العدد 1748 - الثلثاء 19 يونيو 2007م الموافق 03 جمادى الآخرة 1428هـ

إعادة صوغ العلاقات مع أميركا

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

انتابت علاقاتنا مع الولايات المتحدة الأميركية في الفترة الأخيرة، نوبات متتالية، من التوتر، خرج بعضها إلى النور علانية، عبر الملاسنات السياسية والإعلامية، وظل بعضها الآخر طي الكتمان ربما إلى حين...

على الدوام كانت العلاقات مع أميركا ممتدة وطبيعية، اهتزت بقوة وصولا للصدام والعداء في العهد الناصري، مثلما توثقت بقوة أيضا في العهد الساداتي، ابتداء من منتصف سبعينات القرن الماضي حتى اليوم...

لكن اليوم ليس كالأمس، فثمة تطورات سريعة، جعلت الولايات المتحدة ومصالحها وسياساتها في المنطقة العربية «أو الشرق الأوسط» المحرك والمهيمن الأول والأخير، ووضعت بالتالي علاقاتنا وسياساتنا ومصالحنا، ضمن المنظور الأميركي مباشرة، وأصبح حديث السيادة والاستقلال الوطني في هذه المنطقة من العالم، شيئا من أوهام الماضي... فقد تغير كل شيء ليتناسق مع هذا المنظور الأميركي، أحيانا بإرادتنا ورضانا، وأحيانا بالفرض علينا قسرا وجبرا!

في العام 2003 عاتبتني شخصية سياسية مهمة، على حدة ما أكتبه باستمرار نقدا ورفضا للسياسة الأميركية في المنطقة، ولطريقة تعاملها «الاستعماري» معنا شعوبا وحكومات، مصالح وأهدافا، وأكد هذا المسئول أن مثل هذه الكتابات تعكر صفو المياه في المجرى المصري الأميركي خصوصا...

دفاعا عن رؤيته ساق حججا كثيرة ـ منها حجة المصالح الاستراتيجية الرابطة بين مصر الدولة المركزية الإقليمية، والولايات المتحدة الدولة الأعظم في العالم المنفردة بقيادته، وحجة التعاون المشترك «الاستراتيجي» بين الدولتين في دعم الاعتدال والاستقرار، ومحاربة التطرف والإرهاب المنتشر في المنطقة، ثم حجة أن مصر تستفيد اقتصاديا وعسكريا من هذه العلاقة، عن طريق المعونة الاقتصادية والعسكرية السنوية، التي تتعدى ملياري دولار... علاقة كلها مكاسب!

وكانت حججي المضادة كثيرة أهمها طبعا سياسة الهيمنة الأميركية التي استعادت روح الاستعمار الأوروبي القديم، وفرضها الشروط القاسية للتبعية، وتقديم مصالحها الحيوية حتى على أمننا القومي، خصوصا فيما يتعلق بـ «إسرائيل»، أما المساعدات فمعظمها يعود مرة أخرى إلى شرايين الاقتصاد الأميركي، والكل يعلم... فالعلاقة ليست كلها مكاسب، لكن خسائرها بالنسبة إلينا هي الأكبر، وحين تحقق أميركا أهدافها وتستنفذ أغراضها، ستزيحنا من جنتها وتلغي معوناتها، وتتدخل في صميم شئوننا الداخلية، بصرف النظر عن هتافات جماعات المتأمركين العرب، التي كانت في قمة نشاطها الدعائي لكل ما هو أميركي آنذاك!

أصبح الموقف الآن مختلفا بعض الشيء، وأصبح الضغط الأميركي على مصر علنيا ومستفزا، بأكثر مما هو على دول عربية أخرى، لم تقدم لأميركا ما قدمته مصر طوال العقود الأخيرة، وأصبح ما حذرنا منه قبل سنوات عن طبيعة علاقاتنا غير المتوازنة مع أميركا، ونتائجها السلبية الظاهرة منها والباطن، واقعا حيا، بل أصبح تدخلا سافرا في الشئون الداخلية ومهددا للمصالح الوطنية والقومية!

ربما يكون الخطاب الهجومي الذي ألقاه الرئيس الأميركي بوش في العاصمة الشيكية (براغ) قبل أيام، واحدا من سلسلة هجمات علنية ضد مصر، فقد كان الأعنف في نقد التباطؤ الديمقراطي والتعديلات الدستورية وأوضاع حقوق الإنسان، وسجن المعارضين واستعدادات التوريث ودعم المنشقين والمعارضين للنظام، لكنه لم يكن الأول ولن يكون الأخير، وفي ظل التجارب السابقة، كان يمكن أن يمر كما مر غيره، وخصوصا محاضرة كوندوليزا رايس الشهيرة في الجامعة الأميركية العام 2005.

لكن واشنطن دفعت الأمور المتأزمة إلى مسافة أبعد، حين استخدمت الكونغرس للتهديد بإنقاص المعونات العسكرية بعد أن خفضت من قبل المعونات الاقتصادية... فقد وافقت لجنة المخصصات بمجلس النواب على مشروع قانون للمعونة الخارجية العام 2008، يتضمن حجز أو خصم 200 مليون دولار من المعونة العسكرية لمصر، سلاحا للضغط لكي تحسن «مصر» سجلها في حقوق الإنسان والإسراع بالإصلاح الديمقراطي وإصلاح النظام القضائي.

ولم تكن هذه الخطوة منفصلة عما تزدحم به الدوائر السياسة والإعلامية الأميركية، من انتقادات ساخنة وهجمات حادة ضد النظام في مصر وسياساته الداخلية الإقليمية والدولية، منقلبة من المديح بالأمس إلى الهجوم والابتزاز اليوم، الأمر الذي قد يتصاعد غدا، لأسباب مصرية وأخرى أميركية!

وقد يتصور البعض أن سر هذه الهجمة الأميركية على مصر وغيرها من الدول العربية الأخرى، يتعلق باللهفة الأميركية على نشر الديمقراطية في المنطقة، على غرار ما قرأنا لإعلام المتأمركين العرب... غير أن الأمر أبعد من ذلك، وما الديمقراطية إلا مجرد «فزاعة» تلوح بها واشنطن في وجه الحكومات العربية، لأنها تعرف نقطة ضعفها... أما الأهداف الاستراتيجية الأميركية فهي أبعد عن هذه الفزاعة، وهو أمر واضح للعيان. منذ أن أطلق وزير الخارجية الأميركية السابق كولن باول، مبادرة الشراكة في الشرق الأوسط العام 2003، ومنها ما يتعلق بنشر الديمقراطية!

واثق أن ما ألهب الحملة الأميركية الحالية ضد مصر تحديدا! ليس التباطؤ الديمقراطي، ولكن ملفات إقليمية كثيرة اشتعلت في المنطقة فألهبت القدم الثقيلة وعكرت المزاج الأميركي الذي توقع أن تهب مصر تحديدا لدعمه ومساندته، فإذا به يجد من مصر رفضا مبطنا أو اعتذارا مؤدبا، من دون الرغبة في الوصول إلى حد الصدام المباشر...

لقد اعترضت مصر على الغزو الأميركي للعراق، ورفضت الطلب الأميركي بإرسال قوات مصرية سواء في إطار ما يسمى قوات التحالف الدولي، أو للمساعدة في ضبط الأمن والاقتتال الطائفي، ورفضت مصر الانحياز الأميركي المطلق لـ «إسرائيل»، وفرض الحصار على الفلسطينيين، ورفضت محاصرة سورية واختراق لبنان، ورفضت التدخل الدولي «الأميركي» في دارفور السودانية، لأن الرؤية للأمن القومي لمصر والعرب، لا تلتقي بالضرورة مع الرؤية الأميركية الصهيونية...

ولقد فوجئت الإدارة الأميركية أخيرا، بالدور المصري النشط المعارض، لمخطط إنشاء قيادة مركزية أميركية جديدة في إفريقيا... والواضح أن واشنطن كانت تريد إقامة مقر هذه القيادة في مصر أو ليبيا، فلما رفضتا اتجهت بالضغط والإغراء نحو تشاد، فارتفعت الشكوى التشادية الضمنية، فهي لا تريد قبول هذا المخطط «الاستعماري»، لكنها لا تستطيع أن ترفضه ولا تقدر على العداء الأميركي العلني...

ومن باب التفصيل والإضافة، نقول إن أميركا تريد قاعدة انطلاق وانقضاض قريبة من دارفور، لكي تستطيع اقتحامها والسيطرة عليها من مواقع قريبة، وهل هناك أقرب لدارفور من مصر وليبيا وتشاد... وتأملوا الخريطة!

نستطيع إذا أن ننتقد السياسات المصرية والعربية، في تعاملها مع واشنطن، ونستطيع أيضاَ أن نهاجم السياسات الأميركية «الاستعمارية الجديدة» في تعاملها مع مصر العرب، ونظرتها الدونية لهم باعتبارهم عملاء وتابعين، عليهم السمع والطاعة، طالما هم تحت حمايتها وهيمنتها ورغد مساعدتها!

لكن المؤكد أن هذه كلها سياسات قاصرة وعلاقات مختلة، يتحمل وزرها طرفا المعادلة، الذين فرضوا قسرا، والذين قبلوا طوعا، ذات يوم... فما الجديد إذا الذي يقلق الطرفين!

أطن أن الجديد هو الغليان الذي يعصف بالمنطقة العربية من مشرقها إلى مغربها، الدماء المسالة والحروب الطائفية والصراعات والغزوات الأجنبية والشبكات الإرهابية، وقد ولد كل ذلك احتقانا شديدا بين الشعوب، توجه هجومه نحو الذين فرضوا قسرا، وتوجه هجومه الثاني نحو الذين قبلوا طوعا... وانكشفت سوءات العلاقات غير المتوازنة مع أميركا بوجهها القبيح، تلك التي أثرت على الكيان والوطن والأمن القومي، وعلى الحرية وحقوق الإنسان، وعلى زيادة الفقراء فقرا وعددا، لحساب قلة من الأثرياء الجدد، وأيضا قلة من المتأمركين الجدد!

هكذا نحن الآن في مأزق، أميركا تضغط على حكوماتنا الرشيدة وتبتزها ولديها أسلحتها الفتاكة، وحكوماتنا كعادتها تناور وتراوغ، تقبل وترفض ثم تقبل، وشعوبنا تغلي من فجيعة الأزمة وهول المأزق، فتدين الجميع، حتى وهي لا تجد حتى الآن طريقا للنجاة ومنفذا للخروج.

ولا حل في يقيني، إلا إعادة صوغ هذه العلاقات المعقدة المختلة على أسس جديدة، كما فعلت دول أخرى مثل الهند والبرازيل، بنت مواقفها على أساس تحصين الإرادة الوطنية والمناعة القومية المستقلة، ليس بالشعارات والهتافات، وليس بمجرد تصريحات الرفض والاعتراض علنا، ثم التوافق سرا...

ولكن بسلاحي، الديمقراطية والإصلاحات الحقيقية، وبالتنمية الشاملة الهادفة لتحقيق العدالة الاجتماعية لجموع الناس، حتى ترضى وتقاوم.

ومن دون ذلك، سيبقى الضغط والإكراه والابتزاز، من جانب القوي «المفتري»، على الضعيف الخائف «المسكين»!

خير الكلام:

يقول الحلاج مناجيا:

قالــــوا تــداوبه منه فقلـت لهـم

يا قوم هل يتداوى الداء بالداء

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1748 - الثلثاء 19 يونيو 2007م الموافق 03 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً