العدد 1703 - السبت 05 مايو 2007م الموافق 17 ربيع الثاني 1428هـ

العراق وخيارات المستقبل الصعب

إن المشهد العراقي غير مشجع، ومستوى العنف والاحتراب الداخلي أعلى بكثير مما تود المصادر الحكومية الأميركية والعراقية الاعتراف به علنا. واستطلاعات الرأي الأخيرة بما فيها التقارير الدورية الأخيرة الصادرة عن وزارة الدفاع الأميركية، تلقي الضوء على ما بلغه التنازع الداخلي بين العراقيين، فضلا عما يسيطر عليهم من مخاوف وقلق. في الوقت ذاته، فإن استطلاعات الرأي للعراقيين تظهر أن غالبيتهم - ما عدا الأكراد - مازالوا يفضلون وجود شكل من أشكال الوحدة الوطنية وليس الفيدرالية أو الانفصال. كما أن أكثرهم مازالوا يأملون في المستقبل. والمسألة الحقيقية الآن، مدى تمسك الإدارة الأميركية باستراتيجيتها الحالية، وأن أي أمل في نجاح الفعل الأميركي ينبغي قياسه بلغة الشهور وليس السنين.

إن الولايات المتحدة تواجه مشهدا ضبابيا في العراق، فالأمن مجرد جزء من القصة، وحتى أمن بغداد أمر غير يقيني. وحتى لو نجحت الولايات المتحدة في منطقة بغداد الكبرى، فعلى الكونغرس والشعب الاميركي أن يتقبلا أن المهمة لن تكتمل حتى يونيو. وسيستغرق شهورا حتى يتمكن الجيش العراقي من أخذ مواقعه واستعداده للقيام بالمهمة، وستظل قوات الشرطة العراقية غير فعالة إلى حد كبير، بحيث تظل المساعدات والدعم الاميركي حتى أغسطس أو سبتمبر. ولن تكون الحكومة العراقية قادرة على توفير الخدمات والحضور الفعال في المدينة والمناطق المحيطة بها. ولن يكون من الممكن رؤية ما يحققه دمج القدرات في مواجهة أعمال التمرد حتى ربيع 2008 في أقرب الأحوال. المتمردون والمجموعات المقاتلة ربما تضعف أو تقمع خلال ذلك، ولكنها ستبذل كل ما بوسعها من ردود فعل. كما أن الاستراتيجية الاميركية تعتمد على وجود مقاومة شيعية محدودة، وعدم إثارة أية مقاومة شعبية واسعة سواء من السنة أو الشيعة على أية أحداث عرضية في أحسن الاحوال.

العسكريون الأميركيون دأبوا على تكرار أن تأمين بغداد ومحيطها له أهميته ما لم تقم الحكومة والأحزاب العراقية بترتيبات للتوافق السياسي. والأمن المحلي يشتري الوقت والفرص من أجل الوصول إلى طرح متكامل لتوافقات السياسية، وان الوضع العراقي المعقد مسألة وطنية وليس شأنا محليا. أمامنا الآن أربعة أمثلة لمحاولة الحل العسكري، من دون الحل السياسي القابل للتطبيق، فقد شاهدنا الضوء في نهاية النفق في كل من ديان بيان فو، وسايغون وبيروت ومقديشيو. الاستراتيجية الأمنية الأولى غير قابلة للتطبيق، أما المعارك الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية فلن يمكن كسبها في الوقت نفسه، ولكن يجب خوضها متزامنة، ومعركة بغداد مجرد تكتيك.

وأحببنا أو كرهنا، فإن الولايات المتحدة ليس لديها مصالح استراتيجية دائمة في العراق والخليج فحسب، بل لديها أيضا التزام أدبي وأخلاقي أيضا تجاه 27 مليون عراقي. فهي قامت بغزو العراق لأسباب خاطئة، ثم حاولت تحويرها بطرق ادت إلى فظاعات للشعب العراقي. وكما كان واضحا من البداية، الغضب من نظام صدام لم يترجم إلى دعم للغزو الاميركي، ولم تحظ إلاّ بالقليل من التأييد من العرب الشيعة والحكومات العربية لأفعالها منذ الغزو. وهذا ما يجعل الكثيرين خارج الولايات المتحدة يحكمون على الحرب. وحتى لو نجحت في توفير درجة من الاستقرار في العراق، فإن غالبية الشعب العراقي وشعوب منطقة الشرق الأوسط والاوروبيين... ستظل تعتبر أميركا خسرت الحرب. فغالبية الاستطلاعات التي أجرتها معاهد قياس الرأي مثل: غالوب واكسفورد، تعتبر أن اميركا تجاهلت الأمم المتحدة، وفشلت في العثور على أسلحة الدمار الشامل، أو بناء الدولة الجديدة، والتسبب في آلام هائلة لا حدود لها. ويمكن لأميركا مواجهة هذه الصورة إذا أظهرت للعالم استعدادها للبقاء لأطول فترة من أجل مساعدة العراقيين لاجتياز سنوات من المعاناة في هذه الفترة الانتقالية. وهو ما يعني بناء حكومة عراقية وقوات عسكرية وشرطة، إلى جانب حكم حقيقي بالقانون وتقليل وجودها العسكري تدريجيا، مع تقبل حقيقة أن التقدم يجب أن يكون بأيدِ عراقية وليس بإملاءات أميركية. وهو يعني أخيرا سنوات من المساعدات الاقتصادية.

إن أميركا من المحتمل أن تخسر سريعا وتضطر للخروج مهزومة، وفي هذه الحال يجب أن تظل ملتزمة بقوة بأمن العراق ودول الخليج، مع عقود مقبلة من اعتماد الاقتصاد العالمي على موارد الطاقة في الخليج، ومع إيران التي ستسعى إلى الاستفادة من الوضع، ومع ما سيفسره الاسلاميون المتشددون من انتصار كبير. كما أن على أميركا حينها أن تتعايش مع حقيقة أنها كانت السبب الرئيسي في معاناة ملايين العراقيين.

التهديد العسكري المدني للعراق

ليس هناك وقائع سارة، ولكن مازال ممكنا أن تعكس أميركا بعض أوجه المشهد العراقي، خصوصا انه لا فائدة من تجاهلها. وفي الحقيقة إذا كان بإمكان أميركا تحقيق أية درجة من النجاح في العراق أو غيره من الحالات المشابهة في الدول «الفاشلة»، فعليها التفكير بما تؤدي إليه جهودها الحربية المدنية من تأثير على التطورات الحربية المدنية في العراق:

- إن اميركا غزت العراق وهي لا تملك تصورا للحكومة العراقية أو الاقتصاد أو الفوارق العرقية والاثنية، كما لم يكن لديها خطط أو مساعدات مالية للتعامل مع الوضع، أو القوة لفرض الأمن.

- عندما اندفعت أميركا لتصحيح الوضع، كان لها مسبقات أيديولوجية، إذ ركزت على أهدافها في الإصلاح السياسي والاقتصادي، والدستور والانتخابات، أكثر مما ركزت على الحكم الفعال.

- انها لم تكتشف الدور الحيوي للقوات العراقية في الاستقرار إلاّ مع نهاية العام 2004، ولم تكتشف احتياجات الجيش إلى عناصر ووحدات كثيرة إلاّ في العام 2005.

- كان على الجيش الاميركي أن يتحول إلى التركيز على عمليات المواجهات القتالية وتحقيق الاستقرار وعمليات بناء الأمة. وتعرّض الجيش إلى مجموعة جديدة من الأدوار في التدريبات والعمل العسكري. وكان يعاني من نقص في الخبراء والمترجمين المؤهلين.

- بدأ للتو إدراك فهم الحدود الكاملة للثروة العراقية النفطية. وعمق المشكلات البنيوية في الاقتصاد العراقي، والحاجة على إعادة البناء بطريقة تأخذ في الحسبان الحاجة لتدفق الأموال للعراقيين أكثر منها للمقاولين الاجانب.

- أشار كل من الجنرال أبي زيد وكيسي وبيتريوس في أوقات متفرقة إلى أن الانتصارات التكتيكية والجهود الحربية ليس لها دلالة من دون تقدم سياسي. والضغط الاميركي على دستور جديد جعل من الفيدرالية مشكلة أساسية، وخلق اصطفافا بين العرب السنة والعرب الشيعة، وبين الشيعة أنفسهم، وتوترا بين العرب والكرد، مع تصاعد التهديد السلفي الجديد بين السنة.

- إن الخطة الامنية هي النسخة الثالثة خلال ثمانية عشر شهرا للجهود التكتيكية لفرض الامن في بغداد. فإذا نجحت فبفضل هدوء الميليشيات الشيعية، ومساعدة القوات الاميركية لهذه الجهود، وإذا فشلت فبسبب زيادة عنف الاحتكاك بالميليشيات الشيعية. والأرجح أن نجاح الأميركيين في ذلك يتطلب خمس سنوات من الجهد والمساعدات العسكرية.

- كما كان في فيتنام، كان الحديث عن نجاحات بينما لم يكن هناك تقدم حقيقي. والحديث عن التقدم في العراق يفتقر إلى الصدقية، خصوصا أن ما يجري في بعض المناطق من تقدم يكون بطيئا بفعل ضغط الأحداث.

وكما كان الحال في فيتنام ولبنان والصومال والبوسنة وكوسوفو وافغانستان، لم تكن أميركا قادرة على تقييم دقيق لتلك التحديات العسكرية المدنية في الدول المنهارة أو «الفاشلة».

المواقف العراقية من الأميركيين

ربما كان الحكومة العراقية (السابقة) مركزية وقاسية، ولكنها لم تكن فعالة. وقد قادت نفسها إلى الإفلاس منذ مطلع الثمانينات، بما خاضته من حرب مع إيران، ثم غزو الكويت، ورفضها التالي لبرنامج النفط مقابل الغذاء، وتعرض الاقتصاد إلى السرقة والنهب، ولم تكن المشكلات العرقية والإثنية جديدة تماما، فالعرب قاتلوا الكرد منذ تأسس العراق، والاحتكاك السني الشيعي بدأ يأخذ شكلا بسيطا من الحرب الأهلية في الجنوب (العراقي) خلال الفترة 1991 - 2003. القيادة السياسية كانت تتمركز حول نفسها، والوزراء اغلبهم ليسوا ذوي أهلية، والدين غالبا منفصل عن الواقع، مع انتشار الفساد. والحقيقة تبقى أن الولايات المتحدة أرسلت ثورا ليعبث بمتجر عاديات صينية. والفشل الأميركي لايزال يتفاعل مع الفشل العراقي منذ التحرير. وهي لا تستطيع اليوم استرجاع الماضي أو استعادة الفرص الضائعة، كما تواجه اليوم مشكلات ضخمة من وجهة نظر الكثير من العراقيين.

طبيعة العنف والاستقرار في العراق

إن استطلاعات الرأي التي اجريت خلال شهري فبراير ومارس الماضيين، تكشف أن 80 في المئة من العراقيين شهدوا حدوث هجمات قريبة، من سيارات مفخخة وعمليات قنص واختطاف واشتباكات بين الفئات المتحاربة، أو إساءة معاملتها للمدنيين، بما فيها بغداد. وهناك 53 في المئة تعرض أحد أصدقائهم او أقربائهم إلى قتل أو إصابة، وواحد من كل ستة عراقيين تعرض احد أفراد عائلته إلى الأذى. وهناك أعداد كبيرة من الناس يحدون من أنشطتهم اليومية للتقليل من تعرّضهم للمخاطر.

اليوم، ثلث العراقيين لا يشعرون بالأمان، وفي بغداد نفسها التي تضم خمس السكان، 84 في المئة من سكانها لا يشعرون بالأمان. و 12 في المئة من العراقيين قالوا ان التطهير العرقي والفصل بين السنة والشيعة حصل في جوارهم، وفي بغداد كان الفصل بنسبة 31 في المئة، وهو أمر رفضه 97 في المئة من العرب الشيعة والسنة على حد سواء. وهكذا بمقدار ما تدهورت الناحية الأمنية تدهورت الآمال بتحسن الأوضاع في المستقبل. وفي العام 2004 كان الأمل يحدو ثلاثة أرباع العراقيين بتحسن الأمن والتعليم وفرص العمل والرعاية الصحية والحماية من الجرائم وإمدادات الكهرباء والماء النظيف، تراجعت النسبة اليوم إلى 40 في المئة فقط.

نظرة العراقيين للولايات المتحدة

لقد زادت نسبة العراقيين الذين يتقبلون الهجمات على الأميركيين وقوات التحالف من 17 في المئة في 2004، إلى 51 في المئة، وأصبح 78 في المئة من العراقيين يرفضون الوجود الأميركي على أراضيهم.

العرب السنة الذين فقدوا السلطة بسقوط صدام، نسبة تقبلهم لهجمات على الأميركيين هي 94 في المئة، بينما النسبة لدى الشيعة الذين وصلوا إلى الحكم حديثا هي 35 في المئة، ولدى الأكراد 7 في المئة فقط. حتى بين الشيعة هناك ثمانية من كل عشرة أشخاص لا ينظرون بعين الرضا لطريقة تولي قوات التحالف مسئولياتها. 75 في المئة من الأكراد يؤيدون الوجود الأميركي، بينما الغالبية بين العرب الشيعة والسنة يعتبرون الوجود الأميركي يزيد الأمور الأمنية سوءا. وفي الوقت الذي كان يعارض 51 في المئة من العراقيين الوجود الأميركي على أراضيهم في 2004، أصبحت النسبة الآن 78 في المئة.

العراقيون اليوم منقسمون اليوم بشأن رحيل قوات التحالف أو الانسحاب المفاجئ، فـ 35 في المئة يفضلون انسحابها المباشر، (55 في المئة بين السنة). وهناك أربعة من كل عشرة أشخاص (سنة وشيعة على السواء)، يقولون: إن عليها البقاء حتى يستتب الأمن.

هناك نقص حاد في الثقة بالقوات الأميركية والبريطانية، فهناك 82 في المئة من العراقيين لا يثقون بها، (88 بين الشيعة، و97 بين السنة)، وتهبط النسبة إلى الثلث بين الأكراد.

أما من ناحية خطة إعادة الإعمار، فهناك 67 في المئة من العراقيين يرون أن جهود إعادة الإعمار في مناطقهم غير فعالة أو لا وجود لها (وتحديدا 60 في المئة بين الشيعة، و94 بين السنة)، وعلى العكس بين الأكراد، إذ يعتبر 73 في المئة منهم إنها فعالة. العراقيون أيضا مختلفون بشأن تقييم صحة أو خطأ الولايات المتحدة فيما قامت به من غزو لبلادهم، فـ 70 % من الشيعة، و83 في المئة من الكرد تقبلوه، بينما قام بتخطئته 98 في المئة من السنة.

طريق المستقبل

إنه من المتأخر جدا إعادة العجلة إلى الوراء، فالولايات المتحدة أضاعت الكثير من الفرص فيما مضى، فعليها التعامل مع وضع معقد وشعب غاضب، وينقصها الدعم من الكونغرس والشعب، من ناحية الوقت الضروري والاعتمادات المالية وأعداد الجنود. وإذا كان ثمة حل، فإنه يعتمد على الاعتراف بمحدودية الفعل الأميركي، ما يستدعي مواصلة الجهود الحالية الممكنة، وعمل الممكن لتجنب أخطاء الماضي، وانتظار فتح نوافذ أخرى للأمل.

وعلى أميركا أن تتقبل حقيقة أن الكفاح من أجل تقدم سياسي واقتصادي أكثر أهمية الآن من العمليات الحربية.

العدد 1703 - السبت 05 مايو 2007م الموافق 17 ربيع الثاني 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً