العدد 1776 - الثلثاء 17 يوليو 2007م الموافق 02 رجب 1428هـ

الإفساد المتبادل بين السياسة والصحافة

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

طغت السياسة بمعناها الرسمي على الصحافة، واحتكر السياسيون مقاعد الصحافيين، ففشلت السياسة في تلميع وجهها، وفشلت الصحافة في أداء رسالتها، وكانت الضحية هي الحرية، التي بسبب نقصها أو غيابها، تراجع الاثنان... السياسة والصحافة على نحو ما نرى ونعرف، في ظل حالة ملتبسة تبدو شديدة الخطورة، تترجم فكرة السلطة المطلقة.

وعبر تطور الحوادث والعصور، لتنتقل إلى التحكم في السياسة، والانفراد المتتالي بالسلطة ونفي الآخر، أوعلى الأقل إضعافه واستنزاف قواه، لتنتقل إلى الصحافة بصورة كربونية، وعايشنا على سبيل المثال انفراد حزب أو زعيم بالسلطة ما أنتج تجمد مسئولين وسياسيين ووزراء في مقاعدهم عشرات السنين!

وبالمقابل عايشنا صحافيين كبارا رؤساء تحرير، تكلسوا في مناصبهم عدد السنين نفسه، من دون تغيير أو تطوير وبنهج السياسيين والوزراء نفسه، فمن أين إذا يأتي الابتكار وكيف يتحقق التطوير، بل كيف لا يتحقق النجاح لتحالف الفساد والاستبداد الهاجم على الجميع.

ولقد لعبت فكرة القائد الملهم والزعيم الأوحد، صانع السياسة وصاحب القرار وحده، وهي فكرة استبدادية شيطانية، دورها في تحقيق نظرية الإفساد المتبادل بين السياسة والصحافة، وأطبقت هذه النظرية بالتالي على كل مؤسسات الدولة والمجتمع، في غياب الحرية والنظم الديمقراطية السليمة، التي تشارك وتحاسب وتعاقب، وتعوق الانفراد بسلطة القرار السياسي، والانفراد بصوغ الرأي العام وتوجيهه بواسطة الصحف ووسائل الإعلام الخاضعة للهيمنة الحكومية.

وكان من نتائج هذه الحالة المعادية للديمقراطية، المتمسكة بالاستبداد السياسي والصحافي، إفراغ الحياة السياسية من القوى والمنظمات والأحزاب القادرة على المنافسة من أفكارها وطموحها وكوادرها، وبالتالي انطبق الوضع على الصحافة، التي تم إفراغها عبر عقود من آرائها الحرة وسياساتها التحريرية المهنية والمستقلة وكوادرها الموهوبة والمدربة... وأصبح الميدان فسيحا لا رقابة عليه أمام المتحكم الأوحد والشلة الواحدة.

وبقدر الإفقار المنظم للحياة السياسية وإفراغها من أجيال جديدة وشابة، بقدر ما تم الإفقار المنظم للصحافة والإعلام نفسه، وحرمان أجيال متعددة من فرصها في العمل والإبداع والترقي، فإذا بنا نوضع دائما أمام «الخواء» في ظل احتكار المناصب والمواقع لصالح أفراد معدودين، انتهت مدة صلاحيتهم، وتشعبت مصالحهم وأطماعهم، وإذا بنا نفاجأ في كل وقت بسؤال مستفز يقول، ومن البديل... هل هناك بديل؟!

والسؤال مستفز، فضلا عن أوصاف أخرى أشد قسوة، لأنه يعني أننا يجب أن نقبل بالوضع القائم في السياسة كما في الصحافة، وأن نقبل بنظرية «الرجل الضرورة» الذي لا يمكن الاستغناء عنه، لأنه ليس له بديل، وهي نظرية نزلت من أعلى إلى أسفل، فسادت مجتمعا عريقا كبيرا ضخم السكان «75 مليونا» مثل مصر، 65 في المئة منه تحت سن الثلاثين، ويرسل صباح كل يوم 19 مليون طالبا إلى المدارس، ويبني باستمرار أجيالا شابة متعلمة ومؤهلة لشغل كل المناصب، إن أخذت فرصتها!

والحقيقة أن طغيان السياسة على الصحافة بهذا الشكل، الذي أدى إلى تطويعها وتدجينها، ليس قاصرا على مصر من دون غيرها من الدول الفقيرة والمتخلفة وغير الديمقراطية، لكنه نموذج شائع، كما أن هذا الطغيان ليس وليد هذا العصر، ولكنه كان قائما حتى فيما يسمى المرحلة الليبرالية المصرية الشهيرة، فيما بين 1920 و1952، إلا أنه للأمانة تزايد فيما بعد، وصولا لحالة الالتباس والتشابك الراهنة بين السياسة الحكومية والصحافة والإعلام.

فإذا ما كانت أحزاب المرحلة الليبرالية المشار إليها، تصدر صحفها وتتحكم فيها، وتخضع توجهاتها التحريرية لسياساتها وأهدافها الحزبية، فإن تأميم «أو تنظيم» الثورة للصحافة العام 1960، قد أخضعها للتوجيه الحكومي وألحقها من الناحية النظرية على الأقل بالمنظومة السياسية الرسمية، وصارت الصحف تابعة للتنظيم الواحد، الحزب الواحد، الاتحاد القومي فالاتحاد الاشتراكي، فحزب مصر، فالحزب الوطني.

وإذا كانت السنوات العشر الأخيرة، قد شهدت انفراجة ملحوظة في صدور صحف خاصة ومستقلة جديدة، كسرت جدار الاحتكار السياسي، الرسمي للصحافة «10 مؤسسات قومية كبرى»، تلازم معها إطلاق محطات إذاعة وتلفزيون خاصة، ناوشت الجهاز الإعلامي الرسمي الضخم، فإن الحقيقة الراهنة تؤكد أن الدولة بكل ثقلها السياسي مازالت محتكرة للفضاء الإذاعي والتلفزيوني الأكثر تأثيرا وجاذبية ومازالت مهيمنة على الصحف القومية التي تحتكر أكثر من 80 في المئة من سوق القراءة والتوزيع والطبع والإعلام!

وهي بهذا تؤكد مقولة إن الدولة تحتمي دائما بسلاحين نافذين هما الأمن من ناحية، والصحافة والإعلام من ناحية أخرى، لكنها تتجاهل في الوقت نفسه أن هذه الأوضاع الاحتكارية للسياسة والصحافة، قد أفرزت تجمدا في الأوضاع العامة، وأغلقت كل الطرق أمام مستقبل أجيال شابة، قادرة على التطوير والتغيير، وأطلقت العنان لحالة الإفساد المتبادل، فالسياسة وتدخل السياسيين، أفسد الصحافة... والصحافيون المحتكرون للمناصب المقربون من السلطة، أفسدوا السياسة وأعاقوا الإصلاح الديمقراطي، بسيل النفاق ومدبجات الرياء، وتجاهل مصالح المجتمع...

ولذلك لم يكن غريبا أن يتجمد هؤلاء وأولئك في مناصبهم سنين عددا، وهم على ثقة كاملة بأن لا بديل لهم، وأن ضمان بقائهم يرتبط بمدى ولائهم لصاحب القرار وحده من دون سواه، وانظر كيف جرى ويجري الحال، في كل المناصب الوزارية والسياسية والصحافية والإعلامية... الكل يتحرك وفقا للتوجيهات، ويكتب طبقا للتعليمات، أما حين تجيء لحظة التغيير، لسبب يحدد صاحب القرار، مثلما يحدد توقيت تنفيذه، فالظل الكئيب والتجاهل الكامل ينتظر صاحب الحظ السعيد، أما نقيضه صاحب الحظ السيئ، أو المغضوب عليه، فالهلاك مصيره، مع مزيد من التشنيع والتجريح والاتهام بالفساد والاستبداد!

ولم يكن غريبا أيضا أن يفقد المواطنون الثقة في مثل هذه القيادات الوزارية والسياسية وأن يعبروا عن ذلك أصدق تعبير، على سبيل المثال، بعدم المشاركة في الانتخابات، وتدني نسبة التصويت إلى ما أقل من 10 في المئة في معظم الحالات، وأن لا يسألوا لماذا ذهب هذا الوزير ولماذا فقد هذا النائب مكانه في قائمة الحزب الحاكم، لأنهم لم يعرفوا منذ البداية، لماذا جاء هذا، وعلى أي أساس أو كفاءة نجح ذاك.

والمنطق نفسه ينطبق على قادة الصحافة ورؤساء التحرير المعينين أصحاب السلطة المطلقة، إذ لم يعد الرأي العام القارئ والمتابع، يهتم بمن جاء ومن ذهب، فالكل سواء، والقرار السياسي وليس المهني هو المرجع النافذ، طالما أن الرأي العام ليس هو مصدر الشرعية والصدقية، كما في صحف النظم الديمقراطية!

ولم يكن الرأي العام وحده الذي فقد الثقة سواء في العملية السياسية، أو في الصحافة، بعد أن تبادلا الإفساد المنظم وغير المنظم، بل إن مسئولين كبارا طالما عبروا عن شيء من هذا القبيل، وانظر على سبيل المثال كيف يتعامل وزير ضليع في الحكومة مع الصحافة، لأن مفهومه لرسالتها غائب، بل وهو ينظر إليها كما ينظر إلى شركة خاسرة أو مصنع يعاني من إضراب عماله، إذا فالحل هو البديل.

على الجانب الآخر، انظر إلى مسئول آخر، كيف يغضب ويثور لأن صحيفة انتقدت بعض سياساته ويتساءل، كيف تفعل ذلك، أليست هذه الصحافة تبعنا!

وما بين سياسة البيع والتبعية، تتعمق أزمة الصحافة المصرية، ويزداد فقدانها للثقة والصدقية ويتراجع قراؤها، وتحبط كوادرها، وتتدهور قيمها وتقاليدها المهنية، وتفقد حتى هامش الحرية المحدود الذي تتمتع به، لأن الساسة والمسئولين الغاضبين منها وعليها يتحفزون للانقضاض على هذا الهامش، تقييدا وتكبيلا، ولأن قادة الصحافة أنفسهم انصرفوا إلى اهتمامات ومصالح أخرى غير ترقية المهنة وحرية الصحافة.

وفي هذا المناخ الضبابي الذي طغت فيه السياسة والسلطة على الصحافة، وانجرفت فيه الصحافة في منحدر التبعية والانسياق والخضوع للسلطة، كان طبيعيا أن ينجح تحالف الفساد والاستبداد، في غزو الاثنين معا، السياسة والصحافة، وأن يخلق حالة غريبة من عدم التوازن، بل من غياب الحرية بمفهومها الواضح، ناهيك عن المحاسبة والمساءلة والمراقبة.

وفي هذا المناخ حتى الضبابي الملتبس كان طبيعيا أيضا، بعد أن اخترقت فيه السياسة والسلطة الصحافة حتى أفرغتها وأضعفتها وحولتها إلى مجرد بوق دعائي، أن تهجم الاختراقات الأجنبية لتقديم البديل المستورد، مسلحة بالتمويل المنساب وبالأفكار الجاذبة والتكنولوجيا الحديثة، لتصدر صحفا براقة وتطلق فضائيات جذابة... تكتب وتنقد وتتحدث وتتحاور عن أمورنا بحرية يفتقدها الرأي العام، في صحفه وإعلامه، فيهجرها من دون أسف!

لقد آن الأوان في ظل كل ذلك، أن نعيد تحديد العلاقة بين الصحافة والسلطة بعد كل ما جرى ويجري...

خير الكلام

قال تعالى: «والله لا يحب الفساد»(البقرة :205).

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 1776 - الثلثاء 17 يوليو 2007م الموافق 02 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً