العدد 1754 - الإثنين 25 يونيو 2007م الموافق 09 جمادى الآخرة 1428هـ

الفصل الأخير من سيرة الشتات وخراب البحرين

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

سيتعمّق الشعور بالشتات وضياع الوطن وفقدان الانسجام في الهوية لدى شيعة البحرين مع تتابع الهجمات والحروب من الأباضية اليعاربة إلى الوهابية إلى الاقتتال الداخلي بين شيوخ آل خليفة الذي اندلعت شرارته الأولى في العام 1835م. الحق أن هذا النوع من الحروب والهجمات والفتن والاقتتال لم يهدأ منذ استيلاء الأباضية في العام 1129هـ/ 1717م. وفي كل مرة كان الأهالي يدفعون ثمن هذه الحروب والفتن بقتلهم الجماعي وبشتاتهم في الأقطار، وخلو البلاد منهم، وتعميق الشعور بالفقدان والضياع في وجدانهم الجماعي. ويذكر محمد علي آل عصفور أن دخول عساكر الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة البحرينَ تسبّب بشتات معهود للعلماء والأهالي، إذ «هجر بعض علمائها إلى بنادر فارس، منهم جدي العلاّمة الشيخ خلف» (عيون المحاسن، ص33)، والشيخ خلف هذا هو حفيد الشيخ حسين آل عصفور وهو «إمام الجمعة والجماعة في بوشهر».

ومع هذا، فإن الملاحظ أن عهد الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة - والحال كذلك في عهد ابنه الشيخ سلمان - قد اتسم بهدوء واضح واستقرار ملحوظ في الأمن، إلا أنه لم يُكتب لهذا الهدوء أن يستمر طويلا في بلاد جُبِلَت على الحروب والاقتتال، فجاء هجوم العمانيين في العام 1215هـ، وفي هذا الهجوم قُتِل أشهر عالم بحريني وهو العلاّمة الشيخ حسين العصفور (المعروف بين الأهالي بالشيخ حسين العلاّمة) الذي توفي في العام 1216هـ، ويُذكر أن الشيخ حسين «أصيب في واقعة الخوارج بحربة في ظهر قدمه سنة 1215، فسرت في نفسه فمات بسببها» (حاضر البحرين، ص 55، وانظر: أنوار البدرين، ص 184). وبحسب ما يروي محمد علي الناصري، فإن الشيخ عزيز صاحب الضريح المشهور في السهلة الشمالية قد قُتِل في هذا الهجوم.

وعجّل هذا الهجوم بالمواجهة التي جرت على أرض البحرين بين عساكر العمانيين وعساكر أمير نجد عبدالعزيز آل سعود التي استنجد بها أمراء آل خليفة لطرد العمانيين. وكما جرت العادة فقد انجلى غبار هذه المواجهة بين الطرفين (الأباضي والوهابي) عن خراب هائل في البلاد، وفي هذا الخراب تعرّض كثير من الأهالي للقتل والإذلال والتعذيب والشتات في البلدان المجاورة.

لم يكن الهدوء إلا فاصلا قصيرا في سيرة اضطراب وقلاقل وحروب متواصلة ما كانت لتهدأ إلا لتنفجر من جديد، ولتنفتح معها في كل مرة سيرة شتات أهل البحرين وتخريب بلادهم. ويذكر هنا أن الشيخ عبدالله بن أحمد آل خليفة - ثالث حاكم من آل خليفة على البحرين - قد رحل إلى قطر في العام 1252هـ/1836م، وأناب عنه ابنه الشيخ محمد بن عبدالله، «فكثرت في تلك الأيام الفتن، وعظمت الفوضى، وتفاقم الشر، وازدادت البلوى على الرعية، وعمّ الجور، وكثرت التعديات من الجهلة والسفلة والغوغاء وخدام الحكام على أموال الرعية وأعراضهم، فتبدّل الأمن خوفا، والأنس وحشة، والصفو كدرا، فهاجر من البحرين كثير من الأهالي، وفرّوا إلى الأطراف المختلفة بعضهم إلى الكويت والبعض إلى جهات فارس والعراق وعمان وغيرها» (قلائد النحرين، ص 288 - 289).

وينقل محمد الرميحي عن أحد التقارير البريطانية وصفا لوضع البلاد في أعوام (1836-1838م)، وهو وصف يؤكد استمرار حال الشتات العام التي حكمت أهل البحرين منذ العام 1717م. يقول: «إن سكان الجزر أخذوا ينزحون عنها، فالمدن كانت في حالة خراب حتى إن إيجار البيوت انخفض إلى الثمن عما كان عليه منذ سنوات قليلة» (البحرين: مشكلات التغيير السياسي والاجتماعي، ص 23).

أما الفتنة الكبرى التي أكملت تدمير البلاد وتشتيت أهلها بصورة أعادت التذكير بسيرة الزلزال الأباضي المدمّر، فقد تمثلت في الاقتتال الداخلي بين أمراء آل خليفة الثلاثة: الشيخ محمد بن خليفة، وأخيه الشيخ علي بن خليفة، وابن عمهما الشيخ محمد بن عبدالله. وعن هذا الأخير يذكر ناصر الخيري أنه تغلّب على محمد بن خليفة وتقدّم على البلاد ومن معه من بدوان الجزيرة العربية، فأقاموا فيها «السلب والنهب كما جرت بذلك سنة البدو رغما عن توسّلات الشيخ علي بن خليفة الذي رجاهم أن يتجنبوا نهب البلاد وأذية الرعية، ولكن مساعيه كلها ذهبت أدراج الرياح، فتكدّر صفاء البحرين، وحاق بها المحاق، وضاق الناس ففرّ أكثرهم من البلاد وتفرّقوا عنها أيدي سبأ ريثما تسكن هذه الزوابع المقلقة» (قلائد النحرين، ص 295). وحين رجع محمد بن خليفة إلى البلاد اشتبك الجميع في اقتتال شرس انتهى بمقتل حاكم البحرين الشيخ علي بن خليفة وابنه الشيخ إبراهيم بن علي، فدخل محمد بن خليفة البلدة «دخول الفاتح الظافر، واشتغل البدوان بالنهب والسلب وخراب البلد حتى تركوها خاوية على عروشها، ولجأ سكانها إلى الفرار والنجاة بأنفسهم وأرواحهم تاركين أملاكهم وأموالهم تحت رحمة البدوان غير آسفين عليها ولا نادمين» (قلائد النحرين، ص 365). ثم أُسِر محمد بن خليفة، وتولّى محمد بن عبدالله الحكم في البلاد مدة ثلاثة أشهر. ولم تهدأ الأوضاع إلا بعد وصول مأمور الدولة البريطانية في الخليج الكولونيل الإنجليزي لويس بيلي، و «حين وصوله طلب تأمين الأهالي وردّ الأموال المنهوبة إلى أربابها»، وألقى القبض على محمد بن خليفة ومحمد بن عبدالله وأعوانه وأرسلوا إلى المراكب، وتم ترحيلهم إلى الهند. ثم أعلن في البدو «أن من لم يفارق البحرين في مدة سبع ساعات يكون دمه هدرا، ففرّ الأعراب وتنافروا في كل جهة، وخلت منهم الديار» (قلائد النحرين، ص 367).

وفي هذه الواقعة خرج الشيخ علي البلادي مع والدته من البحرين إلى القطيف وعمره آنذاك ثماني سنوات، وهو يصوّر الاضطراب الذي حلّ بالبلاد في العام 1284هـ بقوله: «ثم وقعت الواقعة العظيمة على بلادنا البحرين سنة 1284هـ التي قتل فيها حاكمها (علي بن خليفة) وغيره، فتفرّقت أهلها في الأقطار وتشتتوا في الديار، فكنتُ ممن رمته مناجيق الأقضية والأقدار، وقذفته نون الآونة والأخطار في بلاد القطيف» (أنوار البدرين، ص 232 - 233، وانظر: ص 51).

هذه هي سيرة الشتات العظيم الذي ابتلى به أهل البحرين منذ الهجوم الأباضي الأول في العام 1717م. وهو الشتات الذي تصاعدت وتيرته في الهجومات والحروب والاقتتال والفتن التي ضربت البلاد طوال قرن ونصف القرن من الزمان، ولم تهدأ إلا في العام 1869م حين تدخّل الإنجليز وتولى الشيخ عيسى بن علي مقاليد الحكم في البلاد. وقبل أن تبدأ سيرة الشتات والخراب كان شيعة البحرين المشتتون يفسّرون «تشيّع أهل البحرين» على أنه فضيلة من «فضائل البحرين» وعلامة على «شمول اللطف الإلهي لأهل تلك الديار» (أنوار البدرين، ص 27). كان هذا تفسير الشيخ يوسف البحراني والشيخ علي البلادي - وهما من بحرينيي الشتات، وحين زُلْزِلَت الأرض من تحت أقدام هذه الديار، فزال كامل عمرانها وشُتِّتَ معظم أهلها، عاد الشيخ علي البلادي نفسه ليفسر كل هذا الخراب والشتات على أنه ابتلاء إلهي، وعلامة على حسن إيمان هؤلاء وصادق تشيّعهم؛ لأن الله لا يبتلي إلا عباده المؤمنين، يقول: «فكأنهم قد خُصّوا بالبلا لما كانوا من خلّص أهل الولا» (أنوار البدرين، ص 193)، وهو يرى أن كل هذا الخراب والشتات الذي ابتُلِيَت به هذه الديار وأهلها إنما كان «مصداق المثل أو الدعاء أو الحديث المرسل الذي ذكره السيد المعاصر السيد محمد باقر في روضاته (...) وهو قولهم: (خرّب الله البحرين وعمّر أصفهان)» (أنوار البدرين، ص 47 - 48). أما الشيخ محمد علي آل عصفور - وهو أيضا من بحرينيي الشتات - فإنه ينقل كلاما يستشرف فيه الإمام علي بن أبي طالب (ع) ما سيحلّ بالبحرين من خراب وأهوال، يقول: «يا ويل جزيرة أوال من وقعات تترادف عليها من كلّ ناحية، فيؤخذ كبارها، وتهتك صغارها» (عيون المحاسن، ص 59). هكذا وكأن هذه التفسيرات «الإيمانية» تقول إن ما حدث من «وقعات» و «أهوال» و «خراب» في البحرين إنما كان مقدّرا ولا مهرب منه.

وسواءٌ أكان هذا الخراب والشتات راجعا إلى الابتلاء الإلهي بغاية تمحيص «أهل الولاء» كما يقول الشيخ علي البلادي، أم إنه يرجع إلى الغضب واللعنة التي تحلّ عقابا لما اقترفته أيدي أهل البحرين من «قبيح الفعال» إذا استعارنا تعبير الشيخ سليمان الماحوزي، فإن المحصّلة المؤكدة هي أن هذا الخراب والشتات لم يمرّ على البحرين وأهلها من دون أن يترك أثره الحاسم على هذه الجزيرة في صورة الخراب وزوال العمران، وعلى أهلها الذين خرجوا من زمن الخراب والشتات وهم مسكونون بشعور عميق بأنهم الناجون المهدّدون بالفناء، والبقية الباقية المستهدفة بالإبادة وتصفية الهوية واقتلاع الوجود. وستكون لهذا الإحساس تداعياته الخطيرة على علاقة هؤلاء الناجين بكلٍّ من الإنجليز من جهة، وبنظام الحكم من جهة أخرى. وهذا ما نسعى إلى استجلائه في المقالات القادمة إن شاء الله.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1754 - الإثنين 25 يونيو 2007م الموافق 09 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً