العدد 1689 - السبت 21 أبريل 2007م الموافق 03 ربيع الثاني 1428هـ

الرئاسة الفرنسية... والمصالحة مع أميركا

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

12 مترشحا يتنافسون اليوم على الرئاسة الفرنسية. ثلاثة من المترشحين ينتمون إلى أجنحة يمينية (الوسط، المتطرف، والعنصري) و9 ينتمون إلى أجنحة اليسار (البيئة، الخضر، الاشتراكي، اليساري، الشيوعي، والتروتسكي). وبسبب تعدد المتنافسين وتنوع اتجاهاتهم وبرنامجهم يرجح ألا ينال أحدهم الغالبية النسبية في الدورة الأولى لذلك سيكون هناك دورة ثانية بعد أسبوعين.

بعد أسبوعين ستدخل فرنسا محطة جديدة ومختلفة عن تلك المرحلة التي عرفت بها خلال فترة رئاسة جاك شيراك الديغولي (12 سنة) أو فترة رئاسة فرانسوا ميتران الاشتراكي (14 سنة). فهناك تحولات طرأت على بلاد الفرانك وإعادة صوغ شخصيتها السياسية وتوجهاتها الثقافية خلال ربع قرن. وأبرز مظاهر التحول أن فرنسا تخلت عن نقدها الوطني (الفرنك) لمصلحة النقد الأوروبي (اليورو). وهذا الانتقال يشكل إشارة على نمو نزعة قارية تتجاوز حدود الدولة القومية الجمهورية التي تأسست في ظل الثورة الفرنسية وتداعياتها العنيفة داخليا ودوليا.

نمو الجانب القاري في السياسة ولد ردّات فعل غير متوافقة على المصلحة. فهناك فريق يطالب بتطوير الوجه الأوروبي لفرنسا مقابل فريق يدفع باتجاه العودة إلى البوتقة القومية والابتعاد قدر الإمكان عن هموم القارة ومشكلاتها وخصوصا تلك المتعلقة بقوانين الهجرة والإقامة والانتقال. كذلك أنتج الخلاف على أوروبية فرنسا وجهات نظر تتصل بدور الدولة في القارة وموقع القارة الدولي وخصوصا في تلك الجوانب المتعلقة بالحلف الأطلسي (الناتو) ودور الولايات المتحدة العالمي وتنافسها مع الاتحاد الأوروبي في تشكيل درع الحماية للقارة أو تنظيم القوة الضاربة للتدخل في الأزمات.

شيراك خلال فترة حكمه كان يملك استراتيجية واضحة في هذه النقاط الخلافية أو التوافقية. فهو كان من أشد الدعاة إلى تطوير فكرة الاتحاد الأوروبي وتشريعها دستوريا وهذا ما فشل به. كذلك كان من المتحمسين لتشكيل الجيش الأوروبي الموحد أو على الأقل تأليف ألوية نموذجية تشترك فيها كتائب نظامية من القوات المسلحة الأوروبية، وهذا أيضا ما فشل في تحقيقه.

فشل شيراك لا يعني أن الفكرة خاطئة أو أن أوروبا أقلعت عنها. فالفكرة مطروحة ولكنها تحتاج إلى وقت للتفاهم عليها. فالقارة حتى الآن لا تبدو جاهزة ثقافيا لتقبل مشروعات سياسية تتجاوز حدود الدولة القومية ولكنها بدأت تستعد نفسيا لحصول تحولات في هذا الاتجاه في المستقبل.

مشكلة شيراك خلال فترة حكمه أنه تحمل مسئولية مواجهة نفوذ الولايات المتحدة على القارة وحاول قدر الإمكان الحد من تأثير نمط الحياة الأميركي على السلوك الأوروبي. فشيراك يحمل ذاك الإرث الديغولي الذي كان يركز على نوعين من الاستقلال السياسي: الأول تطوير موقع فرنسا الأوروبي والثاني منع الحلف الأطلسي من التدخل في شئون القارة الداخلية.

بناء على التصورين لجأ الجنرال شارل ديغول إلى تأسيس تلك النزعة الأوروبية المجبولة بالقومية الفرنسية لمواجهة ذاك الخطر الأطلسي المتمثل في الاجتياح الأميركي النمطي والمسلكي لأوروبا. لذلك قرر الجنرال انسحاب فرنسا من الحلف الأطلسي في اعتبار أنه لا يريد مظلة أميركية فوق بلاده.

التمايز عن أميركا تواصل في عهد ميتران على رغم أن الرئيس الاشتراكي كان أقل حماسة للقومية الفرنسية والاستقلال الأوروبي. فالإرث الديغولي كان يملك احتياطا من المؤيدين ما يكفي لإعادة إنتاج ذاك الحرص الفرنسي على تكوين قوة ذاتية تتحرك في إطار اتحاد قاري يقاوم الضغوط الأميركية وينشط في هامش دولي يتمايز عن سياسة الهيمنة التي أظهرتها الولايات المتحدة دوليا من خلال قوتها العسكرية وتدخلاتها المباشرة.

هذه الهواجس الديغولية تبدو الآن في طريقها إلى الاضمحلال في مرحلة ما بعد خروج شيراك من قصر الإليزيه. فالمترشح اليميني المرجح فوزه (ساركوزي) يميل إلى نوع من المصالحة مع الولايات المتحدة تشبه كثيرا توجهات رئيس الحكومة البريطاني طوني بلير. والمترشحة اليسارية (روايال) في حال فوزها ليست حريصة كثيرا على ذاك التمايز والاستقلال المتوارث من عهد ديغول. فهي ليست أميركية الطابع وضد الطبعة الفرانكفونية لتيار «المحافظين الجدد» ولكنها لا تملك تلك التصورات الاستراتيجية التي حرص شيراك على الدفاع عنها خلال فترة حكمه ونجح فعلا في إظهار قوتها في أكثر من مكان وأزمة.

أقل أوروبية وأكثر أميركية

فرنسا إذا في المرحلة المقبلة ستكون أقل أوروبية وأكثر التحاقا بالسياسة الأميركية وخصوصا إذا فاز ساركوزي الذي يمثل الوجه الفرانكفوني لتيار «المحافظين الجدد». وهذا التحول الفرنسي سيصب دوليا في مصلحة واشنطن و «شرق أوسطيا» في مصلحة تل أبيب. حتى المنافس جان ماري لوبين (المترشح اليميني العنصري) حذر في خطاب أخير له من مخاطر فوز ساركوزي على منطقة «الشرق الأوسط». فهذا المترشح المعادي للمهاجرين العرب والمسلمين في فرنسا أبدى مخاوفه من انجرار ساركوزي نحو المحور الأميركي - الإسرائيلي وتوقع أن يؤدي فوزه إلى تشجيع الولايات المتحدة على خوض حرب ضد إيران وتأييد «إسرائيل» في عدوان على لبنان. وكشف لوبين في خطابه أن ساركوزي ساهم في إقناع أو منع شيراك من إرسال وفد فرنسي للتفاوض مع طهران ونصحه بعدم الإقدام على هذه الخطوة حتى لا ترتبك واشنطن في سياستها الإقليمية.

الالتحاق الفرنسي في السياسة الأميركية مسألة خطرة. والالتحاق يمكن أن يشكل ذاك الضوء الأخضر لمجموعة تحركات أحجمت إدارة جورج بوش على اتخاذها خوفا من ردة فعل دولية يقودها شيراك بالتعاون مع روسيا وإيطاليا وإسبانيا. غياب شيراك عن الإليزيه سيعطي فرصة لواشنطن باستعادة زمام المبادرة جزئيا لأن حليفها الفرنسي الجديد سيطلق يدها في أكثر من ملف، كذلك سيفتح الباب أمام رياح يرجح أن تنعش تيار «المحافظين الجدد» في أميركا بعد تلك الضربات التي أوجعته ودفعت بالكثير من قيادته إلى الاستقالة أو الترنح.

من الآن يمكن رصد الكثير من الملفات «الشرق الأوسطية» التي يحتمل أن يتفاوض بشأنها ساركوزي مع «البيت الأبيض» في حال فاز في الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية. هناك الملف الإيراني مثلا إذ يرجح أن يتخذ ساركوزي مواقف مؤيدة بشدة للسياسة الأميركية. وهناك الملف الفلسطيني وهو يميل فيه إلى تأييد تل أبيب ودعم حكومة إيهود أولمرت في سياستها السلبية والاحتلالية ضد الشعب الفلسطيني. وهناك الملف اللبناني واحتمال أن يتخذ ساركوزي سياسة لا تبدي ذاك الحرص على دعم الدولة والسيادة وحماية أمن بلاد الأرز. فالرئيس الفرنسي الجديد سيكون مادة طيّعة وقابلة للتفاوض مع أميركا و «إسرائيل» لمراجعة الملف اللبناني وربما تمزيقه محليا وتوزيعه ليكون ساحة تتجاذبها قوى إقليمية على غرار ما كان عليه لبنان منذ العام 1976.

هذه الترجيحات كلها خاضعة لنتائج الانتخابات الرئاسية التي ستعقد دورتها الأولى اليوم. ولكن تبقى هناك مجموعة أسئلة مطروحة من نوع هل سيتم تمرير هذه التحولات بالتفاهم والتراضي أو من طريق استخدام القوة؟ لوبين لم يستبعد الحرب (أو الحربين) في «الشرق الأوسط» في حال فاز ساركوزي. فهل الوضع الدولي في تركيبته الجديدة المحتملة يتحمل عودة سياسة الحروب كما كان الأمر في مطلع عهد جورج بوش، أم أن الظروف الدولية تجاوزت تلك الأنواع من الحلول وبات «الشرق الأوسط» في جاهزية سياسية تسمح له بالتفاوض لإعادة إنتاج تسويات إقليمية معقولة ومقبولة من مختلف الأطراف؟

السؤال يحتاج إلى أجوبة. والأجوبة المطلوبة لم يوضحها صراحة كل المتنافسين على الرئاسة الفرنسية. 12 مترشحا تجنبوا الكلام عن سياساتهم الأوروبية و «الشرق أوسطية» والدولية وفضلوا تركيز أنشطتهم وخطاباتهم على الجوانب المحلية التي يحبذ دافع الضرائب والناخب سماعها. هذا التهرب يؤكد على وجود مخاوف من قلق ناتج أصلا عن خروج شيراك من قصر الإليزيه وعدم وجود بدائل جاهزة لإعادة رسم استراتيجية دولية فرنسية تأسست منذ زمن ديغول. وفي المحصلة لا يستبعد أن تدخل فرنسا لحظة فراغ لفترة زمنية وهي في كل الحالات ستكون كافية لواشنطن حتى لو جاءت الردود لاحقا باتجاه يخالف سياسة جورج بوش.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1689 - السبت 21 أبريل 2007م الموافق 03 ربيع الثاني 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً