العدد 1643 - الثلثاء 06 مارس 2007م الموافق 16 صفر 1428هـ

لا تبحثوا عن الأمن والتنمية بواسطة القانون فقط

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

حين عيّن الإمام علي بن أبي طالب (ع) مالك بن الحارث الأشتر على ولاية مصر، أمره بتحمل مسئولية أربع وظائف قائلا: «جباية خراجها، وجهاد عدوها (حفظ الأمن)، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها (والتي تقابلها في المصلح الحديث: التنمية الاقتصادية)».

كانت الظروف الأمنية ضاغطة، فقد اضطربت الأمور في مصر، وسارت نحو الفوضى الداخلية والصراع الدموي، حيث تمرّدت على الوالي محمد بن أبي بكر (رض) بعض الجماعات، وكان حديث عهد بالحرب وصغيرا في السن، لذلك استبدله الإمام بمالك بن الحارث الذي قُتل مسموما قبل تسلمه لولاية مصر. يقول ابن أبي الحديد: «وخرج معاوية بن حديج من السكاسك يدعو إلى الطلب بدم عثمان، فأجابه القوم وأناس كثيرون آخرون، وفسدت مصر على محمد بن أبي بكر».

إلا أن تقديم الإمام للأمن على التنمية الاقتصادية (عمارة البلاد) هنا ليس اعتباطا، ولا تعود للظرف الأمني الذي أحاط بمحمد بن أبي بكر، بل لأن الأمن مقدمة لتحقيق التنمية، وهذه الرؤية تنسجم مع الرؤية القرآنية، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـذَا بَلَدا آمِنا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ»(البقرة:126) فقدم الأمن على التنمية ونتاجها، متمثلة في الثمرات هنا.

ولكن في حال افتقاد الطعام لحد الجوع وافتقاد الأمن لحد الموت، فان الخيار للطعام قبل الأمن لقوله تعالى: فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ?(النحل:112)، أما في موارد الابتلاء، قدّم القرآن المسألة الأمنية على بعض أهم مظاهر التنمية الأخرى التي يسعى لها الإنسان، كوفرة الطعام والمال والثمرات وطول العمر وكثرة النسل، ليدل ذلك على أن افتقاد شيءٍ من الأمن أعظم من افتقاد شيءٍ من الطعام والمال، يقول تعالى وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (البقرة:155)وقد يكون ذلك بسبب أن الإنسان يصبر على قليل من الجوع، ولكن قليلا من الخوف يشبه الكثير منه، ولذا يفضّل الإنسان أن يجوع قليلا، ولا يعيش حالة الخوف وقلة الاطمئنان، فالجوع القليل معلوم حجمه، أما الخوف فمسألة ذات بعد نفسي، فقليله قد يكون كبيرا لدى البعض، ويترك إرباكا على جوانب الحياة كلها.

وافتقاد الأمن نتيجة حدوث النزاعات والاضطرابات يقود لمزيد من التخلف والفقر، فقد: «شهدت البلدان التي تلقّت أقسى الضربات من النزاعات بين عامي 1960 و1995 هبوطا بارزا في النمو الاقتصـادي، وتخفيضـات في الإنتاج للصـادرات، وتدنـي مستويات الاستهلاك، وتضاؤل العائدات الحكومية...». (المصدر، تقرير التنمية البشرية للعام 2003) فلا يمكن تحقيق التنمية والعمارة دون إنجاز الحد الأدنى من الأمن مقدّما. غير أن هناك رابط عكسي بين الأمن والتنمية، من حيث أنّ التنمية وسيلة لتحقيق الرفاه والقضاء على الفقر وبالتالي تقليص عوامل إثارة النزاعات والجريمة.

ولكن ليس من المقبول محاولة فرض الأمن تحت دواعي تحقيق التنمية من خلال القانون فقط، خاصة إذا كان هذا القانون قانونا ظالما، لأن أكثر ما يحرك الإنسان، هو المحتوى الداخلي، فان لم توجد قناعة فكرية ورضا من قبل الشعب، فان القانون التعسفي لن يخلق إنسانا وفق ما تشتهيه الحكومة، لأن المسألة بدرجة كبيرة تكمن في داخل الإنسان. وحفظ الأمن وتحقيق التنمية يتطلب أن يتكامل الضبط الخارجي الذي تمارسه الدولة من خلال فرضها للقانون بالقوة، مع خلق دافع داخلي تلقائي يدفع المواطن لتطبيق القانون.والمقدمة لخلق هذا الدافع أن يكون القانون عادلا يرضى عنه الشعب، وأما القسر عن طريق القوانين المتخلفة والمشوبة بالعسف، لا يجدي على المدى الطويل، إنما الجدوى تتأتى من خلال تحقيق توافق وانسجام بين المجتمع الذي يتم تطبيق القوانين عليه، وبين الدولة صاحبة الحق في احتكار القوة من أجل فرض هذه القوانين. لهذا، فإنّ الإمام علي (ع) لم يقدّم المسألة الأمنية فقط على العمارة (التنمية الاقتصادية)، بل قدّم وظيفة استصلاح الشعب على التنمية أيضا، ذلك لأنّ المحتوى الداخلي أخطر بكثير من أي شيء آخر، فالمحتوى الداخلي هو الذي يدفع الإنسان نحو الطاعة أو التمرد، لأن هذا المحتوى قناعة فكرية تتحول إلى مواقف وسلوك كلما سنحت لها الفرصة بذلك.

وفي هذا الإطار، فان العديد من القوانين التي تم إصدارها على قياس واحد وتستهدف فئة واحدة تسمى المعارضة، كقانون التجمعات والجمعيات والإرهاب وقانون النشر... وغيرها من قوانين لا تنسجم مع روح العصر والإصلاح، ستعمل لاحقا على ملئ السجون مرة أخرى بالمخالفين لها، وبالتالي ستكون السلطة في حرج مرة أخرى أمام الرأي العام العالمي والمنظمات الحقوقية التي أشادت بتبييض السجون من المعارضين، وإن الاستمرار على الاتكاء على سياسة العفو لا تخلق اطمئنانا ولا تبني تأسيسا سليما في العلاقة بين الدولة والشعب.

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1643 - الثلثاء 06 مارس 2007م الموافق 16 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً