العدد 1703 - السبت 05 مايو 2007م الموافق 17 ربيع الثاني 1428هـ

من خيارات التوحش إلى الهوية المرنة

القومية... مصنع الأصالة المزيف

كما يفتي ابن لادن - مثلا - و«يخرج» جميع الذين لا يرون رأيه، من «الأمة» أي من «الدين» يفتي النظام العربي، ويخرج جميع الذين لا يرون رأيه، من الدولة، وأحيانا من «العمل» ومن «الوطن» نفسه. و«الإخراج» في الحالتين قتل، أو نوع من القتل.

إنها لغة التأويل السائد لمفهومات «العروبة» و«الوحدة» و«القومية» و«السلطة» و«الوطن» - الوطن، خصوصا. ونعرف أن هذه المفهومات - الشعارات تحفل بالتناقضات. ففي «الوطن العربي الواحد»، لا يستطيع العربي المواطن حتى أن يتنقل، بحرية، بين بيته في الرياض أو دمشق أو بغداد، وبيت صديقه أو قريبه في الكويت أو الجزائر. فمن أين له، بالأحرى، أن يسكن أو يعمل بحرية في هذا «الوطن العربي الواحد»؟

وهي نفسها «اللغة» التي تقود الحياة العربية قيادة لا بد من أن تكون مؤسسة على «التجمهر الأعظم» و«الكهانة العالمة» و«الدهماوية العاملة» و«السحر المنتصر» - سياسة وثقافة.

إنها لغة «اللاشيء». وهي مع ذلك الأكثر قوة وفاعلية، على صعيد الواقع، من أي شيء.

أدونيس

تبدو صناعة «الأصالة» مرتكزا رئيسا في صناعة الهوية. والتي بالتأكيد هي القيمة الرئيسة في تشكيل وافتراض أي قومية ما. وتصنف صناعة «الأصالة» بأنها عملية إنتاج وتنازع مع المعنى، وتتسم على الدوام بفضائها المفتوح. وتحتاج حتى تتم هذه «الصنعة» إلى ممارسة نوع من أنواع الاصطناع «النقوي» - من النقاء -، فتكون «أنت» بمثابة «النقي» «الطاهر» «الفريد من نوعه» أمام ذلك «الدخيل» و»الملوث»، الذي هو بطبيعة الحال ذلك «الآخر».

من هنا، يكتسب القوميون الإيرانيون صنعتهم في احتقار «العربي» و»الآخر». ومن هنا، ينوي «جيرينوفسكي» مثلا تحرير تركيا وإيران وباكستان إذ ينتهي به المطاف بصفة «المخلص». وهنا ننتهي نحن في قديمنا الجديد دائما، عبر دعاوى ما يعرف في أروقة حقولنا السياسية بـ القومية العربية.

لابد وأن تحتوي أي قومية - مهما كان منشأها - على فكرة إسنادية قوامها ومعتمدها عملية إنتاج لـ «الأصالة». فلا يمكن أن يكون ثمة «قومية عربية» إلا شرط أن تكون ثمة «أصالة» ما تحملها وتنشأها لنا «اللغة» في مفردة «عربية» أو «العرق» أو «الدم» أو حتى «اللون». وحتى لا نتجاوز جزئية مهمة، وجب أن نبين حقيقة ما استكمال الحديث في زاوية هذه القراءة، وهي أن «الأصالة» نفسها، لا تزيد عن كونها تعبيرا مرحليا يعتمد على أحكام وتأويلات خاضعة لزمكان محدد، فليس ما هو أصيل اليوم هو بالضرورة كان «أصيلا» بالأمس، وليس من الضروري أيضا في المطلق أن تستمر أصالته لغد، وهو ما يعتبره «بيترسون» في قراءته للقوميات وأنماط تشكلها بصفته عملية «بناء اجتماعي، ومصطلح يشوه الماضي جزئيا».

الماضي لم يكن ليرى نفسه أصيلا أو استثنائيا في زمكانه، وحدها دعاوى التأصيل تتطلب بالأساس أن نحاول إعادة قراءة الماضي بنوع من التشويه المتعمد لتعاد عملية إنتاجه من جديد بصفات وخصائص لم تكن فيه أصلا، فيغدو الماضي هنا خالدا/ عظيما/ استثنائيا/ طاهرا/ قويا. حتى وإن كان أي توصيف موضوعي للماضي يتقاطع مع هذا الزعم بالأساس. وأضف إلى عملية التشويه هذه بعدان آخران لا بد وأن تكون تنظيرات هذا التشويه مرتكزة عليها. الأولى التبشير بإمكانية العودة للأصالة الماضية، والثانية إبراز قيمة عدوانية لآخر محتمل يعمل على كبح جماح هذه العودة، ويوظف الخطاب العربي (الاستعمار/ الدول العظمى) بوصفهما العدو المتربص بهذه العودة الضرورية والمحورية.

ويصنف «وارنر» هذه العودة الإنتقائية الكاذبة للماضي باعتبارها «رد فعل إنتقادي للحاضر». وهي ليست مقتصرة على من يعيشون حالة - كالحالة العربية بإمتياز - من اللتوازن أو اللإستقرار جراء النظام العالمي الجديد، بل هي حالة ثقافية متعددة قد تشتغل في أي حقل من الحقول الاجتماعية الفاعلة وليس في مستوى السلطة «السياسي» فحسب.

الزاوية الثانية التي أحاول تغطيتها هنا هي زاوية الفصل والتحديد الدقيق في صناعة الأصالة بين القيمة الإجتماعية والقيمة السياسية، وبلغة أكثر تحديدا، لابد من مناقشة قيمة ما تتم صناعته في هذه العملية بوصفه مكونا اجتماعيا كلاسيكيا وليس سياسيا بالضرورة.

يؤكد الأكاديمي العراقي عامر حسن فياض في مقالته بعنوان «جدلية العلاقة بين الاستقلال والديمقراطية في الخطاب السياسي العراقي المعاصر» التي حال من خلالها سبر المشهد السياسي في العراق عبر حسم جدلية الهويات لصالح تغليب الهوية الوطنية العراقية، يؤكد على ضرورة «مبدأ الاقرار المجتمعي بحقيقة التنوع في مكونات المجتمع العراقي (قوميا، دينيا، سياسيا). - مبدأ الاقرار المجتمعي بحق الاختلاف وليس الخلاف بين المكونات المتنوعة للمجتمع العراقي. ـ مبدأ هيمنة التنظيمات العصرية على التنظيمات التقليدية، كيما تعبر المكونات المتنوعة (القومية - الدينية - السياسية) في المجتمع العراقي عن مصالحها ومطاليبها ومطامحها من خلال هذه التنظيمات، أي من خلال مؤسسات المجتمع المدني (احزاب - نقابات - اتحادات - جمعيات - منتديات - روابط... الخ) وليس عن طريق تنظيمات تقليدية (عشائرية - طائفية - قومية - عنصرية) مع الاحتفاظ بحق هذه المكونات التقليدية في ان تعبر عن مصالحها، بوصفها مكونات ذات منظومات اجتماعية وليس سياسية».

وثائق النظام العراقي الجديد تعتمد على ذات السياق الذي يذهب له فياض. إلا أن الأخير يقترح علينا ما يسميه بـ «الهوية المرنة». وهي بحسب تعبيره الهوية التي «تجمع لتمثل وترضي المكونات المجتمعية المتنوعة (سياسيا وقوميا ودينيا) داخل هذه الوحدة السياسية (أي الدولة)».

لكن، هل تبدو الهوية المرنة نقيض القومية الواحدة/ الأصالة/ الدين الواحد. لابد وأن تكون دلالات الهوية المرنة التي افترضها فياض قادرة على الولوج بالتناسب المكمل للهوية الجامدة، ولما ينتج عنها. إذ أن هذا الاندماج والتكامل والتصحيح هو ما سيضمن أن لا تلغي الهوية المرنة أو تقصي أو تتجاهل أيا من الهويات الأخرى.

قد يتم إسقاط الهوية المرنة على الهوية الوطنية، إلا أن الوطن والمواطنة والمواطنية كلها مناطق مشوبة بعمليات إعادة الإنتاج التي تكفلت بصناعة «الأصالة» لدعاوى القومية. وإذا كان فياض يحاول إعطاء الهوية الوطنية دلالة سياسية على حساب الهويات الأخرى التي هي اجتماعية بالضرورة فإنه لا يقيم خط الاتزان الأخير في تشكل الهوية الوطنية. وهو ما يجعل الهوية المرنة مصطلحا أكثر رحابة من أن يضيق بالسياسي فقط، لذا سيكون لهذه الهوية أن تزداد فعالية في الثقافي والاجتماعي على حد سواء.

أزعم أن استثمار الهوية المرنة «ثقافيا» وتدعيمها - رغم صعوبة الخيار - في تكسير الهويات الجامدة أو المتصلبة هو الخيار الأقدر على إعادة إنتاج الهوية السياسية بما يضمن الوصول إلى نظام سياسي عقدي متجاوز لجميع الدعاوى القومي الدينية أو العرقية.

إن عملية إعادة الإنتاج للهوية ثقافيا، وجعلها في مصنع دائم الحركة نحو التغيير والتعديل هو بالتأكيد الرهان الأقدر على تكسير جمود الهويات المتوحشة، التي تعتمد في توحشها على ميتافيزيقيات مصطنعة تتمثل في الدين واللغة والدم والعرق، ولا تبدو فرص نجاح الهوية الوطنية بوصفها هوية مرنة قائمة ما بقت الهوية متوحشة في «الثقافي» و«الاجتماعي» خصوصا.

العدد 1703 - السبت 05 مايو 2007م الموافق 17 ربيع الثاني 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً