العدد 1730 - الجمعة 01 يونيو 2007م الموافق 15 جمادى الأولى 1428هـ

لبنان بعد المحكمة الدولية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بعد أخذ ورد وخلافات ونقاشات ولجان تحقيق محلية ودولية تبنى مجلس الأمن القرار 1757 الذي يقضي بتشكيل «محكمة دولية» تحت الفصل السابع مهمتها معرفة من قتل رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري ورفاقه وكل من اغتيل في تلك الفترة وما بعدها.

من قتل الحريري؟ سؤال لايزال يقلق اللبنانيين منذ أكثر من سنتين. ويرجح أن يأخذ السؤال مداه الزمني أكثر من سنتين للتوصل إلى معرفة الجهة الفاعلة وتلك التي خططت وحرضت ونفذت.

هناك قراءات مختلفة لجريمة الاغتيال وكل طرف يتهم بها الآخر في اعتبار أن الجهات المستفيدة من غياب الحريري عن المسرح السياسي كثيرة. فالفاعل ليس بالضرورة هو المنفذ. والمنفذ ليس بالضرورة هو المستفيد. والمحرض على الجريمة لابد أنه فعلها لمصلحة طرف مجهول أو صاحب غايات كبيرة ربما تتجاوز مساحة لبنان وجواره الإقليمي.

الجريمة كما وصفتها لجنة التحقيق في تقريرها الأخير سياسية. وعالم السياسة تتداخل فيه المصالح وتتشابك وأحيانا تتقاطع في جوانبه الخلفية شبكة اتصالات تلعب فيها أجهزة المخابرات دور المحرك لخيوط اللعبة. ولهذا السبب يختلف في السياسة الفاعل عن المنفذ والمستفيد الصغير عن المستفيد البعيد. كذلك تتقاطع في السياسة مصالح الأعداء والأصدقاء وتلتقي في جوانب معينة ومحدودة في وقت يكون الخلاف على أشده في جبهات أخرى. وحين تقع جريمة كبرى من وزن اغتيال الحريري تنكشف السياسة على عالم مخابرات وأجهزة سرية تتعاون ميدانيا في وقت تظهر على الشاشة العامة أنها على خلاف وفي حال من الصراع الدائم.

قصة معرفة من قتل الحريري طويلة كما تبدو الأمور. وما ظهر منها حتى الآن بعض فصول من الرواية ويرجح أن تأخذ «المحكمة الدولية» مداها الزمني لتحديد الجهة الفاعلة وتلك الجهات المنفذة وصولا إلى توضيح دوافع القوى المستفيدة ولمصلحة من ارتكب هذا الفعل. وكل هذه الترجيحات تتصل في النهاية بسؤال آخر: من هو الحريري؟ وما هو موقعه أو دوره؟ وماذا كان يمثل حتى اجتمعت عليه قوى متعارضة لتأخذ هذا القرار وتبعده من المكان الذي كان فيه؟

المحكمة في النهاية ستجيب عن هذه الأسئلة. ولكن المشكلة في جريمة اغتيال الحريري تتجاوز كل تلك الوظائف العادية لترتقي إلى مستوى السياسة. وحين تصنف لجان التقصي والتحقيق جريمة الاغتيال وتضعها في خانة السياسة فمعنى ذلك أن جوانب من المحاكمة ستذهب بهذا الاتجاه السياسي أو ذاك. ولهذا السبب السياسي يمكن أن نفهم دوافع الاعتراض على المحكمة ومخاوف الكثير من الأطراف من أن تستخدم ورقة للضغط على قوى محلية وإقليمية لحسابات أخرى لا تتصل بموضوع الجريمة.

هذا بالضبط ما حصل في لبنان قبل صدور القرار الدولي وبعده. فالانقسام السياسي/ الأهلي في البلد الصغير على الموضوع تشكل خلال الفترة الماضية في ضوء احتمال استغلال القوى الكبرى المسألة لتمرير مصالح تصب في اتجاه يعاكس الرغبة في معرفة الطرف الفاعل للجريمة وصلته بالمنفذ ولمصلحة من ارتكبت عملية الاغتيال.

وبسبب الخوف من حصول هذا الاحتمال انقسم اللبنانيون بين فريق يحذر من الاستغلال السياسي بذريعة البحث عن العدالة وبين فريق يريد البحث عن العدالة بعيدا عن السياسة. ولكن تصنيف لجنة التحقيق وضع الجريمة في إطارها السياسي وهذا يعني أن قراءة الاغتيال لن تكون خارج المسألة السياسية.

مخاوف القوى المعترضة على «المحكمة الدولية» تحت الفصل السابع صحيحة في الجانب المذكور. فالجريمة سياسية وبالتالي فالمحكمة ستأخذ هذا الجانب الإجرائي في سياق البحث عن الأدلة الدامغة التي تؤكد التهمة. لذلك لم تكن التطمينات التي أعطيت كافية. ومهما كانت التطمينات نظيفة أخلاقيا فإنها لا تجدي نفعا في مشكلة سياسية كبيرة ومعقدة ومتداخلة. فالضمانات لا قيمة لها في المحكمة. وفي أصول المحاكمات القاضي لا يأخذ في الاعتبار العواطف والمشاعر والهواجس والتطمينات حين يبدأ بسرد التفصيلات الموثقة وربطها بأدلة دامغة تؤكد التتابع الزمني لكل الخطوات والاتصالات وصولا إلى التفجير.

مشكلة مضافة

لبنان إذا أمام مشكلة مضافة، وهي في جوهرها سياسية واجهته قبل صدور قرار دولي بإنشاء المحكمة وستواجهه بعد صدور القرار. لذلك يرجح ألا يختلف لبنان بعد «المحكمة الدولية» عن ذاك الذي كان عليه البلد قبل صدور القرار 1757. فالمسألة متشابهة «قبل وبعد» في اعتبار أن موضوع الجريمة يقع في خانة السياسة. وعلى أساس التحليل المذكور قرأ بعض الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية مسألة المحكمة واستنتج أنها ستؤدي إلى مزيد من القلق والفوضى وستضع بلاد الأرز في مهب استحقاقات خطيرة تتجاوز حدوده وربما تزعزع ما تبقى من استقرار في علاقاته الأهلية.

لبنان يرجح ألا يكون في إطار تلك الصورة الجميلة والعادلة التي حاولت الكثير من الأطراف رسمها في عقول الناس. فمثل هذا التصور أقرب إلى المخيلة وأبعد عن واقع بلد يتألف من ثنائيات سياسية وأهلية ممتدة جواريا وإقليميا. والمبالغة في التطمينات التي صدرت عقب تصويت مجلس الأمن بغالبية عشرة أعضاء يرجح ألا تعطي مفعولها الوطني لأنها تذهب بعيدا في فصل العدالة عن السياسة في جريمة وصفت بأنها سياسية.

الانقسام اللبناني على المحكمة تجدد بعد صدور القرار الدولي وهذا ما كانت الأطراف المعترضة على 1757 حذرت من حصوله قبل التصويت في مجلس الأمن. ولكن إلى أي حد سيبلغ الانقسام؟ هل سيبقى في إطار تجاذباته السلمية المتقطعة بالتفجيرات والاغتيالات والاتهامات والتشنجات الأهلية المعطوفة على اشتباكات محدودة في أحياء المدن وضفاف المخيمات أم أنه سيتداعى الانقسام وينتقل من التجاذب السلمي إلى مواجهات ميدانية يصعب تصور حصولها خارج منظومة علاقات «الملل والنحل» وما تعنيه من احتكاكات إقليمية وجوارية وفلسطينية؟

الانقسام حصل وتجدد وأشبع بمواد إضافية ملتهبة أو قابلة للاشتعال من «فتح الإسلام» في الشمال إلى «جند الشام» في الجنوب. ولكن السؤال يبقى: هل ينجح اللبنانيون في السيطرة على الانقسام ومنعه من التضخم والتطور وصولا إلى الانزلاق في أتون فتنة تهدد الكيان والدولة والمقاومة في وقت واحد؟

هناك كثير من الأجوبة هي أقرب إلى الترجيحات التي تستند إلى تحليلات واحتمالات. البعض يقول إن لبنان تجاوز مرحلة وبات عليه أن يستفيد من تلك الحماية الدولية التي شددت الرقابة على أطيافه لمنع تجدد تلك الأفعال الشنيعة من اغتيالات وتفجيرات وذبح جنود بالسكاكين. والبعض يقول إن صدور القرار فتح الباب للمزيد من المشكلات التي ستلعب دورها في إعادة تفجير الساحة أهليا ونقلها من دائرة التجاذب السلمي إلى دائرة التصادم والاصطراع كما هو حال العراق الآن. والبعض يقول إن البلد سيبقى على حال من الاضطراب السياسي وبالتالي لن تلعب فكرة «المحكمة الدولية» تلك الوظيفة التي كانت مرتقبة منها، أي أن البلد لن يتوحد ولكنه لن ينهار ويتمزق إلى «فيديراليات ديمقراطية» على نسق الدستور العراقي الذي صاغت مواده قوى الاحتلال.

قراءة الاحتمالات الثلاثة لا تستبعد واقعيا عدم ترجيح الرأي الثاني. فالبلد فعلا مقبل على استحقاقات داخلية مفصلية (انتخابات رئاسة الجمهورية مثلا) والمنطقة أيضا لم تخرج بعد من عنق الزجاجة مهما قيل عن توافقات وتقاطعات سياسية و«عملية» بين أميركا وإيران في العراق وبين أميركا وسورية في لبنان. وفي حال عُطفت استحقاقات بلاد الأرز على بلاد الرافدين وصولا إلى غزة وإقليم دارفور في السودان فإن التوقعات السلبية التي صدرت بشأن المحكمة قبل صدور القرار وبعده تصبح هي المرجحة. وهذا ما أشير إليه مرارا في تصريحات وخطابات تحدثت عن سيناريوهات «الصيف الساخن».

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1730 - الجمعة 01 يونيو 2007م الموافق 15 جمادى الأولى 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً