العدد 1804 - الثلثاء 14 أغسطس 2007م الموافق 30 رجب 1428هـ

رئيس لبنان في إطار معادلة جديدة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بعد خروج لبنان سليما نسبيا من معركة الانتخابات الفرعية في دائرتي المتن الشمالي وبيروت الثانية دخل البلد مجددا في استحقاقات دستورية يتخوف البعض منها. فالاستحقاقات خطيرة للغاية في حال لم تتوصل مراكز القوى إلى تفاهمات وفاقية تنقذ الكيان السياسي من فراغ دستوري أو فوضى أمنية.

أهمّ ما يواجه لبنان خلال الفترة الجارية التي تبدأ ارتداداتها في 25 سبتمبر/ أيلول المقبل هو اقتراب موعد انتخاب رئيس للجمهورية. وموقع الرئاسة في لبنان شكل ولايزال نقطة تقاطع دولية/ إقليمية تعكس موازين القوى المحلية وامتداداتها الجوارية الجغرافية واتصالات مراكز القرار بالمنظومة العامة التي تتحرك تحت سقفها العواصم العربية والإقليمية. فالرئاسة المخصصة للموارنة تمثل عادة تلك المرآة المحلية التي تعكس في الداخل ثقل المؤثرات الدولية والإقليمية ودورها في تحريك القوى (الطائفية والمذهبية) في بلاد الأرز.

موقع الرئاسة ماروني/ لبناني في مظهره العام، ولكنه في حقيقة الأمر يشكل قاعدة تقاطع تتوافق منظومات مختلفة على تحديد مساره والرجل المختار لاحتلال المقعد. فالأهمية ليست في المقعد والصلاحيات الدستورية للرئيس وإنما في الدلالات التي يرسم صورتها هذا الاختيار أو ذاك. وتقليديا كان مقعد الرئيس تقرره مجموعة حسابات للدول صاحبة القرار والأكثر تأثيرا في صنع السياسة المحلية. والطرف الأقوى كان يفرض شروطه على المعادلة ويلعب دائما دور الصانع لشخص الرئيس المختار.

في عهد الانتداب الفرنسي كانت باريس بالتفاهم مع الفاتيكان أحيانا تحدد الشخص المناسب للرئاسة. وبعد الحرب العالمية الثانية دخلت بريطانيا على خط التنافس وكسرت الاحتكار الفرنسي وبدأت لندن تلعب دور القطب الجاذب لمراكز القوى. واستمرت بريطانيا تأخذ زمام المبادرة في الفترة التي خرجت فيها القوات الفرنسية من المشرق العربي (سورية ولبنان) إلى نهاية خمسينات القرن الماضي. في تلك الفترة برزت مصر عبدالناصر قوة إقليمية صاعدة بعد معركة السويس وهزيمة المحور الأوروبي (البريطاني/ الفرنسي) ودخول الثنائي الدولي (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي) بقوة إلى المنطقة.

في العام 1958 شهد لبنان في نهاية عهد كميل شمعون تجاذبات أهلية (طائفية ومذهبية) انتهت برفض التجديد للرئيس شمعون ودخول أميركا ومصر على خط القرار وتم التوافق آنذاك على اختيار الجنرال فؤاد شهاب (قائد الجيش اللبناني) رئيسا للجمهورية. اختيار شهاب في تلك الفترة أعطى سلسلة إشارات سياسية للموجات الايديولوجية في المحيط العربي والإقليمي. فمن جهة سورية كانت دمشق دخلت مع القاهرة في وحدة قومية تركت تأثيراتها السياسية على بلاد الأرز ومن الجهة الدولية كانت الولايات المتحدة أخذت زمام المبادرة الإقليمية من بريطانيا وفرنسا بعد أزمة السويس. وبسبب التوافق بين القوة الدولية الكبرى والقوة الإقليمية الصاعدة تفاهمت واشنطن والقاهرة على ضرورة تولي قائد المؤسسة العسكرية رئاسة الجمهورية بسبب موقفه المحايد خلال فترة «الحرب الأهلية» السريعة التي عصفت بلبنان في العام 1958. فالجيش آنذاك كان هو الحل أو الوسيط القادر على جمع مؤسسات مدنية تفككت طائفيا ومذهبيا نتيجة الاقتتال الأهلي.

استمر دور مصر يصعد إقليميا بالتجاور مع صعود أميركا دوليا في إطار مواجهتها للاتحاد السوفياتي في فترة «الحرب الباردة» إلى أن وقعت حرب يونيو/ حزيران 1967 وبروز نجم المقاومة الفلسطينية في محيط الدول المجاورة لفلسطين. وبعد يونيو أخذ دور مصر يتراجع جزئيا إلى أن رحل عبدالناصر في سبتمبر 1970.

غياب عبدالناصر عن الشاشة العربية اضعف دور مصر في التنافس، ولكنه لم يشطبه نهائيا من المعادلة إذ استمرت القاهرة تلعب دورها الإقليمي بالتفاهم مع دمشق وصولا إلى حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973. بعد تلك الحرب ظهر سوء التفاهم بين الرئيسين الراحلين أنور السادات وحافظ الأسد إلى أن انهار التنسيق بين الرئيسين بعد قرار السادات الاتجاه نحو التسوية مع تل أبيب في ظل رعاية أميركية منفردة.

ساهم التعارض السوري - المصري في توتير الساحة اللبنانية سياسيا وأمنيا. وتأسست في ضوء ذاك الانقسام العربي/ الإقليمي اصطفافات سياسية ظهرت حدتها في الساحة اللبنانية.

آنذاك كانت بلاد الأرز دخلت في صراع أهلي من جديد. وبدأت منذ العام 1975 سلسلة تجاذبات أهلية بين القوى اللبنانية تحت عنوان فلسطين (حماية المخيمات، أمن البندقية) وكلفة الصراع العربي - الإسرائيلي. وبسبب هذا التنافر المحلي نجحت دمشق في اكتساب موقعها الخاص في الدائرة اللبنانية وصولا إلى أخذها ذاك التكليف الدولي/ الإقليمي في العام 1976 بالدخول إلى الساحة للمساعدة على وقف الاقتتال الأهلي. وتصادف دخول سورية رسميا إلى لبنان مع بدء خروج مصر من المعادلة الإقليمية العربية في العامين 1977 و1978. وأدت هذه المصادفة إلى تعزيز فرص دمشق في تثبيت مواقعها وأدوارها في لبنان. ولم تمض فترة وجيزة حتى هبت ثورة إسلامية في إيران أودت بعرش الشاه وزعزعة المنظومة الإقليمية الأمنية التي أسستها واشنطن في المنطقة منذ العام 1970.

غياب مصر ودخول سورية

في نهاية السبعينات ومطلع الثمانينات كانت دمشق هي اللاعب الإقليمي الأساسي في لبنان. فسورية أخذت دور مصر في سياسة التفاهم مع الولايات المتحدة لاختيار رئيس الجمهورية. وبقي الأمر على حاله إلى أن اجتاحت «إسرائيل» بالتنسيق مع أميركا بلاد الأرز في العام 1982. ولكن تل أبيب فشلت سياسيا في فرض شروطها ونفوذها سواء على مستوى اختيار الرئيس أو على مستوى جرجرة الدولة إلى توقيع معاهدة صلح على غرار اتفاقات «كامب ديفيد».

فشل «إسرائيل» السياسي أدى إلى تراجعها العسكري والبدء في تنفيذ خطوات انسحابية إلى الجنوب. وشكل هذا الفراغ الأمني إشارة إلى عودة النفوذ السوري من جديد مترافقا هذه المرة مع لاعب إقليمي أخذ يصعد دوره رويدا في المنطقة.

دخول إيران على خط المقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب يمكن اعتباره أهم متغير في المعادلة الإقليمية. فطهران منذ تلك الفترة لم تعد عاصمة بعيدة عن القرار المحلي وتفاعلاته الداخلية. وهذا المتغير الجيوبوليتكي (الجغرافي/ السياسي) يمكن اعتباره التحول الأهم منذ نهاية الثمانينات. ففي تلك الفترة أخذت القاهرة تستعيد حيويتها نسبيا وتسترد مواقعها (عاصمة جامعة الدول العربية مثلا) حين دخلت في تنسيق مع الرياض وبغداد لتحقيق التوازن مع ثنائية سورية وإيران. وأسفر التنسيق في تعديل التوازن الإقليمي الأمر الذي أدى إلى وقف الاقتتال الأهلي والتوافق اللبناني على «اتفاق الطائف».

الولايات المتحدة آنذاك لم تكن بعيدة عن المشهد. فهي دخلت في سلسلة مفاوضات مع أصحاب القرار ودعمت «اتفاق الطائف» ومشروع إعادة إعمار لبنان مقابل استمرار مقاومة الاحتلال تحت سقف القرار الدولي 425. ونتيجة هذه التوافقات جاء الياس الهراوي (بعد اغتيال رينيه معوض) رئيسا ورفيق الحريري رئيسا للوزراء وشهد لبنان في تلك الفترة حالات من الاستقرار النسبي اتصف بتوافق مشروع الدولة (بناء المؤسسات) ومشروع المقاومة (تحرير الأرض).

التفاهم استمر إلى فترة ما بعد التحرير في العام 2000. الآن المعادلة الدولية تغيرت (طرد الاحتلال) وتبخر سقف القرار 425 فأخذت الضغوط تزداد على رئيس الجمهورية (الجنرال اميل لحود) مطالبة إياه دعوة دمشق إلى سحب قواتها من لبنان. لحود آنذاك جاء ضمن تسوية أميركية/ إقليمية ولم يكن خارج التقليد المتوارث في اختيار الرئيس المناسب لرئاسة الجمهورية. ولكن الظروف الدولية والإقليمية كانت تبدلت حين أراد أن يجدد رئاسته ولاية ثانية في العام 2004. آنذاك كان الرئيس حافظ الأسد رحل، ووقعت هجمات سبتمبر، وأعلنت الولايات المتحدة الحرب على «الإرهاب» واحتلت أفغانستان، وبدأ ارييل شارون خطة تقويض سلطة ياسر عرفات، وغزت أميركا العراق وقوّضت الدولة ونشرت الفوضى وأخذت بزعزعة الاستقرار وتهديد الأنظمة بالتغيير، وصنّفت إيران ضمن دول «محور الشر».

كل هذه المتغيرات أخذت تضغط مجتمعة لتعديل التوازن المستقر نسبيا في لبنان فرفضت واشنطن بالتعاون مع باريس التمديد أو التجديد للرئيس لحود وأصدرت ردا على هذا الاحتمال القرار الكارثة 1559. وشكل القرار الدولي الجديد ذاك السقف الضاغط على المعادلة اللبنانية الدقيقة والحساسة. فالقرار رفض التمديد (3 سنوات) وقاطع الرئيس وطالب بخروج القوات السورية وسحب سلاح الميليشيات «اللبنانية» و»غير اللبنانية» ونشر الجيش في الجنوب اللبناني.

القرار 1559 كان يعكس في فقراته السلبية مجمل تلك التحولات الدولية والإقليمية وهو ما أدى إلى تفجير الساحة اللبنانية فوقعت اغتيالات أخطرها ذاك الذي أودى بالرئيس الحريري، وانتهى الأمر بخروج القوات السورية وعودة الطوائف والمذاهب إلى التجاذب الأهلي من جديد وتحت سقف سلسلة لا تنتهي من القرارات الدولية.

الآن شارفت السنوات الثلاث على الانتهاء ولابد أن يغادر لحود موقع الرئاسة وانتخاب رئيس ماروني جديد في فترة زمنية تبدأ في سبتمبر وتنتهي في نوفمبر/ تشرين الثاني. وكالعادة بدأت التنافرات الدولية والإقليمية والمحلية تأخذ مداها الجغرافي والجواري. وهذه العادة ليست جديدة وإنما هي تعتبر من تقاليد السياسة اللبنانية المتوارثة منذ عهد الانتداب الفرنسي ثم تدخل بريطانيا ثم دخول أميركا على خط المعادلة.

الجديد في المعركة الرئاسية الحالية أنها تجري في ظل فضاء سياسي مختلف نسبيا عن تجاذبات العام 2004. الآن تغيرت الكثير من زوايا الصورة. فالولايات المتحدة تراجع موقعها الدولي ولم يعد تأثيرها الإقليمي كما كان وضعها قبل ثلاث سنوات. وفرنسا تعدلت صورتها بعد خروج الرئيس جاك شيراك من قصر الاليزيه. وإيران تحولت إلى قوة إقليمية صاعدة تلعب دورها المؤثر في اتجاهات الرياح سواء في العراق أو لبنان أو فلسطين. كذلك بدأت سورية تستعيد أنفاسها وتفك طوق الحصار وأخذت تفاوض واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي على مجموعة ملفات ساخنة من بغداد إلى غزة وبيروت.

مجموع هذه المتغيرات لابد أن تلعب دورها في صوغ معادلة سياسية جديدة في الساحة اللبنانية. فالرئيس المقبل لابد أن يكون من الطائفة المارونية إلا أن اختياره تقرره عناصر متنوعة في الحسابات الرقمية والميدانية. فالأهمية ليست في المقعد أو تلك الصلاحيات وإنما في الدلالات التي ترسم صورة الاختيار. والتقليد اللبناني كان يرجح دائما الطرف الأقوى في المعادلة التوافقية لكي يلعب دور الصانع لشخص الرئيس المختار. فمن يختار الرئيس يرسل إشارات رمزية إلى قوته الصاعدة في الدائرة الإقليمية كما كان دور مصر في عهد عبدالناصر. ومن يريد أن يعرف من هي تلك القوة الجديدة عليه الانتظار إلى حين اقتراب موعد استحقاق انتخاب الرئيس الجديد للجمهورية اللبنانية.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1804 - الثلثاء 14 أغسطس 2007م الموافق 30 رجب 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً