الشعر صوت القلب وحوار الوجدان، إنه لغة التعبير عن أسئلة الحياة ومكنوناتها، ورسالة نبيلة تحمل في طياتها سر بهاء الحرف وسحره، فالشعر في مجمله ديوان العرب، وسجل مآثرهم وأيامهم وآمالهم وآلامهم. وقد ظل عبر العصور وسيلة تخاطب تنقل الحكمة والغزل والفخر والخطابة، تشحذ الهمم لدى الحروب، وتبعث الفرح في النفوس إثر كل نصر فتخلد بذلك كل حدث وذكرى، فهو معين لا ينفد وأرض خصبة لا تجف ولا تبور.
إن الشعر موهبة يغرزها الله في فطرة بعض الناس، وهذه الموهبة لا يمكن الحصول عليها لا من أكاديمية ولا من جامعة، وجميع الشعراء الذين عرفهم تاريخ الإنسانية الطويل لم يتخرجوا من جامعات ولا من أكاديميات، بل كانت جامعتهم وأكاديميتهم الوحيدة هي الموهبة، ومن ثم صقلوا هذه الموهبة من خلال الاطلاع والعلم والمعرفة.
فالموهبة وحدها لا تكفي لتجعل الإنسان شاعرا، بل عليه أن يحفظ شعرا كثيرا، وعند العرب عليه أن يحفظ ألف بيت من الشعر كي تستقيم لديه القافية والوزن ويتعاطى الشعر سليقة. ومثالا على ذلك حكاية الشاعر العباسي الأصمعي عندما كان سائرا ووجد صخرة كتب عليها أحد الشعراء بيتا من الشعر يقول:
أيا معشر العشاق بالله خبروا
إذا حل عشق بالفتى كيف يصنعُ
فكتب تحته على الصخرة يقول:
يداري هواه ثم يكتم سره
ويصبر في كل الأمور ويخضعُ
فلما عاد مرة أخرى وجد بيتا آخرَ يقول:
وكيف يداري والهوى قاتل الفتى
وفي كل يوم قلبه يتقطعُ
فكتب الأصمعي أيضا تحت هذا البيت:
إذا لم يجد بدا لكتمان سره
فليس له شيء سوى الموت ينفعُ
إن حكاية الشاعر الأصمعي لدليلٌ على بدهية الشعر وقيمته الأدبية التي تقوم على الموهبة والإبداع إذ بدأ الشعراء يتغنون بهذه الأبيات الغزلية والرومانسية.
وأوردنا هذه الأبيات عن الشعر لنتساءل عمّا نُشِر من تصريحات حملتها الصحف يصعب تصديقها وهي أن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث أعلنت تأسيس «أكاديمية الشعر العربي» تُعنى بأمور الشعر العربي منهجا وضوابطَ وتدريسا. والمعروف أن كلمة أكاديمية هي كلمة مأخوذة من أكاديمي باللغة الإنجليزية ومعناها المعهد أو البيئة الجامعية التي تقوم على تخريج مجموعة من الطلبة مؤهلين في مجالات معينة بدرجات علمية متفاوتة بعد مراحل دراسية متعددة. وعلى هذا الأساس لا يمكن اعتبار الشعر مادة تلقّن أو تدرّس كأي علم آخر، ولأنه هبة ربانية لا تؤخذ ولا تعطى، فلا يمكن أن يُمنح وفق شهادات أو درجات علمية.
فالشعراء العرب قبل الإسلام وفي صدر الإسلام كانوا يقولون الشعر بالسليقة و «الفطرة» وكانت أشعارهم تصاغ في أوزان محددة. ومن هذه الأشعار استطاع الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة 170 للهجرة، أن يستخرج العروض ويحصِّنَ به أشعار العرب، ومن ثم درج الشعراء العرب بعد الفراهيدي على الاقتداء بهذا العروض.
ولكن الضعف الذي دبَّ في جسد هذه الأمة مذ القرن الرابع الهجري، تسرّب إلى وعائها الثقافي الذي هو الشعر، فانتهى عصر الشعراء الفحول، وكادت الأمة تكون بلا شعراء؛ لأن العناصر غير العربية قد غلبت عليها. وظلت على هذه الحال إلى حين سقوط الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى في العام 1918. ولكن هذه الأمة لم تنتقل إلى حال أفضل، بل سقطت في أيدي المستعمر الغربي الذي عمل على نشر لغته وثقافته تحت مسمى «تحضير الشعوب العربية». وظهر جيل جديد من الشباب العرب المتأثرين بالغرب وبثقافته. ومن هذا الجيل ظهر ما يسمى «شعراء الحداثة العربية» وعلى رأسهم نازك الملائكة، وبدر شاكر السيّاب، وأدونيس، ومن جاء بعدهم من شعراء التفعيلة. وهؤلاء نقلوا إلينا الشعر الغربي الحديث بصيغة عربية، واعتبروا أوزان الخليل قيودا وأصفادا تقيّد حرية الشاعر وتمنعه من الإبداع، فنسفوا كل الماضي الشعري لهذه الأمة الذي قام على أوزان الخليل، وكتبوا تاريخا شعريا جديدا يقوم على أساس المفردة المتحررة من قيد الوزن والقافية، ولكنها مكتنزة بالشعور العميق الذي يجعل قارئها ينسبها مباشرة إلى شيء آخرَ غير النثر.
وهذا المفهوم الجديد للشعر ابتدعه الشعراء الغربيون في عصر النهضة، وخصوصا بعد ظهور الإصلاح الديني على يد المصلح الألماني مارتن لوثر في القرن السادس عشر. فقد تمت ترجمة الكتاب المقدّس إلى اللغات الأوروبية (الألمانية، الإنجليزية، والفرنسية)، وكان الشعراء الأوروبيون يكتبون الشعر قبل ذلك على أساس القافية والوزن، ولكنهم وبعد أن اطلعوا على الكتاب المقدّس تأثروا بنصوصه، ولاسيما نشيد الإنشاد لسليمان الذي يزخر بالصور الشعرية المفعمة بالرمزية والسريالية، فظهر شعر أوروبي جديد يستلهم النص التوراتي. ويمكن للقارئ أن يلحظ الخلفية التوراتية في معظم أشعار الشعراء الأوروبيين مثل بودلير، رامبو، أليوت، ومالارميه وسواهم.
ومن ثم جاء شعراء الحداثة العرب فأخذوا المفاهيم الشعرية الحديثة عن شعراء أوروبا فنقلوا بذلك ارتكاز الشعر العربي من القرآن الكريم إلى التوراة والإنجيل، وهذا هو الخطير في هذه الثورة الشعرية التي لاتزال مستمرة إلى اليوم بأوجه كثيرة.
وإذا كان من حق أي مسئول جديد يتولى قطاعا ثقافيا أو فنيا أن يسعى إلى الارتقاء بمؤسسته وتطوير أسلوب عملها وطريقتها في الأداء نحو الأفضل، ويطلق العنان لروح الخلق والإبداع لديه للنهوض بأدائها شكلا ومضمونا، فإن التغيير في حد ذاته وسيلة وليس غاية، ويجب أن تحكمه الضوابط العلمية والأدبية ولاسيما إذا كانت تلك المشروعات ثقافية.
ولعل فكرة إنشاء أكاديمية للشعر في أبوظبي هي أحد تجليات الثورة الشعرية المشار إليها آنفا، لذلك ينبغي علينا الابتعاد عن هذه المسميات المتعلقة بالمشروعات الثقافية الوهاجة التي قد لا تتعدى بريقها الإعلامي. وأتذكر حين كنت في وزارة الإعلام، أن هذه الفكرة قد طُرِحت من قِبَل أحد الباحثين في الوزارة وتمّ وأدها في المهد لعدم إمكان تطبيقها؛ لأن الشعر موهبة، ولا يمكن تأهيل شخص ما لإعطائه شهادة شاعر. وإذا كان لا يمكن تعليم الطلاب الشعر كما يتعلمون باقي تخصصات العلم، فإنه يمكن إنشاء قسم ثقافي لتصويب الشعر وتنقيحه وتصحيحه واحتضان الشعراء.
*مستشار نائب رئيس الوزراء بدولة الإمارات
العدد 1756 - الأربعاء 27 يونيو 2007م الموافق 11 جمادى الآخرة 1428هـ