العدد 1696 - السبت 28 أبريل 2007م الموافق 10 ربيع الثاني 1428هـ

لماذا أقصى اليسار أو أقصى اليمين؟

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

أكثر ما يخيف في المرء، تطرفه في الحب أو مبالغته في البغض، لأنها غالبا ما تدلل على أن هذا الموقف لم ينطلق من قاعدة فكرية صلبة عكست هذه المشاعر المتطرفة، بل سطحية في مستوى الفكر، قد تقلب الحب يوما ما بغضا والبغض حبا، ولهذا لم أستغرب أن أصبح أحدهم اليوم في الطرف النقيض بالضبط عن خط الأمس، فبالأمس ألّب عليه طرفا لأقصى حد وأرضى طرفا آخر لحد التخمة، واليوم بالعكس تماما.

إلا أن الإمام محمد أبوزهرة وهو يحلل إحدى الظواهر المتعلقة بحركة الخوارج وشدّة تطرفهم، يضيف سببا آخر، إذ يرى أن جزءا من الدوافع والأسباب من وراء تطرّف البعض ونقلتهم الواسعة دائما من ضفة إلى ضفة أخرى والتي لا تقبل الوقوع في الوسط مطلقا، يرجع إلى وضعهم المعيشي الذي طبع تفكيرهم فانعكس على سلوكهم بطريقة معينة تدفعهم إلى التطرف في المواقف. فيتناول صفات الخوارج كقسوتهم الشديدة في خصومتهم مع نظام الحكم، فيرجع سبب هذه القسوة إلى حالهم البائس وفقرهم الشديد، فهم لا يملكون ما يخشون عليه من الحاكم، ولا أمل لهم فيما عنده من نعيم. معيشتهم البائسة في بيدائهم دفعتهم إلى هذه الخشونة والجفوة في التعامل مع الأطراف المخالفة لهم، ويرى أنهم لو عاشوا عيشة رافهة فاكهة في نعيم، لخفف ذلك من غلواء تطرفهم. ويستشهد أبوزهرة بحادث مفاده أن زياد بن أبيه بلغه عن رجل يكنى أبا الخير «من أهل البأس والنجدة أنه على رأي الخوارج فدعاه وولاه ورزقه أربعة آلاف درهم كل شهر، وجعل عمالته في كل سنة مئة ألف، فكان أبوالخير يقول: ما رأيت شيئا خيرا من لزوم الطاعة، والتقلب بين أظهر الجماعة، ولم يزل واليا حتى أنكر منه زياد شيئا، فتنمر لزياد فحبسه، فلم يخرج من حبسه حتى مات».

النقلة الكبيرة من ضنك العيش إلى رغيد النعم، تدفع البعض في العادة لاتخاذ منهج تبريري متشدد عن طريق فتح جبهات وحروب لا تنتهي بغالب ولا مغلوب مع من لا يخاف شرّهم من بني جلدته، حروب ترضي أطرافا يسعى لاستراضائهم بعد نقلته الواسعة إلى الطرف الآخر من الضفة الأخرى وتبعد عنه كل ما يعكّر صفو الوضع الجديد. وفي سبيل إرضاء المحيط الجديد، يأخذك العجب من محاولات هذا النفر في تمييع كل مفهوم وتوهين الثوابت في سبيل التماهي مع متطلبات هذا المحيط ولو بليّ أذرع الدين وتحريك مرتكزاته لتنسجم مع تفاصيل الوضع القائم، أو تتوافق مع كل قادم من هنا وهناك من فكر ونظم وضعها الإنسان.

حتى الغرب لم يتصلب في الجمود على النظم الحياتية التي أخذته إلى معارج التقدم والرقي، ولم يتوقف تماما عند الفكر الذي بزغت منه هذه النظم، بل تخلى عن بعضها يوما ما، فاستبدل - على سبيل المثال - الكثير من مبادئ الرأسمالية بأفكار جون كينز، وذلك عندما وجد في تصلبه خسارة فادحة لصالح المد الشيوعي، كما حدث في بداية أربعينات القرن الماضي حين عصفت الأزمات الاقتصادية بالعالم الغربي، فأقر تدخل الدولة والضمان الاجتماعي. بينما عقلية التطرف التي يذمها هؤلاء وهي ملتصقة بهم، تدفع بعضهم دائما إلى البحث عن مفردات إسلامية، ثم يصبها في إطار ينتقيه انتقاء مما يعجبه من فكر غريب عن الإسلام بعد أن يبتعد عن الخطوط الحمراء فيما يصطدم مع الوضع السياسي القائم، ثم يدّعي أن ذلك هو الإسلام. وهو بذلك أصبغ قدسية دينية من حيث لا يعلم على أفكار ونظم صنعها الإنسان من خلال نسبها إلى الإسلام أو نسب الإسلام إليها، وبالتالي فإن من يعارضها يعارض الدين ويعارض تعاليمه المقدّسة. إذا، وقع فيما أراد الهروب منه وطالما بالغ في التظاهر أنه ضده، وبهذا النمط من التفكير المتطرف يمكن استيعاب سرّ لهجته العنيفة ضد الذين يُفترض أنه أحدهم، بالضبط كما كان سابقا في العنف لدرجة الإفراط مع الأطراف الذين أصبحوا اليوم زملاء عمل. السيدفضل الله حين قدّم فكرة دولة الإنسان بدلا من دولة الإسلام، برر ذلك كون الأول هو المتاح، ولكنه لم يدّعِ أن دولة الإنسان هي الإسلام عينه، كما يفعل هذا النفر من الكتّاب. إنه البحث عن القدر الذي يتم التوافق عليه مجتمعيا في هذا العصر، ولا يمكن عمليا إجبار الغالبية على ما لا يرتضونه، سواء كان موافقا تماما لرأي الإسلام أم مخالفا له.

حتى الرواية المعروفة الواردة عن الرسول الأكرم (ص) ونصها: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله»، زعم أحد هؤلاء أنه حديث باطل حين قارنه مع آية «لا إكراه في الدين» (البقرة 256)، وكأنه لم يعلم أن الرسول (ص) قال وفعل أكثر من ذلك بكثير فشنّ الحروب على مشركي الجزيرة العربية وغيرها، وأهدر دماء من نالوا منه حين فتح مكة.

هذه أمور لا يمكن نكرانها ونكران حدوثها، لهذا فإن الاستمرار على هذا المنهج في نفي الوقائع التاريخية، ونفي الأحاديث الشريفة، ومن ثم الوقوع في مئات التناقضات، قد يقود المرء في نهاية المطاف إلى ضياع الهوية وفقدان المرجعية الفكرية والكفر بكل شيء. بينما بالإمكان الاستشهاد بما ذهبت إليه طائفة عظيمة من علماء المسلمين من حرمة إجبار الآخرين على الدخول في الإسلام وذلك حين حرّموا الجهاد الابتدائي، واقتصروا على الجهاد الدفاعي فقط في حال غياب المعصوم، وهذا يكفي لإظهار الإسلام بالصورة التي يريدها هذا الكاتب، وأما إذا وُجد المعصوم فهو مصدر التشريع وهو أعلم بتكليفه، وبالتالي ما الذي يُضير من هذا الحديث والمعصوم غير موجود حاليا بيننا؟

مصيبة من يقعون ضحية هذا النوع من التفكير المتطرف، أنهم منفتحون، ولكن من جهة واحدة فقط، ولهذا فديدنهم الزئير كأُسُد الغابة في وجوه المخالفين لهم، فيرميهم أحدهم بمختلف النعوت السلبية، فهم الذين يصوبون المسدسات على رقاب العصافير، وهم الذين يوأدون حرية التفكير... في حين أنه ليّن العريكة، متسامح لأقصى الحدود مع الأطراف الأخرى، غاض طرفه عن تجاوزاتهم، بالضبط كما كان بالأمس مع أخطاء المحسوب عليهم. إن عقلية التطرف مؤشر على ضحالة القاعدة الفكرية التي تشكل سلوك ومواقف ومشاعر الإنسان، يقول الإمام علي (ع): «لا ترى الجاهل إلا مفْرِطا أو مفرِّطا».

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1696 - السبت 28 أبريل 2007م الموافق 10 ربيع الثاني 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً