العدد 1721 - الأربعاء 23 مايو 2007م الموافق 06 جمادى الأولى 1428هـ

فتنة الشمال وخطة التدحرج اللبناني

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الانفعالات العربية وردود الفعل الدولية وتماسك الجبهة اللبنانية والوعي الفلسطيني كلها عناصر تشاطرت المسئولية في منع فتنة الشمال من الاتساع والتدحرج إلى مختلف مناطق البلد الصغير. فكل القوى والدول أعلنت رفضها لذاك السلوك المتخلف الذي باشرته فئة ضالة انطلاقا من مخيم نهر البارد. وبسبب هذا التوافق الدولي والعربي والإقليمي على إعلان البراءة من تنظيم «فتح الإسلام» أمكن الحد من الخسائر وتطويق الفتنة وحصرها في بقعة جغرافية ضيقة. وهذا الأمر يمكن ان يكون السبب الذي شجع الأمين العام للأمم المتحدة بإجراء اتصالات هاتفية تشكر الجهات المعنية على التزامها الحياد وفي الآن يؤكد دعم الهيئة الدولية للبنان. وترافق الموقف الدولي مع سياسة عربية أكدت التزامها بدعم دولة لبنان ومنع هذا البلد من الدخول في تجربة مرة تشبه ذاك النموذج الذي تأسس في بلاد الرافدين. وشكل هذا التوافق الدولي والإقليمي والعربي مظلة مشتركة سهلت عملية التفاهم اللبناني - الفلسطيني ودرء تداعيات الفتنة التي خطط لها أن تبدأ في الشمال وتتدحرج منه إلى الجنوب.

بدء تنفيذ الخطة الأمنية اللبنانية - الفلسطينية في مخيم نهر البارد في منطقة الشمال يشكل ذاك الإطار الصالح لضبط الانهيار العام الذي كاد ان يزعزع استقرار البلد ويجرجر الناس إلى معسكرات ايديولوجية تتحرك في سياقات طائفية ومذهبية. فالاتفاق اللبناني - الفلسطيني على وضع آليات سياسية لاحتواء الأزمة هو الخيار المفضل حتى لاتنجح الفتنة في مد خيوطها وخطوطها وتدمر ما تبقى من مؤسسات وتستكمل ما فشل العدوان الأميركي - الإسرائيلي في تحقيقه في الصيف الماضي.

العدوان الذي تعرض له البلد الصغير قام كما يبدو على خطة تتألف من مرحلتين: الأولى تقوم بها حكومة ايهود اولمرت وتستهدف ضرب البنى التحتية للدولة، تدمير قرى الجنوب وجعل المنطقة غير صالحة للسكن، دفع قوات حزب الله إلى الداخل، استقدام قوات دولية، ونشر الجيش اللبناني على الحدود.

والثانية: تقوم على اساس المراهنة على خلق آليات للفوضى والتوتر تدفع تداعياتها نحو مزيد من الانقسام الأهلي وتعطي فرصة للقوى الغريبة والعجيبة في افكارها وبرامجها وسلوكياتها للتحرك واللعب على التناقضات بهدف تفجير الوضع الأمني وزعزعة اركان الكيان وتوليد سلطات محلية يديرها امراء المناطق والمذاهب.

المرحلة ألف (أ) توقفت في 14 أغسطس/ آب 2006 على اثر صدور القرار الدولي 1701 الذي شكل حاوية لكل القرارات الدولية إذ تضمنت فقراته مجموع ما صدر عن مجلس الأمن خلال العقود الأربعة الأخيرة من بنود وتوصيات.

المرحلة باء (ب) بدأت في 15 أغسطس وكانت تقضي باستكمال تحطيم ما تبقى من مؤسسات الدولة (الضعيفة والمشلولة اصلا) وتخريب النسيج الاجتماعي وتفكيك العلاقات الأهلية وجرجرة الطوائف والمذاهب الى فتن سياسية تؤسس قواعد مواجهة دموية يخرج منها لبنان مدمرا ومحروقا.

الخطة باء متدحرجة وهي اتخذت الكثير من الالوان والصور وتكيفت بشعارات وبرامج وقراءات وتوجيهات ظهرت في اشكال متنوعة من الاستفزازات والاستقطابات والتجاذبات وصولا إلى تصادمات موضعية أو محدودة في هذا الجانب أو ذاك. وعلى رغم الصعوبات والخسائر والتداعيات فشلت الخطة باء في النجاح بسبب اقتناع قوى عاقلة أو فاعلة على الارض في الانجرار نحو المصيدة. واستطاعت تلك الفئات ان تلجم الساحات وتمنع «الطوابير» من لعب دورها في التحريض والتأليب خوفا من اعطاء فرصة للفئات التي تنتظر تلك اللحظة لتضرب ضربتها وتغدر بالدولة والمقاومة لحسابات لا تخدم لبنان أو القضية الفلسطينية. انتظر المتربصون أكثر من تسعة أشهر لحظة «الاصطياد في الماء العكر» من دون جدوى في اعتبار ان اجندة التقويض (الفوضى الهدامة) لا تخدم في النهاية سوى المشروع الأميركي - الإسرائيلي في المنطقة الذي يطمح في تصدير النموذج العراقي (الخرابوي) من العراق إلى لبنان وفلسطين وحتى السودان.

هذا الانتظار الذي اقفل الطريق أمام الخطة باء يفسر إلى حد كبير انتقال اخطبوط الفتنة من بيروت إلى الشمال. فالفشل في العاصمة احبط الجزء الآخر من مشروع التقويض ودفع بالقوى المتضررة إلى اختلاق أزمة واختراع مواجهة وافتعال معركة كان القصد منها إعادة فتح الطريق أمام الخطة باء للعبور مجددا من طرابلس إلى بيروت.

خطة التقويض في الشمال اتخذت اشكالا مختلفة. فهي ادعت انها فلسطينية وتبين لاحقا وبعد اعتقال 50 شخصا ان المجموعات تتألف من جنسيات صومالية (بقايا المحاكم الإسلامية) وبنغلاديشية وبعض التبعيات العربية التي قيل لها ان طريق فلسطين تمر في طرابلس. وهي ادعت انها «سنية» وتريد الدفاع عن أهل السنة وتبين لاحقا بعد التحقيقات المبدئية ان تلك المجموعات تتشكل من مرتزقة وعاطلين عن العمل ولاتعرف شمال لبنان من جنوبه. وهي ادعت انها تدافع عن المخيمات وتبين كذلك ان سكان نهر البارد لا يتعاطفون مع هيئة لا يعرف من ارسلها ودربها وسلحها وطلب منها السطو على المصارف بذريعة التمويل وتوريط أهل المخيم في مشكلات أمنية لاجدوى سياسية منها. وهي ادعت انها تريد محاربة «إسرائيل» ولكنها قامت بالاعتداء على مخافر ودوريات الجيش اللبناني وقامت بخطف جنود ينتمون إلى عائلات فقيرة ومسكينة من عكار والهرمل والبقاع وذبحتهم بأسلوب متوحش بقصد خلق حال من الرعب والذعر.

أفعال شاذة

هذه الافعال الشاذة انكشفت بسرعة أمام اللبنانيين والفلسطينيين واتضحت انها تستهدف افتعال قتال شوارع في طرابلس وحرب مخيمات تستعطف الرأي العام العربي بقصد تثوير الناس ودفعهم نحو معسكرات تتجاذبها مراكز قوى تخطط لإنجاح «الخطة باء» التي قُطع دابرها في الشهور الماضية. ولولا تدخل العقلاء والقوى الفاعلة لكان بامكان مشروع التقويض ان ينجح. ولعب الفلسطينيون دورا مهما في منع خطوط الفتنة من الامتداد والانتشار حين بادروا إلى المسارعة في لقاء القوى اللبنانية الرسمية والشعبية وابداء الاستعداد لتقديم العون وضبط الانفلات وعدم اعطاء فرصة لجهاز مجهول في توليد فتنة طائفية ومذهبية تحت يافطات فلسطينية وإسلامية.

المشكلة الآن لم تتوقف. ويرجح ان من خطط ونفذ مشروع الفتنة في الشمال يفكر من جديد بإعادة ترتيب عناصر مختلفة لتمرير الخطة باء. الا ان بدء تنفيذ الخطة الأمنية اللبنانية - الفلسطينية في نهر البارد يشكل نقطة تحول في تصحيح علاقة بين طرفين بعد سنوات من البرودة والجفاف. فالتفاهم على اتخاذ تدابير مشتركة في الشمال يعني ان خطوة سياسية اتخذت نحو تحسين مواقع التفاوض وإعادة ضبطها وإدراجها في سياق يلبي المصالح اللبنانية - الفلسطينية المشتركة. وهذا الأمر في حال استمر مع الأيام والاسابيع فإن فرصة الاخلال بالأمن وزعزعة الثقة وتوليد الاضطرابات تكون تراجعت لمصلحة سياسة كان لابد لها من الظهور لقطع احتمالات التفجر الأمني وانتقاله من مكان إلى آخر. فالحل العسكري يعتبر من المستحيلات، والحل القسري من دون تفاهم مع الفصائل والمنظمات الفلسطينية الكبرى العاقلة والقادرة كان يعني ادخال لبنان والمخيمات في حرب استنزاف لا يستفيد منها سوى مشروع التقويض الدولي / الإقليمي في المنطقة.

بدء تنفيذ الخطة الأمنية اللبنانية - الفلسطينية في الشمال ونهر البارد يرجح ان يكون بداية الطريق حتى تأتي النهاية واضحة ومتكاملة لتقفل الباب أمام مشروع فتنة يراد منها تمرير سياسة لايستفيد منها الا تلك القوى التي تبحث عن دور تحت الانقاض والخراب.

حتى الآن المشكلة التي افتعلت في الشمال لم تصل إلى فصلها الأخير. ولكن الفصول التي فتحت منها ساهمت في رسم خطوط كشفت عن مواقع ومواقف يمكن البناء عليها لإعادة تأسيس جسور ثقة تحطمت او تصدعت في الاشهر التسعة الماضية. فالكل يمكن ان يقرأ الكثير من التفصيلات ويرتب خلافات جديدة، ولكن هذا «الكل» يستطيع ان يلتقط تلك الإشارات السلبية التي ارسلت من خلال مشروع الفتنة في الشمال ويعيد صوغ توجهات عاقلة وفاعلة تساعد على منع التدهور وإنقاذ لبنان من السقوط في الخطة باء.

الإشارات في الاتجاه المذكور ملفتة ومتنوعة وصدرت تباعا عن مصادر متخالفة، وهي على قلتها تشكل في مجموعها العام بداية ادراك لمخاطر الفتنة في حال تركت خيوطها تنساب وتلتف من مكان إلى آخر.

الخطة باء كما يبدو تعتمد اسلوب التدحرج وهي تتلون وتعيد تشكيل خطوطها ورموزها بأحجام مختلفة وأسماء مُختلقة، ولكن الذكي يفهم لغة الإشارات ويتجنب السير في حقل زهور زُرع بالالغام والمتفجرات.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1721 - الأربعاء 23 مايو 2007م الموافق 06 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً