العدد 1768 - الإثنين 09 يوليو 2007م الموافق 23 جمادى الآخرة 1428هـ

المرويات الشفاهية وتعميق الأزمة والتنازع

نادر كاظم comments [at] alwasatnews.com

.

يذكر محمد علي التاجر أن البحرين بقيت «تتخبط في الجهل والأمية إلى الزمن الأخير». وقد أوضحنا في مقال الأسبوع الماضي أن هذه الحالة هي التي مهّدت الأرضية لتصدّر العائدين من الشتات لزعامة «جماعة الشيعة» بحسب التسمية التي كانت متداولة في وثائق العشرينات وما قبلها. كما أن غياب المرجعيات الدينية الكبرى داخل هذه الجماعة قد مهدّ الأرضية لبروز زعامة من نوع آخر، زعامة ربما كانت مغيّبة طوال هذه السنوات، وجاء «الزمن الأخير» لتتصدّر - هي مع العائدين من الشتات - المشهد العام في فضاء هذه الجماعة. هذه الزعامة هي زعامة التجار والوجهاء. ومن أبرز هؤلاء كان الحاج عبد علي بن رجب - والذي يوصف في بعض وثائق العشرينات بأنه «رئيس جماعة الشيعة»، والحاج أحمد بن خميس (تاجر لؤلؤ).

وهنا ينبغي أن نشير إلى هذا «الزمن الأخير» الذي يتحدث عنه التاجر هو ذاته زمن الشروع في «بناء الدولة» وتطبيق الإصلاحات في البحرين. والحق أن هذه جملة اقترانات جمعت بين حوادث وظواهر وأحوال كان لها تأثير حاسم ومعقّد، وهي بحاجة إلى تفسير لاستكشاف تأثيراتها المتبادلة في تلك الحقبة الزمنية. ويقوم التصور الذي نحاول تفحّصه هنا على افتراض مؤداه أن حالة الجهل والأمية التي يتحدث عنها البلادي والخيري والتاجر وفّرت أرضية خصبة لا لتصدّر التجار والعائدين من الشتات فحسب، بل لانتعاش حالة الشك والنفور وانعدام الثقة المتبادلة بين شيعة البحرين ونظام الحكم. وهو ما كان له دوره البالغ في ترسيخ حالة الفشل العام في إنجاز مهمة التوافق داخل الدولة. وأنا هنا لا أركّز على العواقب السلبية التي جرّتها حالة الجهل والأمية على مسيرة التنمية في البلاد، وهو الأمر الذي فرض على الإدارة الناشئة في العشرينات أن تتوسّل بالموارد البشرية الأجنبية المتعلمة والمدرّبة (الإنجليزية والهندية) اللازمة لتشغيل أجهزتها حديثة النشأة. لكن ما يعنيني هنا هو الكشف عن العواقب السلبية لهذه الحالة على مستوى علاقات التواصل بين الفاعلين السياسيين والاجتماعيين، وأثر هذا التواصل المقطوع في تعميق الفشل العام في التوافق داخل الدولة.

ومن الثابت أن حالة الجهل والأمية التي رافقت نشأة الدولة قد جعلت الأهالي يعتمدون على المرويات الشفاهية اعتمادا كبيرا. وقد أسست هذه المرويات لتاريخ الأهالي الممتلئ بالشتات والضياع والوقائع والمآسي والمظالم. وصارت هذه المرويات هي مصدر الأهالي المعتمد ومنفذهم الوحيد إلى هذا التاريخ. وقد كان هذا التاريخ بمثابة «الديوراما» (صورة ينظر إليها من خلال ثقب في جدار غرفة مظلمة)، وكان الأهالي ينظرون إلى هذا التاريخ الديورامي (على خلاف البانوراما حيث المنظر واسع ويرى في كل اتجاه) من ثقب مروياتهم الشفاهية وداخل زمنهم المظلم والمشحون بالمظالم والتعديات والسخرة. وفي هذه الأجواء انتعشت هذه المرويات. وبحكم افتقار المرويات الشفاهية إلى التدقيق والتحقيق والضبط فقد كان من السهل أن تختلط الحوداث وتتداخل المآسي والوقائع. وقد تنبّه عبد الهادي خلف إلى هذه الظاهرة، وأشار إلى ما تفعله هذه المرويات المختلطة في «إدامة الإحساس بالهزيمة» المزمنة، وفي تعميق «التخندق الإثني والتنازع الاجتماعي» في البلاد، يقول: «يزخر التراث المحكي للشيعة بتفاصيل قصص السلب والاغتصاب وأعمال السخرة وفظاعات أخرى (...). وفيما قد تصح بعض هذه القصص فإن معظمها ملوّن بوقائع معروفة في التاريخ الديني للشيعة بما في ذلك حوادث جرت في أماكن بعيدة وأزمنة بعيدة. تعكس بعض هذه الحكايات الفلكلورية بصيغها المختلفة بعض دلالات الإحسـاس بالهزيمة لدى متداوليها كما يعمل استمرار تداولها على إدامة ذلك الإحسـاس. تجرى استعادة هذه الحكايات وإعادة تركيبها مع ما يرافقها من تفاصيل دراماتيكية مناسبة وحذف وإضافة هذا التفصيل أو ذاك بما يخدم أغراض التعبئة الإثنية وظروفها الزمانية والمكانية» (بناء الدولة في البحرين، ص18-19).

يطرح التعامل مع هذه المرويات إشكالية ترتبط بما أسميه هنا بـ «أخلاقيات التذكّر»، فكيف يمكن التعامل مع مرويات الماضي واستحضار وقائعه إذا كان هذا الماضي موضوعا للتنازع، بل ربما كان فعل التذكّر بحدّ ذاته محفوفا بمخاطر جمّة، وباعثا على تجدد التنازع والشقاق بين الجماعات في أي وقت يجرى فيه استحضار هذا الماضي ووقائعه. وتزداد خطورة الموقف إذا كان فعل التذكّر محكوما بمرويات شفاهية اختلطت فيها الوقائع، وتداخلت أثناء تحبيكها الحوادث والتواريخ. وقد أسس هذا الاختلاط لمسار أزمة ظلت تنتج نفسها باستمرار. والحق أن هذه حال لا تسلم منها معظم الجماعات في البحرين. فهذه المرويات تزيّف الوعي وتعمّق الانقسام وتديم التنازع، وتضحي بالحاضر من أجل الماضي، ثم أنها تستثمر وقائع هذا الماضي أيديولوجيا، وتخضعها لمآرب سياسية ونفعية لا تحترم «أخلاقيات التذكر» ، ولا تمت بأي صلة للوفاء الأخلاقي للماضي. وأكبر دليل على هذا هو أن هذه المرويات تنشط لتتحول إلى أداة من أدوات الاحتراب في لحظات التأزم السياسي في البلاد، ما يعني أنها صارت «خزانا احتياطيا» من الأسلحة التي يتصارع بها الفاعلون السياسيون والاجتماعيون لحظة التأزم. وهذا ما يفسّر انبعاثها بقوة في منتصف التسعينات من القرن العشرين، وفي السنوات الخمس الأخيرة.

ينبغي على هذه الجماعات أن تبحث عن شكل محتمل من «التصالح الثابت» فيما بينها، وإذا استعرنا عبارة إدوارد سعيد، فسننتهي إلى القول إنه «ليس ثمة حل وارد إلا إذا واجهت كل جماعة تجربتها في ضوء تجربة الآخر». والذاكرة الجماعية جزء جوهري من هذه التجربة، وعلى هذا فليس ثمة حل ممكن إلا إذا واجهت كل جماعة ذاكرتها التاريخية في ضوء ذاكرة الجماعات الأخرى. وإذا افتقرت الجماعات إلى الشجاعة في هذه المواجهة، فإنها بالضرورة ستكون أكثر عجزا وجبنا في الإقدام على «واجب النسيان»، نسيان هذه الذاكرة المثقلة بالجراح والنزاعات.

سبق أن أشرنا إلى أن سيرة الخراب والشتات العظيمين هدأت في العام 1869م، ولم يعقب هذا التاريخ خراب هائل أو شتات ذو شأن إلا ما عرفتها العشرينات من هجرة قبيلة الدواسر الجماعية إلى الدمام في العام 1923م، وحالات النفي السياسي التي تعرّض لها الشيخ علي بن أحمد آل خليفة وجاسم الشيراوي وعبد الوهاب الزياني وأحمد بن لاحج والشيخ خلف العصفور. إلا أن التاريخ يذكر أن «استقرار الأهالي في أوطانهم وأمنهم النوائب» لم يدم إلا عشرين عاما من حكم الشيخ عيسى بن علي. ويرجع ناصر الخيري هذا التحول إلى وفاة شقيق الحاكم الشيخ أحمد بن علي في العام 1306هـ. وقد كان الشيخ أحمد أكبر عضد ونصير وخير مساعد ومشير للشيخ عيسى بن علي، ويبدو أن وجوده كان مانعا من تعدد الأمراء والحكام. إلا أن المجال بعد وفاة الشيخ أحمد اتسع لتعدد الحكام والأمراء، وصار كل أمير مستقلا بمجموعة قرى تقع تحت نفوذه، وينتفع هو بخراجها. وصارت الرعية - كما يصفها ناصر الخيري - «خولا (عبيدا) للحكام وتبعتهم، وهدفا لسهام مطامعهم وشهواتهم، لهم أن يتصرفوا هم وعبيدهم فيهم تصرّف المُلاّك في أملاكهم. وهذه النظرية العقيمة هي التي جرت جرائر السوء على البحرين وغيرها من البلاد التي يعتقد حكامها تلك العقيدة الفاسدة» (قلائد النحرين، ص402).

ليس بمقدور أحد اليوم أن ينكر عواقب هذه «العقيدة الفاسدة» وما جرته من جرائر على البلاد وأهلها. إلا أن دوام التذكير بجرائر هذه «العقيدة الفاسدة» قد حجب عن الأنظار جرائر أخرى لا تقل بشاعة. فما جرته هذه «العقيدة الفاسدة» من جرائر على البحرين وأهلها لا يقارن بحجم الخراب العظيم والشتات الهائل الذي تسببت فيه الحروب والهجمات المتعاقبة منذ العام 1717م. وإذا كانت المظالم والتعديات على حقوق الناس كثرت في الفترة بين 1889 - 1923، فإن علينا أن نتذكر أن هذه المظالم المنظمة أو المتفرقة لم تتسبب في حالة شتات جماعي كالذي عرفته البحرين في الفترة بين 1717 - 1869. فضلا عن أنها لم تكن سنوات عطال شامل وخراب منتشر كتلك السنوات التي خبرتها البلاد في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. إلا أن مظالم هذه الفترة وتعدياتها هي التي حكمت «بنية الصراع» بين شيعة البحرين ونظام الحكم منذ السنوات الأولى لتأسيس الدولة. وقد تعاونت هذه المظالم الحاضرة مع حالة الأمية وانعدام التاريخ المدون للخراب والشتات القديمين في تكوين متخيّل جماعي يتخذ من تاريخ العام 1783 - تاريخ مجيء آل خليفة إلى البحرين - نقطة مفصلية متصدّرة في تاريخ الخراب العام في البلاد، واندمجت في هذا المتخيّل الجماعي مرويات شفاهية عن تلك المظالم المتأخرة مع مرويات بعيدة ومجهولة ومبعثرة عن خراب عظيم وشتات هائل ضرب البلاد في يوم من الأيام، إلا أنه لم يكن عسيرا على السرد الشفاهي أن يعيّن هذا التاريخ، وأن يثبّت كل الخراب والشتات والحروب والوقائع في تاريخ بعينه وهو: 1783م. في حين أن محمد علي التاجر - وهو من نخبة الشيعة المتعلمين في النصف الأول من القرن العشرين - يذكر أن دخول آل خليفة إلى البحرين قد تمّ دون مقاومة تذكر، يقول: «وأعدوا عدتهم بقيادة رئيسهم الكبير الشهم الخطير الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة، فشحنوا السفن بالرجال والعدة والذخيرة والمال، وأقلعوا قاصدين البحرين، ولما وصلوها نزلوا فلم يلقوا مقاومة تذكر، وملكوها بكل سهولة بعد أن قتل الأمير مدن الجدحفصي نائب الشيخ نصر آل مذكور» (عقد اللآل، ص105).

لا يمكن لباحث أن يتجاهل تلك المظالم والتعديات التي انتشرت بين الأعوام (1889 - 1923)، وليس من الإنصاف أن ننكر اليوم هذه المظالم، إلا أنه لا يجوز السماح لمرويات هذه الحقبة أن تستمر في إعادة إنتاج الأزمات وتقطيع علاقات التواصل بين الفاعلين السياسيين في البلاد حتى بعد قرن من حدوثها. أقول هذا لا على قاعدة أن «تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون» (البقرة:134) فحسب، بل على أساس أنه لا سبيل أمام الجماعات والفاعلين السياسيين والاجتماعيين اليوم إلى تأسيس «فعل التواصل» فيما بينهم إلا بتحرير الوعي/اللاوعي السياسي والثقافي من قبضة الأزمة المتجذرة التي تعيد إنتاجها مرويات الأعوام (1889 - 1923) المتداولة شفاهة على لسان الأهالي، أو تلك المدونة في الإرشيف البريطاني أو غيره. والتي كان التذكير بها بمثابة الاستراتيجية الخطابية الأكثر خطورة في يد المعارضة الشيعية طوال الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين.

وللحديث صلة في الأسبوع المقبل.

إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"

العدد 1768 - الإثنين 09 يوليو 2007م الموافق 23 جمادى الآخرة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً