغماتية إلى منهج انقلابي يعتمد القوة لتعديل قوانين التاريخ؟

هذا التيار ليس موحدا في منابته المدرسية والأكاديمية. وهو يعتبر في المجموع العام خلطة ايديولوجية تم تركيبها كيماويا من عناصر متنافرة بعضها ينتمي إلى فكر ديني يعتمد على أوهام وبعضها الآخر ينتمي إلى مصادر سياسية تتصل من قريب أو بعيد باتجاهات يمينية ويسارية متطرفة.فالتطرف هو السمة الغالبة على توجهاته. وكل تطرف في معناه العام يلتقي مع طرف آخر حتى لو كان منبعه اليسار. فأقصى اليسار يتصل دائما بأقصى اليمين والعكس. والسبب يعود إلى أن المبالغة في استخدام التطرف الايديولوجي يؤدي إلى الخروج على الوسط والاعتدال والذهاب إلى النقيض. التطرف المسيحي أدى إلى الخروج على المسيحية التقليدية والتمرد عليها باتجاه يعارض جوهر المسيحية السمحاء. والتطرف الايديولوجي أدى إلى اعتماد أفكار يسارية (تروتسكية) معادية للاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية - الماركسية وإعادة استخدامها وفق رؤية عكسية ومقلوبة رأسا على عقب.

الكثير من أفكار تيار «المحافظين الجدد» استقى مصادره الأولى من تروتسكية مقلوبة حين أخذ المفاتيح الايديولوجية للتجمعات اليسارية المتطرفة المعادية للستالينية و «الاشتراكية في بلد واحد» واستخدمها منطلقات نظرية لإعادة بناء وجهة نظر «رأسمالية متطرفة» أو ما يعرف بالليبرالية المتوحشة التي سادت أميركا وأوروبا في عهدي مارغريت ثاتشر في بريطانيا ورونالد ريغان في أميركا.

تروتسكي والتروتسكية

ماذا تقول أفكار ليون تروتسكي صديق قائد الثورة البلشفية لينين وعدو جوزيف ستالين؟ بدأت نزعة التطرف عند تروتسكي (ولد في العام 1879) حين قاد «الجيش الأحمر» في الاتحاد السوفياتي وبدأ باستخدام العنف ضد الخصوم والأعداء.

آنذاك تبلورت نظرية «العنف قابلة التاريخ» سياسيا، حين وجد تروتسكي ورفاقه أن مسألة بناء دولة اشتراكية في بلد متخلف اجتماعيا مستحيلة وهي تحتاج إلى وقت طويل للوصول إليها. وعلى هذا تأسست فكرة حرق المراحل واختصار الزمن للإسراع في عملية الانتقال من نمط الإنتاج الزراعي (الفلاحي) إلى نمط الإنتاج الرأسمالي (الصناعي) وصولا إلى نمط الإنتاج الاشتراكي (الشيوعي). والإسراع في تطوير العلاقات الاجتماعية يحتاج إلى القوة (العنف) لكسر أنماط تقليدية بالية وتحويلها إلى نمط حداثي متطور.

من فكرة اختصار الزمن تشكلت رؤية «الديكتاتورية الديمقراطية» وأخذت تشق طريقها الايديولوجي لتبرير نزعة القتل والاجتثاث والاستئصال. وهكذا حصلت مجازر دموية بقيادة تروتسكي وبتشجيع من لينين وستالين. فالفكرة استندت على الغاية التاريخية. وحين تكون الغاية هي نقل المجتمع من التخلف إلى التقدم بأسرع وقت ممكن لا بأس من ارتكاب المجازر والمعاصي وانتهاك كرامات البشر مادامت النهاية ستكون لخير الناس ولمصالحهم.

إلا أن رحيل لينين المبكر الذي جاء قبل استكمال بناء الدولة «الاشتراكية الديمقراطية» فتح باب الصراع على السلطة بين الأجنحة والمحاور. وأخذت قوى الثورة البلشفية تتنافس لوارثة لينين. وهكذا انتقل الصراع إلى داخل السلطة وبدأ الرفاق يتصارعون ويتقاتلون ويتذابحون إلى أن نجح ستالين في تصفيتهم كتلة بعد كتلة ومجموعة بعد مجموعة حتى وصل الدور إلى تروتسكي فهرب إلى المكسيك في العام 1929 وانفرد الرجل الحديد بالدولة من دون منازع أو منافس. وفي المنفى المكسيكي جرت متغيرات في منهجية تروتسكي وتحول حقده الشخصي لستالين إلى كراهية للاتحاد السوفياتي وتلك التجربة الاشتراكية القاتلة. وخلال فترة لا تزيد على 11 سنة أعاد تروتسكي تقييم قوانين التجربة انطلاقا من كرهه لستالين. وجاءت تلك الأفكار لتؤسس ايديولوجية مضادة للاتحاد السوفياتي والستالينية. فالخلاف الذي بدأ في موسكو على إدارة السلطة أعاد تروتسكي تأصيله نظريا وبنى عليه ايديولوجية مضادة للاشتراكية السوفياتية (الستالينية). واستمر العداء إلى درجة أن تروتسكي انشق عن «الأممية الثالثة» التي أسسها لينين للتمايز عن «الأممية الثانية» وأنشأ ما عرف لاحقا بـ «الأممية الرابعة».

الأممية الرابعة هي تشكيل فكري يساري متطرف مضاد للثالثة (الأحزاب الشيوعية) والثانية (الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية). وعلى أساس هذا التشكيل الايديولوجي الجديد تمظهرات مجموعة أفكار تنطلق من مفاهيم طهرانية تعتمد التجريد أساسا للحكم على أية قضية اجتماعية. فتروتسكي مثلا تميز في كتاباته الأخيرة في كره الفلاحين (المزارعين) وشتم التخلف واعتبره عقبة في وجه الاشتراكية. كذلك رفض المهادنة مع العادات والتقاليد «البالية»، وتشدد في إنكار الدين ودوره، وسخر من أفكار حركات التحرر الوطنية في العالم الثالث، ورأى أن كل محاولة لبناء «اشتراكية في بلد واحد» ستصاب بالفشل، كذلك تمسك بمقولة أن الاشتراكية الأصيلة لا تأتي من الأفكار وإنما من واقع المجتمع وبما أن أوروبا وأميركا تتميزان بالتقدم الصناعي فإن الطبقة العاملة هناك هي القوة الاجتماعية الوحيدة التي يعتمد عليها لتحقيق التغيير.

هذه الأفكار عادية جدا ولا تحمل الجديد. إلا أن خطورتها ليست في الايديولوجيا الطهرانية وإنما في لوثتها السياسية. فتروتسكي كان يحتقر الفلاحين وشعوب العالم الثالث ويتأفف من دعوات الاستقلال السياسي وحركات التحرر والتحالف مع المزارعين أو رجال الدين. وبسبب هذا الاحتقار الاجتماعي لمعظم مجتمعات الكرة الأرضية تشكلت تصورات عند تروتسكي قامت على فرضيات خطيرة، يمكن اختصارها بمجموعة نقاط وهي: الثورة لابد أن تكون عالمية ودائمة ولا تتوقف، ومركز الثورة في أوروبا أو أميركا لأن الرأسمالية الصناعية هي الطور الأعلى في تقدم البشرية ولابد أن تتسلم صدارة القيادة انطلاقا من تحريك ثورات اشتراكية (عمالية) تقود عجلة التاريخ إلى الأمام.

هذه النقاط أسست بدورها مجموعة مواقف سياسية تركزت على رفض مقولة «الاشتراكية في بلد واحد» التي قال بها ستالين معتبرا أن الاشتراكية لا يمكن لها أن تنجح في «بلد واحد». فشرط نجاحها هو امتدادها العالمي وإلا ستتعرض إلى الحصار الرأسمالي في أوروبا أو حصار الفلاحين في روسيا أو الصين أو العالم الثالث.

هكذا تحول كره تروتسكي لستالين إلى حقد على الاتحاد السوفياتي ودعوة سياسية دائمة لإسقاطه باسم الدفاع عن «الاشتراكية الأممية» النظيفة والخالية من تلوث التخلف الاجتماعي. كذلك تحولت الفكرة العامة إلى نوع من العداء السياسي للكرملين وستالين انطلاقا من نظرية «الثورة الدائمة» وضرورة قيادة الدول الصناعية عجلة التاريخ من خلال العمل على تحديث العالم وتطويره من طريق القوة اختصارا للزمن.

هذه الأفكار شهدت الرواج وسط طبقة من المثقفين الأوروبيين والأميركيين (أساتذة الجامعات) كذلك لفتت انتباه الأجهزة والمخابرات ومراكز القرار ومعاهد البحوث والدراسات الاستراتيجة. إلا أن نمو هذه الأفكار وتطورها وتحولها من اليسار المتطرف إلى اليمين المتطرف جاء بعد فترة من اغتيال تروتسكي الذي سقط قتيلا في العام 1940 بضربة «شاكوش» على رأسه نفذها كما يقال أحد المؤيدين لستالين في المكسيك.

ذهاب تروتسكي بهذا الأسلوب زاد من كره أتباعه للاتحاد السوفياتي وأخذت تظهر اتجاهات أكثر تشددا في احتقارها لستالين ولشعوب العالم الثالث وحركات الاستقلال والتحرر الوطني. وبدأت هذه الاتجاهات اليسارية المتطرفة تنظِّر لسقوط الاتحاد السوفياتي وتحارب كل دعاوى الحريات والاستقلال الوطني في أميركا اللاتينية أو إفريقيا أو آسيا بذريعة أنها تعكس عقلية «بورجوازية صغيرة» متخلفة تتحكم فيها تقاليد وعادات بالية.

هكذا تسللت المخابرات والأجهزة إلى هذه الجماعات كذلك بدأ «أحفاد» تروتسكي ينتجون مقولات ترضي السياسة الأميركية وتشجعها على الانقضاض لا على الاتحاد السوفياتي فقط وإنما على شعوب العالم الثالث التي لا تعرف معنى الحرية ولا يهمها العدالة بسبب انحطاطها الاجتماعي وتخلفها الثقافي. وبعد هذا الطور من التفكك حصل ما يشبه الانقطاع بين التروتسكية في طبعتها اليسارية وبين الايديولوجية التروتسكية التي أعيد إنتاجها لتظهر في نصوص أكاديمية وأطروحات أساتذة جامعات في أميركا أطلق عليها لاحقا تسمية «المحافظين الجدد». وهذه التسمية شهدت رواجا في عهد الرئيس ريغان الذي قاد تيار «المحافظين الجدد» بالتعاون مع ثاتشر لمحاصرة «إمبراطورية الشر».

شن الغرب الرأسمالي في تلك الفترة حربه الكبرى ضد الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي في شرق أوروبا بالتعاون مع الفاتيكان ونصوص السلطة البابوية والمسيحية. واستمر الضغط إلى أن سقطت «الاشتراكية في بلد واحد» وتفكك معسكرها في مطلع التسعينات من القرن الماضي.

سقوط الاتحاد السوفياتي ومعسكره في حرب ايديولوجية لم تستمر أكثر من عقد شجع تيار «المحافظين الجدد» ودفعه إلى مزيد من التشدد خصوصا حين تحولت الولايات المتحدة إلى قائد وحيد لسياسة العالم. الأفكار كانت جاهزة: احتقار العالم الثالث، عدم احترام الاختلاف، الإيمان بالقوة للتغيير، حرق المراحل لابد منها حتى لو أدت إلى مجازر، الغاية تبرر الوسيلة، المتغيرات لا تحصل إلا بالعنف (قابلة التاريخ)، التطور بحاجة إلى مخاض، الرأسمالية هي الأرقى وهي انتصرت وشكلت نهاية للتقدم، «الرأسمالية في بلد واحد» ستتعرض للسقوط، كذلك ولابد من ثورة عالمية دائمة تنقل البشر من مكان إلى آخر وبأسرع وقت.

هكذا تحولت أفكار «الثورة الدائمة» التروتسكية إلى مصدر يلهم تيار «المحافظين الجدد» ويبرر نظريات «الحرب الدائمة» وفرض التغيير بالقوة وتعديل حياة البشر من طريق التقويض وإعادة تشكيل وعيهم من خلال الدفع نحو نشر مفاهيم جديدة تعارض عاداتهم وتقاليدهم البالية.

هذا التطابق بين بقايا التروتسكية والنسخة اليمينية المشوهة والمتطرفة جعل الكثير من المؤرخين يعتبرون تيار «المحافظين الجديد» هم أحفاد تروتسكي... وتروتسكي هو الأب الروحي لمجموعة تكره العالم لأن العالم ليس أميركيا.

العدد 1642 - الإثنين 05 مارس 2007م الموافق 15 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً