العدد 1723 - الجمعة 25 مايو 2007م الموافق 08 جمادى الأولى 1428هـ

لبنان بعد سبع سنوات على التحرير

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

وسط تجاذبات سياسية وأهلية احتفل لبنان أمس بالذكرى السابعة للتحرير. ففي ذاك اليوم من العام 2000 شهد العالم العربي أمام شاشات التلفزة والفضائيات مناظر كان لا يتوقعها في الأحلام. الجيش الإسرائيلي رابع قوة عسكرية في العالم والقوة الأولى في منطقة «الشرق الأوسط» ينسحب مهرولا من الجنوب اللبناني إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.

هذه المشاهد كان لها وقعها وتأثيرها السياسي والمعنوي على مختلف الأطراف اللبنانية والعربية والإسرائيلية وحتى الدولية.

دوليا اعتبرت الدول الكبرى أن تل أبيب نفذت من جانبها ما هو مطلوب منها في القرار 425. ورأت أن قواعد اللعبة تغيرت في اعتبار أن السبب الذي برر وجود مقاومة لبنانية (حزب الله تحديدا) انتفى وبات على الدولة أن تقوم بواجباتها المحلية وهي ترتيب أو تنظيم سلاح المقاومة وإرسال الجيش إلى الجنوب على امتداد قرى الحدود الفاصلة بين الطرفين.

«إسرائيليا» اعتبرت تل أبيب أنها أصبحت في حل من التزاماتها الدولية في اعتبار أن القرار 425 سقط عمليا بخروجها من لبنان. وبناء على هذه القراءة هددت حكومة إيهود باراك بسحق لبنان وتدميره في حال تخطى الحدود الدولية أو أقدمت المقاومة على تنفيذ عملية داخل الأراضي المحتلة. حكومة باراك آنذاك كانت تواجه سلسلة ضغوط دولية ومحلية أملت عليها اتخاذ مثل هذا القرار الصعب الذي يزعزع هيبتها ويكسر شوكتها العسكرية وربما يشجع القوى الفلسطينية على اتباع نهج المقاومة أو الانتفاضة لكسب الحقوق الوطنية ويلزم تل أبيب بتنفيذ القرارات الدولية (242 و338). ولهذا ألحقت حكومة باراك انسحابها بسلسلة تهديدات رأت فيها وسيلة للتخويف والردع حتى لا تكون المقاومة اللبنانية سابقة في التاريخ العربي المعاصر وتتحول إلى نموذج يحتذى به في المنطقة.

عربيا كان مشهد الانسحاب (الهرولة) له وقعه المختلف. فالجماهير العربية لم تصدق أن بإمكان دولة صغيرة وقوة مقاومة منظمة ومستعدة للتضحية قادرة على إنجاز مهمة تاريخية فشلت كل الدول العربية بتحقيقها خلال عقود من الزمن. مشهد الهرولة الإسرائيلية من لبنان أرسل إشارات متعارضة. فالجماهير تعاطفت مع هذا البلد الصغير (دولة ومقاومة) بينما الأنظمة المعنية بالتحرير وقعت في حرج سياسي. فهذه الأنظمة تتحدث يوميا عن الحقوق العربية المغتصبة منذ العام 1967 وتملك قرارات دولية تؤكد ذاك الحق وتطالب تل أبيب بالانسحاب ولكنها عمليا لم تفعل ذاك الشيء الذي تحمل مسئوليته ونتائجه الشعب اللبناني المحدود في إمكاناته العسكرية وموارده الطبيعية.

بعض الأنظمة لم يصدق والبعض تعامل مع المشهد باستغراب والبعض الآخر أحرج داخليا حين طرح السؤال: لماذا لا نفعل كما فعل لبنان ونؤسس قوة مقاومة مدعومة من الدولة لتحرير الأراضي المحتلة تحت سقف قرارات دولية تؤكد هذا الحق وتدعمه شرعيا؟

لبنان في ذاك اليوم من العام 2000 عاش أجمل فترة في تاريخه. المقاومة حققت أهدافها والدولة أنجزت الكثير من مهمات إعادة إعمار ما دمرته الحروب الأهلية والإقليمية على امتداد 15 عاما وبقي عليها الآن تأسيس هيكلية تستفيد من إنجاز التحرير وتعوض على أهل الجنوب ما أصابهم من إهمال طوال تلك الفترة التي امتدت من العام 1968 إلى العام 2000.

نقاط قوة

شكل الرهان على التحرير نقاط قوة للدولة. فهي الآن تستطيع إعادة تنظيم العلاقات الداخلية وترتيبها لتأسيس حال من التضامن الوطني وتجديد تلك الوحدة التي أصيبت بأضرار نفسية وثقافية بسبب الانقسام الطائفي الذي شطر الناس إلى فئات متعارضة ومتناحرة. كذلك أعطى التحرير مناعة للناس وقدم للدولة فرصة لإعادة بناء جسور الثقة التي تصدعت أو تهدمت خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني.

شكل حزب الله رافعة ثقافية لذاك التفاؤل السياسي. فالحزب أثبت خلال فترة التجربة عن حرفية قتالية عالية ودقة في استخدام القوة ومعرفة بأصول قواعد اللعبة الدولية. فهو لم يكن مجرد مقاومة تضرب يمنة ويسرة معتمدا الأسلوب العشوائي الذي يعطي ذريعة للعدو للرد الشامل على البلد المحتل.

أدرك حزب الله منذ بدايات تأسيسه بعد الاجتياح الثاني في العام 1982 أن المقاومة سياسة. فهو استفاد كليا من خبرة المقاومة الفلسطينية العسكرية ولكنه أيضا انتبه لتلك الأخطاء والتجاوزات التي ارتكبتها الفصائل المتحالفة مع بعض الأحزاب اللبنانية ضد المدنيين. لذلك شكلت مقاومة حزب الله ظاهرة سياسية جاذبة داخليا فهو تعامل بدقة في عملياته القتالية حين أبدى ذاك الحرص اليومي في التعاطي مع المتطلبات الحياتية للناس وعدم تعريض أمنهم ومصالحهم للخطر المباشر. وأكسب هذا الأسلوب النبيل والمتميز والراقي مناعة داخلية للحزب وشجع الناس في مختلف طوائفهم ومذاهبهم للالتفاف حوله وحمايته من تهديدات كانت تطلق ضده بين فينة وأخرى. وعلى أساس هذا الاحترام المتبادل والتقدير الخاص من اللبنانيين لدور الحزب في التصدي للاحتلال قادت المقاومة تلك المعركة التي انتهت بطرد الغزاة وعودة الناس إلى قراهم آمنين. فالثقة بالحزب وبقيادته العاقلة كانت ولاتزال مصدر إعجاب وهي شكلت قوة معنوية تحتاجها أي مقاومة في العالم لمواجهة أي احتلال. وهذا مثلا لم تنجح المقاومة في العراق في اكتسابه حين أخذت بعض الفصائل المجهولة الهوية والاسم التي لا يعرف من يرسلها ويدربها ويمولها في شن عمليات ضد الناس وتقتل عشوائيا عشرات الأضعاف من أهل البلاد أكثر من جيش الاحتلال الأميركي.

حرص حزب الله على حياة الناس ومصالحهم أنتج وحدة وطنية داخلية عزز تلك القوة التي تطورت سياسيا على أساس ثقة أظهرت امتناعها بالملموس في عدم التفريط بالبلاد أو جرجرتها إلى انقسامات أهلية تعطي فرصة للطائفيين والمذهبيين والمزايدين والعابثين بالأمن لزعزعة الاستقرار وتهديم ذاك الإنجاز التاريخي. وسط أجواء الفرح احتفل اللبنانيون قبل سبع سنوات بالنصر وبدأ الناس ينظرون إلى الداخل لاستكمال مهمة التحرير من خلال التركيز على إعادة الإعمار وبناء الدولة وهيكلة المؤسسات حتى تكون قادرة أو جاهزة على استقبال نتائج هزيمة الاحتلال.

إلا أن بشائر البهجة لم تكتمل. ففي تلك اللحظة المفارقة في تاريخ هذا البلد الصغير رحل الرئيس السوري حافظ الأسد وأدرك اللبنانيون أن غياب المؤسس يعني ظهور منهجية مغايرة في التعامل مع قواعد اللعبة الدولية التي تغيرت بعد هرولة العدو من الجنوب. وزاد الطين بلة أن الاحتلال لم ينسحب كليا من الجنوب فهناك بعض المناطق والتلال والمرتفعات أبقاها تحت سيطرته لأسباب لاتزال مجهولة أو غير واضحة حتى الآن.

اكتشف اللبنانيون وسط أجواء الفرح أن التحرير «ناقص» ولاتزال توجد مرتفعات شبعا وأسرى وغيرها من نقاط حدود لابد من استكمال مهمة إعادتها إلى البلد الصغير. وهكذا أدرك اللبنانيون أن الفرحة ناقصة ولابد من العودة من جديد إلى البدايات الأولى. وزاد خوف اللبنانيين حين أدركوا أن تل أبيب ربما تكون عن سابق تصور وتصميم تركت عن قصد تلك الثغرات والمرتفعات والأسرى لتأخذ منها ذريعة للثأر والانتقام والتدمير والتحطيم وإنتاج فرقة أهلية وانقسامات بين طوائف البلد ومذاهبه.

تل أبيب آنذاك لم تخرج من لبنان عن قناعة. فهي دولة تأسست على الاغتصاب والقهر وطرد الناس من ديارهم، وانسحابها من الجنوب كان خطوة تخالف تاريخها وايديولوجيتها لذلك خططت منذ سبع سنوات لتوجيه ضربة تزلزل البلد الصغير وتزعزع استقراره تحت سقف أي ذريعة مستفيدة من عدم وجود مظلة دولية أو إقليمية تمنعها من ممارسة سياسة التقويض. وتعززت فرصة الانتقام حين وقعت هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 إذ أعلنت تل أبيب دعمها المطلق لواشنطن معتبرة أن كل المقاومات هي جزء من الشبكة الدولية للإرهاب. وتحت سقف التحالف الأميركي - الإسرائيلي بدأ تيار «المحافظين الجدد» استراتيجية تقويض «الشرق الأوسط» بذريعة مكافحة الإرهاب. وهذا بالضبط ما توافر لحكومة إيهود أولمرت في الصيف الماضي إذ استفادت من المناخ الدولي لتوجيه ضربة انتقامية بذريعة أنها تعرضت لعملية عسكرية داخل أراضيها وأنها هي الطرف المعتدى عليه وأن لبنان لا يملك حق التصرف دفاعا عن حقوقه في اعتبار أن القرار 425 سقط سياسيا بعد أن أقدمت على تنفيذه في العام 2000.

ضربة «إسرائيل» المدعومة أميركيا كانت قاسية وموجعة، كذلك رد المقاومة أحدث بدوره هزة استراتيجية داخل الكيان يتوقع أن تظهر آثارها لاحقا. ألا أن هذا التوازن السلبي كشف الساحة اللبنانية وأظهرت المواجهة تعارضاتها. فبعد توقف العدوان ظهرت في البلد انعكاسات مباشرة انتجت تداعيات سياسية وأهلية تخالف تلك التي هيمنت على الساحة بعد هرولة قوات الاحتلال قبل سبع سنوات. آنذاك احتفل اللبنانيون بالنصر في أجواء الفرح والتفاؤل بينما احتفلوا أمس وسط تجاذبات سياسية وأهلية حامية تمتد من الجنوب إلى مخيم نهر البارد في الشمال. فالخوف يسيطر على البلد الصغير والقلق على الأمن والانجرار إلى فتنة كلها عناصر تزيد من نسبة الحزن والتشاؤم.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1723 - الجمعة 25 مايو 2007م الموافق 08 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً