العدد 1762 - الثلثاء 03 يوليو 2007م الموافق 17 جمادى الآخرة 1428هـ

هذا المصير الأسود للديمقراطية!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

لم أسمع أسوأ ولا أسخف من تلك النكتة التي أطلقها الرئيس الأميركي جورج بوش الأسبوع الماضي، حين قال إنني أسعى وأريد عراقا ديمقراطيا على غرار «إسرائيل»!

وسخافة النكتة تعود أولا إلى أن قائلها هو بوش الموروط عسكريا في العراق، وتعود ثانيا إلى إيحائها بأن العراق قد استقر، في نظر بوش، وها هو يبني نموذجا ديمقراطيا جديدا، ثم تعود ثالثا إلى أن الرئيس الأميركي لم يجد في جعبته سوى النموذج «الديمقراطي» الإسرائيلي ليتطلع إليه، ويتخذه نموذجا ومنهاجا ونبراسا... وهو النموذج الاستعماري الكلاسيكي!

أما سوء النكتة، فيكمن في أن الرئيس المبعوث رسولا للديمقراطية، يريد منا نحن باقي الدول العربية، أن نتعلم من التجربة «الديمقراطية» العراقية، لنقلدها ونحاكيها ونسير على خطاها، إن كنا قد فشلنا في محاكاة النموذج الإسرائيلي!

ولكي نثبت أن النكتة سخيفة وسيئة معنى ومبنى، علينا أن نعيد تقليب الأوراق وترتيب الحوادث، لندرك هل نجح الرئيس الوكيل الحصري للتبشير بالديمقراطية في المنطقة، في بناء نموذج ديمقراطي يحتذى في العراق، ويحاكي بالتالي النموذج الديمقراطي الإسرائيلي، أم أن الورطة التي أثبتت الخيبة، هي المحصلة النهائية حتى الآن على الأقل؟

كان هدف الإطاحة بالنظام الديكتاتوري لصدام حسين، وإقامة بديل ديمقراطي في العراق، أحد ثلاثة أهداف استراتيجية، أعلنها الرئيس بوش في مطلع العام 2003 تمهيدا لغزو العراق واحتلاله ابتداء من مارس/ آذار من العام المذكور... والثابت حتى الآن أنه نجح في تحقيق الجزء الأول من الهدف وهو إطاحة صدام حسين وحكمه، ولم يستطع أن يحقق الجزء الثاني، وهو إقامة نظام ديمقراطي بديل، لأن الاحتلال الأميركي بعد أن دمر البلد قد خلق مقاومة مسلحة عنيفة، وأيقظ كل لمشاعر الوطنية في الشعب العراقي، باستثناء جماعات المتأمركين والمستفيدين...

يتفاخر صناع السياسة الأميركية الآن، أنهم أقاموا حكما ديمقراطيا في العراق لأول مرة، ولا أدري كيف ومتى تم ذلك... نعرف أن انتخابات عامة قد جرت وأن برلمانا قد تم انتخابه، وأن حكومة تشكلت من قوى الغالبية.

ما يوحي للوهلة الأولى، ولمن لا يتعمق في قراءة الوقائع، أن هناك فعلا حكما ديمقراطيا يسيطر على العراق من شماله إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه.

غير أن الوقائع تقول غير هذا، بداية بأن الانتخابات قد تمت تحت الاحتلال الأجنبي ما يفقدها الشرعية أساسا، وأن هذه الانتخابات أفرزت برلمانا وحكومة طائفية، يرتكز كلامها على التوزيع الطائفي والعرقي (سنة وشيعة وأكراد وتركمان وآشوريون... الخ) ترسيخا لتفكيك الوحدة الوطنية.

وها هي الحكومة تمارس حكما طائفيا بوضوح، وتدفع سياستها إلى تقسيم الوطن العراقي إلى شمال كردي وجنوب ووسط شيعي وجزء من الوسط والغرب سني التوجه والمذهب، وهي في الواقع حكومة تحتمي مع البرلمان في المنطقة الخضراء بقلب بغداد المحمية بالقوات الأميركية، بينما الأمن وشئونه في مجمل البلاد، لايزال في أيدي قوات الاحتلال.

والمعنى الذي نريد أن نبرهن على وضوحه، هو أن العراق يفتقد شرعية الاستقلال والسيادة الوطنية، وتفتقد مؤسساته الرئيسية خصوصا البرلمان والأحزاب والحكومة والأمن والجيش الشرعية الوطنية، الأرض ممزقة تحت التقسيم الطائفي والعرقي، والدولة غائبة تفتقد السيادة بالمعنى القانوني، والشعب ممزق بين القتل والقتال، والدول المتحالفة مع الاحتلال لا تستطيع حماية أحد، وأكثر من خمسة ملايين عراقي هاجروا للخارج عبر الحدود، مع مليونين آخرين هجروا في الداخل، في ظل «التطهير الطائفي والمذهبي» الجاري على قدم وساق.

فأي نموذج للديمقراطية هذا يبنيه الرئيس بوش في العراق، بل أي مستقبل لمثل هذه الديمقراطية، إذا كان بوش لايزال غارقا في المستنقع الدموي العراقي من دون بادرة لنهاية مشرفة له، فضلا عن أية إشارة للانتصار وإن طال الزمن؟

قبيل أيام من انتخابات الكونغرس في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام 2006، كان بوش يردد كمن يهذي بأن أميركا ربحت الحرب ضد الإرهاب وحققت انتصارا واضحا في العراق... وما أن قلبت نتائج تلك الانتخابات كل الموازين بفوز كاسح للحزب الديمقراطي خصم الرئيس بوش وحزبه الجمهوري، حتى عاد بوش وانقلب على قوله الأول، فأعلن في حوار شهير أجرته معه صحيفة «واشنطن بوست» في 20 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، إننا لا نكسب الحرب في العراق، ولكننا لا نخسرها!

هنا إذا اعتراف أميركي صريح بفشل 150 ألف جندي أميركي في كسب الحرب في العراق، فشل عسكري يؤدي بالضرورة إلى فشل سياسي، وإن كان قد حقق نجاحا اقتصاديا عبر سرقة واحتكار الثروة النفطية العراقية الهائلة.

فإن لم تحقق الترسانة العسكرية الأميركية الهائلة أي انتصار حتى العام الرابع لاحتلال العراق وتضمن الأمن والاستقرار في البلاد على الأقل. فكيف للإدارة السياسية الأميركية أن تحقق نجاحا في بناء نموذج ديمقراطي، أو على الأقل وضع بذوره الأولى في التربة العراقية... والديمقراطية كما نعلم عملية سياسية اجتماعية ثقافية طويلة المدى!

يتصور المحيطون بالرئيس بوش، من بقايا عصابة المحافظين الجدد المهزومة أن إجراء انتخابات وتشكيل برلمان وحكومة في العراق، دليل واضح وبرهان ساطع على بناء ديمقراطية وهذا وهم وتدليس سياسي من الدرجة الأولى، يحاولون به إقناع الرأي العام الأميركي أولا، بنجاح سياستهم في ترويج القيم الديمقراطية الأميركية وزرعها في العراق، ليكون نموذجا جاذبا لباقي الدول العربية.

وهنا تدخل حكاية السير على خطى الديمقراطية في «إسرائيل»، التي يحلم بها الرئيس بوش مبشرا وهاديا ومتعبدا في محرابها، إنه يخاطب المشاعر والعواطف الأميركية لتسانده وتدعمه، حين يذكرها «بالنموذج الديمقراطي الإسرائيلي» ، الذي نجحت «القوة اليهودية» بأذرعها ومنظماتها الصهيونية، في زرعه في الوجدان الشعبي الأميركي، وإقناع قطاعات واسعة من الرأي العام، بأن قيام دولة «إسرائيل» تمهيد لعودة المسيح عليه السلام وشرط من شروط قيامته، وبأن «إسرائيل» تحاكي النموذج الأميركي تمام المحاكاة، من حيث النشأة والتأسيس والهجرة والقيم والثقافة والتقاليد، وكذلك النموذج الديمقراطي.

معظم الرأي العام الأميركي، نشأ وتعلم وتثقف، على هذه المشاعر والمواقف تجاه «إسرائيل»، فهي جزء من كبد أميركا وعين لها في قلب الشرق الأوسط، الذي هو قلب العالم ومخزنه النفطي، نموذج ديمقراطي يكرر ويحاكي النموذج الأميركي حين كان حلما يتوبيا مثاليا يهيم في خيال المهاجرين الأوائل، وهم يحتلون الأرض - الجنة الجديدة، ويقيمون المستوطنات - المستعمرات، ويقاتلون أهل البلاد الأصليين ويبيدونهم، من أجل بناء الجنة الموعودة! وما فعله المهاجرون الأوروبيون في أميركا، فعله المهاجرون اليهود في فلسطين، باسم الحلم الصهيوني في أرض الميعاد.

بوش حين قال الأسبوع الماضي إنه يسعى لبناء عراق ديمقراطي على غرار النموذج الديمقراطي الإسرائيلي، كان يخاطب العواطف الأميركية من دون أن يجرؤ على مخاطبة العقول الأميركية، لأن هذه تدرك حجم الورطة العسكرية الدامية في العراق، ومدى خسائرها بل وعمق تأثيرها على مستقبل الحياة السياسية في أميركا ذاتها... حين تضطر مباشرة للانسحاب في نهاية المطاف، بلا حرب انتصرت وبلا ديمقراطية زرعت!

حكم التاريخ حتما سيجرى على الاحتلال الأميركي للعراق، كما جرى على احتلال الإمبراطوريات الاستعمارية الغربية القديمة، التي انسحبت صاغرة واستقلت الشعوب والدول التي خضعت زمنا للغزو والاحتلال... وحينئذ سترتد النتائج العكسية على أميركا في الداخل، لتحاسب نفسها كما سبق لها أن فعلت بعد حربها المريرة في فيتنام وكوريا وغيرها من حروب الغزوات الخارجية.

لكن تبقى المأساة متحكمة في تفكير الرئيس بوش، مستحكمة في سياساته الفاشلة، سواء في الحرب أو في نشر الديمقراطية، بعنجهية القوة المسلحة المغرورة الباطشة الطائشة، والخشية أن يستغل ما تبقى له في عرش الرئاسة من شهور قليلة ليتوهم إقامة نموذج ديمقراطي آخر غير نموذج العراق، وعلى غرار النموذج الإسرائيلي، الذي لم يعد في العالم من هو أسوأ منه عدوانية وتعصبا ومعاداة لكل معاني الديمقراطية، والدليل الحي هو ما يفعله الآن ضد الفلسطينيين!

أما المأساة الأكبر والأفدح، فهي أن البعض منا «منهم» لايزال يأمل خيرا، في وعود الرئيس بوش وتعهداته، بإقامة ديمقراطية في بلادنا... على غرار النموذج العراقي الدامي والنموذج الإسرائيلي المدمي!

إن كانت حرب بوش مغامرة، فديمقراطية بوش مقامرة، والرهان عليهما خاسر من البداية يا أولي الألباب.

خير الكلام: يقول الشاعر أحمد فتحي:

يا ترى ما تقول روحك بعدي

بابتعادي وكبريائي وسهدي

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1762 - الثلثاء 03 يوليو 2007م الموافق 17 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً