العدد 1708 - الخميس 10 مايو 2007م الموافق 22 ربيع الثاني 1428هـ

سلبيات الفكر القومي في طبعته الأوروبية

منطلقات المشروع العربي للوحدة القومية(2)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

عقد «المؤتمر القومي العربي » جلسات الدورة الثامنة عشرة في المنامة بين 28 و30 أبريل/ نيسان الماضي ناقش خلالها «حال الأمة» وما آلت إليه أوضاعها على مختلف المستويات الوطنية والسياسية والأمنية والأهلية. ودعا المؤتمر في بيانه الختامي إلى اطلاق مشروع نهضوي للأمة العربية.

وفي مناسبة إنعقاد المؤتمر طرحت سجالات تتصل بالأسباب التي أدت إلى فشل الفكرة وعدم توصل الشعوب العربية إلى تحقيق حلم الوحدة.

والمقال المنشور يستعرض العوامل التي ساهمت في تعطيل المشروع العربي في بداياته الأولى.وهنا الجزء الثاني والأخير.

ضمن هذه الوقائع المتوارثة أخذ الفكر القومي في طبعته الأوروبية يتسرب إلى أدبيات النخبة العربية المعاصرة. وفي ضوء الاقتباس والنقل والترجمة انتشرت تلك النصوص التي خلطت المفاهيم وحددت تعريفات غير واضحة للفكرة «القومية العربية». فالبعض ربطها بالدين (عروبة الإسلام). والبعض عزلها عن الإسلام وربطها بالجنس. والبعض حددها باللغة العربية. وهناك من ربطها بالإدارة المركزية ودعا إلى اللامركزية. وهناك من ربطها بالدعوة إلى إصلاح السلطنة رافضا التجزئة والتقسيم. وهناك من اعترض على محاولات تتريك العرب مطالبا بتصحيح نسبة التمثيل العربي في مجلس المبعوثان (البرلمان العثماني). وهكذا.

أدبيات نخبة

إلى غموض تعريف الفكرة وعدم التوافق على أهدافها، كان الوطن العربي آنذاك يتعرض لحملات غزو أوروبية عطلت على النخبة إمكانات تطوير الفكرة في مشروع سياسي. فالدعوة إلى إصلاح السلطنة اصطدمت بتلك الهجمات التي قادتها الدول الأوروبية وتحديدا بريطانيا وفرنسا للاستيلاء على الثغور العربية والتحكم من خلالها في خطوط المواصلات البحرية والتجارة الدولية. والمطالبة بالاستقلال عن السلطنة اصطدمت بدورها بتحديد هوية الدولة البديلة ومكانها ونظامها ودستورها وجغرافيتها وبيئتها الثقافية.

آنذاك كانت السلطنة تعرضت لضربات عسكرية ابتداء من أوروبا الشرقية والبلقان وشرق البحر المتوسط وانتهاء بالمحيط الأطلسي وغرب المتوسط وصولا إلى الخليج وعدن والبحر الأحمر. وحين كانت ألمانيا تتجه نحو تحقيق وحدتها القومية على غرار فرنسا وبريطانيا كانت المنطقة العربية تتهاوى ولاية بعد ولاية لتسقط تحت الاستعمار الأوروبي المباشر. هذه المفارقة السياسية شكلت نقطة ضعف للمشروع العربي البديل. فالفكرة القومية كانت تدعو إلى الوحدة العربية على حين الأراضي العربية تغادر السلطنة العثمانية لتقع أسيرة الاستعمار الأوروبي الحديث.

أدت هذه المفارقة التاريخية إلى تأزيم الفكر القومي العربي منذ ولادته وبداياته الأولى. فالمشروع يتطلب دولة بديلة تقوده والدولة العربية غير موجودة. والمشروع أيضا يتطلب جغرافيا تتأسس عليها الدولة والجغرافيا العربية كانت تتعرض لغزوات استعمارية تستولي على الأمكنة العثمانية ولاية بعد ولاية.

كل هذه السلبيات اجتمعت باكرا لتقوض الفكرة في مهدها. وبسبب سياسة التقويض الدولية انهار المشروع وتوزع على دوائر مذهبية وطائفية وعشائرية ومناطقية ضيقة. كذلك تحولت الفكرة إلى مشروع سياسي أدبي يتنافس الشعراء على مدحه والمطالبة به بوصفه واقعا بحاجة إلى انجاز أو حلم يحتاج إلى رجال أقوياء وشجعان لتحقيقه في المستقبل. لذلك تأسست في زوايا الفكر القومي المعاصر مجموعة مشروعات سياسية غير متوافقة على هوية الدولة وحدودها الجغرافية وبيئتها الثقافية. فهناك من دعا إلى «المستطيل العربي» الذي يجمع بلاد الشام والعراق والحجاز. وهناك من دعا إلى قومية عربية سورية (المشرق العربي فقط). وهناك من دعا إلى قومية عربية تجمع العراق وسورية من دون مصر والحجاز.

الفكرة القومية إذا لم تكن واضحة المعالم فهي خلطت بين العروبة الثقافية اللغوية والعرب في تكوينهم الجنسي والقبلي والتاريخي. كذلك خلطت بين الكيان السياسي (الدولة القِطْرية الوطنية) والمشروع القومي الكبير فأدى إلى ظهور نزعة انعزالية تفصل بين الكيان الصغير والاتحاد العربي الكبير كما هي حال لبنان أو مصر أو تونس وغيرها من البلدان العربية.

مشكلة الفكرة القومية العربية المعاصرة أنها جاءت في لحظة تاريخية كانت فيها المنطقة تشهد مرحلة هبوط وانقسام وانحسار سلطنة لمصلحة قوى عظمى أخذت بتعبئة الفراغ «العثماني» وتبسط سيطرتها المباشرة على الأرض.

الفكرة القومية في أوروبا جاءت في لحظة صعود تاريخية وقادتها الدولة لتحقيق وحدة السوق والمصلحة العليا المشتركة فأصابت النجاح. بينما الفكرة القومية في الوطن العربي جاءت في لحظة الانهيار والتفكك والفوضى السياسية وانعدام وجود ثقافة مشتركة وانكفاء الدولة (المركز) وتبعثرها على مراكز قوى محلية فاكتملت عدة الفشل وتمزق المشروع على هويات ضيقة وتحول إلى فكرة تحلم بها الأجيال... منذ البدايات الأولى.

عثرات وخيبات

حين انتقلت الفكرة القومية في طبعتها الأوروبية المعاصرة إلى النخبة العربية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر تم التعامل معها وكأنها بدهية منجزة. فالنخبة نظرت إلى الوحدة العربية وكأنها موجودة في الواقع وتتطلب بعض البلورة لإخراجها من باطن الأرض. ولكن حين انتقلت الفكرة من النظرية إلى التطبيق طُرحت أسئلة قوية عن الهوية. من هو العربي؟ بعدها جاءت مسألة المكان (جغرافية المشروع) وحدود الدولة. بعدها جاءت معضلة الدولة وشكلها وحجمها ومؤسساتها وتعاملها مع السلطنة العثمانية المتراجعة والنفوذ الاستعماري المتقدم.

شكلت هذه الصعوبات الميدانية ضرباتٍ موجعة للفكرة منذ بداياتها. وتأسست في ضوء الخلافات النظرية (التعريفية) مجموعة جمعيات وأندية واجتهادات وأدبيات توافقت على الإطار العام وتعارضت في التطبيق. فالكل مع وحدة العرب ولا أحد يعرف حدود العرب ومن أين تبدأ جغرافية الدولة العربية وأين تنتهي. مثلا فكرة مشروع الوحدة «من المحيط إلى الخليج» لم ترد مطلقا في أدبيات النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فآنذاك كانت السلطنة انكمشت عن المغرب العربي ونجحت فرنسا في الاستيلاء المباشر أو من طريق فرض وصايتها السياسية في السيطرة على المغرب والجزائر وتونس. وكانت بريطانيا نجحت في فرض وصايتها على مداخل الخليج وبحر العرب ومضيق عدن وبدأت تخطط للاستيلاء على مصر والسودان.

حدود السلطنة العثمانية آنذاك تراجعت سياسيا عن الكثير من المناطق الجغرافية العربية. و «العثمانية» في هذا المعنى اقتصرت في تلك الفترة على بلاد الشام (المشرق العربي) والعراق في وقت كان نفوذها في الحجاز واليمن يتعرض لضغوط محلية وأجنبية. أما مصر فكانت خرجت من تحت المظلة العثمانية في العام 1840 حين نجحت أسرة محمد علي في تأسيس دولة شبه مستقلة عنها.

هذه الظروف الجغرافية فرضت شروطها السياسية على الفكرة القومية ووضعتها في سياق محدود لم يتجاوز حدود السلطنة العثمانية في بقايا الولايات العربية. لذلك ارتبكت النخبة في تعاملها مع هذا الواقع. فالدعوة القومية اقتصرت عربيا على الجغرافيا السياسية العثمانية ولم تمتد في طموحاتها إلى خارج هذه الدائرة المشرقية الا في أطروحات الأحزاب وأدبيات النخبة. فأحيانا كان العراق يدخل وأحيانا يخرج من الدائرة القومية. وأحيانا مصر تدخل في المشروع القومي وأحيانا تخرج. كذلك كان التعاطي مع موضوع الحجاز وصِلته القومية ببلاد الشام.

الدعوة القومية في بداياتها الأولى كانت قاصرة نظريا وغامضة وغير واضحة. فهي لا تملك دولة حتى تقود المشروع وتنفذه ميدانيا كما حصل في غرب القارة الأوروبية وشمالها. وهي لا تملك فكرة عن الحدود الجغرافية للدولة القومية المعاصرة. وهي أيضا حائرة بين الدعوة إلى إصلاح السلطنة والمحافظة على الهوية «العثمانية» ضمن إدارة لا مركزية، والدعوة إلى الاستقلال والانفصال نهائيا عن المركز الإسلامي في اسطنبول. وأهم من ذلك كان قادة المشروع العربي في تلك الفترة غير متوافقين على أسلوب التعامل مع الاستعمار الأوروبي الذي يهدد المنطقة بالاجتياح ويشكل ذاك الخطر المباشر على كل محاولات الإصلاح والتوحيد.

بسبب هذه الفضاءات الدولية التي عصفت بالمنطقة العربية وتحديدا في الجزيرة والمشرق تعثرت مشروعات الوحدة وفشلت كل المحاولات في توحيد الولايات العربية التي انكشفت بعد انحسار مظلة السلطنة العثمانية. وساهمت هذه العثرات المبكرة في توليد خيبات سياسية لاتزال الأمة تعاني منها منذ أكثر من قرن.

الخيبات التي تعاني منها المنطقة الآن هي نتاج تلك العثرات التي أسستها النخبة العربية في شقيها السياسي والايديولوجي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى الربع الأول من القرن العشرين. وفشل النخبة آنذاك في تحقيق الحد الأدنى من المشروع أطاح لاحقا بكل المحاولات الوحدوية والتوحيدية التي أجريت على امتداد عقود من الزمن.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1708 - الخميس 10 مايو 2007م الموافق 22 ربيع الثاني 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً