العدد 1644 - الأربعاء 07 مارس 2007م الموافق 17 صفر 1428هـ

عشرة أمتار للاعب السيرك

في العشرين من عمره، لاعب السيرك يكاد يُتوّج ملكا لفرط براعته... تمنـّى كثير من الأطفال لو أنه كان أبا لهم ، كثير من الزوجات تمنين لو أنه زوج لهن... بارع في المناورة على الحواف... يكاد يخطف القلوب والأبصار... مَرِنٌ كسمسار أيام الكساد... شهم كشاحنة... سمح، كثريٍّ في الأحلام!

أدمن دوره... لم يعد يُحسن في هذا العالم صنيعا غير امتحان موهبته أمام الحبل المعلّق على ارتفاع يكفي السقوط منه إلى تحويلك إلى شيء !.

يدور دورة قبل أن يوجّه بصره إلى حبل يبعد 10 أمتار، وبارتفاع 3 أمتار... الصالة تضج بأوركسترا التصفيق... وموسيقى رعوية تحفزه... تمنحه ضعف طاقته المفترضة... ينتشي كلما ارتفع الصراخ... كلما انتظم التصفيق... يتقدّم بسرعة متدرّجة نحو الحبل... وفي رشاقة بالغة يمسك بالحبل... يتحول جسده إلى حلزون... أربع دورات ... مع دورة مقفلة، يستوي على الأرض في ثبات وحرفنة تامتين.

يعلو صوت الجمهور، تمعن أوركسترا التصفيق... الهتافات تمنحه منشطات ذات وقع استثنائي.

لم يجد كبير عناء للوصول إلى الثروة... في الخامسة والعشرين، بات ثريّا حد الخلاعة... محجما عن حواري الجنس والبيوتات الملغّمة بأجساد برسم الفتنة والخراب... ظل محجما عن عادة السهر والتوغل في السياسة التي باتت (كار) كثيرين، فيما الحرب على الأبواب، ويُراد له أن يكون جزءا من وَقودها... لاعب السيرك سيصبح جزءا من لعبة الموت والنار والرماد ... بل هو أكثر الوقود طلبا للعب على حبل لا يراه المدفوعون إلى الجبهات الأمامية لحرب لا علاقة للبسطاء فيها بالبيان الأول أو البيان الألف في الحرب.

لا مسرح يُتوّج فيه ملكا، سوى موت يمكن أن يطلّ برأسه في أية لحظة، لا أحد يتمنى أن يكون أبا له... لا نساء يتمنين أن يكون زوجا لهن... لم يعد بارعا في مناورة جمهور الدخان والركام واستغاثاتِ محتضرين على الجبهات ... لم يعد مَرنا أمام موت يمكن له أن يمثُل في أية لحظة... لم يعد شهما كشاحنة في ظل موت بالجملة!

يجد نفسه بين فصيل لا علاقة له بالآخر... قَتَلَةٌ محكومون بالتعفن في زنازينهم سيقوا إلى الموت كي يموتوا بشرط السجّان... غرباء متسللون وجدوا أنفسهم طرفا رئيسيا في حرب لا علاقة لهم بها... لقطاء، آباؤهم في المعتم من مكان الذاكرة والعالم.

لم يعد المكان هو السيرك كي يقفز على كل تلك الفوارق والحالات... كلهم لا عبوا سيرك... فقط هي اللحظة التي تصنع منه لاعب سيرك ماهرا، فيما الآخرون متفرجون... أو ربما ماهرون في سيركهم الخاص... سيرك القتلة، والغرباء والمتسللين، واللقطاء.

يوم كأنه العصف... زلزلة تتبع زلزلة، فيما الوجوه التي أَلِفَهَا على الجبهات تسقط واحدا تلو الآخر... بدوا طارئين على الحياة... على الجبهات المعتمة بالموت والدم والدخان والتمنّي والكوابيس التي لا حصر لها.

كلما رأى الأيدي المبتورة، يتذكر يده التي باتت محور الدهشة، ومركز العالم، والمحرّك الرئيسي لسيمفونيات المناورة والحواف والتصفيق والموسيقى الرعوية التي تمنحه طاقته المفترضة. كلما رأى الرجال يتساقطون كأنهم فراشات تهوي أمام سطوة النار... تذكّر الحبل الذي كان رابضا أمامه على بعد 10 أمتار، وبارتفاع 3 أمتار، فيما هو في جحيمه الماثل يراه على بعد ألف برزخ وألف موت مقبل!

***

موكب مزدحمٌ بالأطراف الإصطناعية، تستقبله وجوه لم تكن مألوفة... لاعب السيرك وحده الذي لوّح بيدين، وبقدمين توقظ نوم الأرض، يسعى مزهوّا بطاقته الغابرة... لا أحد من الذين اصطفوا على الرصيف له صلة بحَمَلَة الأطراف الاصطناعية... موكب آيته الفوضى!

***

حشد من الصور والأعراس... صور رجال تأجّلتْ أحلامهم قبل الحرب، وبعد الحرب، تمّتْ مصادرتها، ريثما يقتنع الكبار بحقهم في الحلم كسائر الأشياء قبل سائر الناس!

لاعب السيرك ينتابه شعور بأنه «ابن العَبْدَة!»... كأنه خصيّ في قصر أمير أو قائد ائتمنه على الحريم... فيما هو قبل شهور في مواجهة وقحة مع موت أكثر وقاحة! ... بينه وبين الحبل برزخ يفصل بين بشر في عربدة الحياة، وآخرين على الخطوط الأمامية لعربدة الموت... لا مكان للمناورة في برزخ له صفة المؤجل.

يتمتم لا عب السيرك: « كنت أحسب السيرك نزهة فارغة، فيما بدا حربا. تصبح الحرب أمامها نميمة بتوقيت الشاي الإنجليزي!».

لا عب السيرك الذي بدا عريقا... المسكون بالنار والبارود والأصدقاء الذين وُسِمُوا بالأطراف الإصطناعية، قرر أن يكون أكثر شهامة من شاحنة تنقل عمّالا في طريق برية موحشة... قرر أن يكون في الصميم من المناورة على الحواف... قرر أن يتجاوز الأمتار العشرة.

***

كملايين يتم التنكّر لهم بعد مواجهات لحساب الكبار، يجد لاعب السيرك نفسه أمام اشتراطات البراعة والمناورة والحواف... يجد نفسه أمام امتحان حبله... يذهب عميقا في الروح... يجد نفسه أمام خيار الهامش، موكولا باللعب بسيرك الصغار!

***

في معتقل له صفة الفحم، وملامح النعي والجنازات، في مكان لا صفة له على الإطلاق، يجد لاعب السيرك نفسه موكولا بمجموعة خارجة على المركز!... تُوكَلُ إليه مهمة تعليقها على حبل يبعد 10 أمتار وبارتفاع 3 أمتار، يشد أطراف المجموعة بحصانيين مغوليين تم جلبهما لهذا الغرض... أحد الموكولين بالمهمة معه يشد ساقين، فيما يشد هو يدين... يرتفع الصراخ... ينتشي السجّانون كلما ارتفع الصراخ... لا أحد يصفّق في المكان... وحده لاعب السيرك - بعد يأس من موهبته - يمعن في تصفيق له صفة الخلاعة والمناورة والحواف!

* كاتب وقاص إماراتي

العدد 1644 - الأربعاء 07 مارس 2007م الموافق 17 صفر 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً