العدد 1812 - الأربعاء 22 أغسطس 2007م الموافق 08 شعبان 1428هـ

داخل وخارج ملحمة السراب...

عيون فانغا العمياء...

من حق الفلسطينيين أن يستعيدوا أرضهم بالتحرير، ومن واجب كل شعوب العالم أن تعينهم على استعادة حقهم وبالتالي فإن الدعوة أو الإدعاء بأن التجاوب مع القرارات الدولية الجائرة وأن تعطى فلسطين للإسرائيليين باعتباره الحل المنطقي هي دعوة إلى التنازل عن الأرض تحت عنوان الضعف الموجود عند الفلسطينيين ومن معهم والقوة التي يهدد بها الإسرائيلي ومن معهم من الأميركيين والدول الكبرى، فيجب علينا أن نقول لا للاحتلال، وهذا حقنا في العمل لانتزاع استقلالنا واستعادة كرامتنا وحقوقنا، ولكن كيف يتم هذا الأمر وكم يأخذ من السنوات، وما هي المفاعيل التي تتيح؟

هذه عقبات وضرائب طبيعية لابد أن تدفع. فالإسرائيلي بذل جهودا مكثفة منذ العام 1897 في مؤتمر بال ليصبح محتلا العام 1948م، ثم بذل جهودا أخرى ولا تزال مستمرة حتى الآن لتثبيت هذا الاحتلال. مع كل الأثمان التي دفعت في هذا الاتجاه عبّر عن اهتمامه باغتصاب الأرض، فلا ينبغي أن نستسلم لجريمة كبيرة وضخمة يمكن أن تؤثر على المنطقة. وإذا كانت الظروف غير مؤاتية لكنها ليست قدرا، فهي قابلة للتغيير إذا ثبتنا وصمدنا وليس المطلوب أن نتخلى عن حقنا تحت شعار الظروف غير مناسبة؟

الآن، وربما منذ عدة سنوات نحن مشغولون بالحفاظ على هذا المستوى من التدهور الذي وصلنا إليه ونعمل جاهدين على ألا نتدهور أكثر. فهناك على المستوى العالمي - إن صحت العبارة - اضطراب شديد أظن أنه أثر على نحو لا يستهان به على التوجهات والرؤية العامة، وبقدرلا يستهان به من اللامبالاة التي وصلنا إليها جميعا ويمكن أن يطالع الواحد أي برنامج تلفزيوني أو صحيفة أو مجلة ويختار أي مقال أو أي خبر أو أي موضوع وسيجد اللامبالاة مختلطة بالركاكة وعدم الدقة، يستطيع الواحد أيضا أن يتأمل قليلا فيما يجري ويجري على المستويين العربي والداخلي من تغيرات ليدرك أن فداحة ما جرى وسرعة وتائرة أصابت الجميع باضطراب إلى أن نُصاب في صوغ ما نفكر فيه وتحويله إلى كلمات إلى قدر أكثر فداحة من اللامبالاة والشجاعة التي سرعان ما تتحول بلاهة في جرأة الأحكام.

إن الحاسبات وأدوات الاتصال الهاتفية والتلفاز هي وسائل الإلهاء فتعلن السلطات ووسائط الإعلام عن الأشياء التي لا تخرج من كونها مجرد تسأل على أنها تعزيزات للحرية، فلدينا الآن الحرية أن نسير على القمر، وأن نختار ما بين قنوات تلفزيونية عديدة، وأن نوفر الوقت بالطائرة والقطار، وأن نقود سياراتنا بسرعة 150 التي السرعة فيها أهم من البشر، ولنا أيضا الحرية في أن نحمل بأطفالنا وأن نصنعهم عن طريق أنابيب الاختبار، فهل نحن مدركون أن هذه الحرية تسحقنا؟ إن فكرتنا عن الحرية ضعيفة وغبية وفجة، إن نحن سمينا كل هذه الإنجازات حرية. فالتسليات دوما ضد الحرية بالدرجة التي بها ضد الضمير والتأمل، وما أدركه المفكر روجيه جارودي في بداية التسعينات عندما أوضح أن فلسفة الإعلام الغربي تنطوي على تحريض دائم وحاسم لإغراء الجمهور بالغوغائية والكسل وتكوين رأي عام تتلاعب به الدعاية والإعلانات والاستسلام لسلوكيات السوق وهدم كل فكر ناقد ومسئول من خلال استطلاعات الرأي العام والتلاعب فيها عن طريق بلاهة الألعاب المتلفزة والمسابقات المتلفزة التي تلوح بإغراء الحصول على المال بسهولة، فها هي العين بوابة الإنسان إلى العالم يتم استعبادها فيتم انتفاء معنى الرؤية، فحينما تعتقد العين أو هكذا يراد لها أن تقتنع بأنها ترى كل شيء في مجتمع المشهد عبر الصورة في اقتحامها كل البيوت من دون استئذان وسيطرة مجتمع المشهد وسلطة الإعلام وخروج المشروع المعلوماتي المخابراتي بين الأنفاق حيث الأسرار المحجبة.

وهكذا تقوم المعلومات السيارة في الإنترنت في تسطيح المشهد الكوني العام بمعرفة كل التفاصيل والدقائق في اتجاه واحد، ليتم تدجين الكائن لاكتساح الصورة الحياة اليومية وطرقها للجماجم واندساسها في خلايا الذهن المخدّر المسكون ببقايا الرغبة حسب مصطفى الكيلاني، حيث أدرك القائمون على نظام السوق ومديروا أحكام الاستهلاك الكوني، أن امتلاك الكائن باعتباره قيمة أولى يمر حتما عبر إذلال العين بواسطة نزع فتيل توهجها. وهكذا تقع العين في الأسر والغيبوبة في المكان الضيق في الوقت الذي تعتقد بأنها ترى كل شيء. ألم يقل روسو: «أن أبصار كل شيء يؤدي بالضرورة إلى انتهاء معنى الرؤية».

أصبحت العين أداة الالتقاط شبه الوحيدة أو صمم لها أن تكون فيما بعد مونتاجا وإنتاجا للعين الساذجة البلهاء بمساعدة الأذن المحطة في الاستقبال الفوري الأتوماتيكي الأعمى لمادة المشاهد التي تمنتج وتنتج لاستهلاكنا السريع، وهنا تكمن الطامة الكبرى حسب «إلياس لحود» عندما تتحول العين عن وظيفة الحفر المعرفي في المشهد اليومي الاجتماعي والسياسي إلى مجرد وسيلة غير مبالية للفرجة والتسلية، إذ يتم تحويل المشاهد إلى سلعة، إذ يتكرر المشهد المصنع بحذق للاستهلاك الجماعي وتتكرر فيه من المساء إلى الصباح، فما من أحد بإمكانه أن يشك منطقيا بوجود المشهد وقوّته. فحكومة المشهد تمتلك الآن كل وسائل التزييف، وينطلي هذا الزيف على الناس، ويبرز على السطح عبود الغاوي ومن على شاكلته لتحريك خيوط اللعبة العنكبوتية التي لا يستطيع الناس الفكاك منها، ومن يحاول الصمود أمام عاصفة الصحراء ويقول لا تنبذ ويحط من قدرها.

وها نحن نقرأ اللافتة الونوسية في الفصل الخامس تقول:

«الزرقاء تبصر، وتروي مقاطع من ملحمة السراب... نقاشات... ونهايات. يقول فيها بسام: لقد زرت كل الناس الذين أعتقد أنهم يقدّرون رأيي ورجوتهم ناصحا ألا يرسلوا بناتهم إلى فرقة الدبكة وشبهاتها، تصوري يا خالة ... لم يقبلوا نصيحتي إلا رجل أو اثنان... أما الآخرون فقد كانوا يتهرّبون من النظر في عيني - ثم يتمتمون. أعطينا كلمة رجل والرجل عند كلمته». ماذا حدث! أيمكن أن تعمى بصائر الناس إلى هذا الحد! يصدق عليهم قول الروائي «سارماغو» الذي يصف إنسان هذا الزمن بأن الإنسان لم تعد لديه القدرة على النضال، لقد أصبح عاجزا تماما عن الاحتجاج والتمرد، يتحكم فيه «عصر الغادجيت» أي عصر الأدوات الزائفة حسب هذي ميلر. تقول الزرقاء لفاطمة التي استخف بها الناس حينما قالت لا للغاوي. تقول لها سيأتي وقت يتذكر موقفك الناس ولو بعد فوات الأوان، فيرد بسام (غاضبا) أما الآن فعلينا أن نعترف بالعجز، وبأننا لا نستطيع أن نفعل شيئا في مواجهة هذا التدهور الذي يجرفنا. تردد الزرقاء حكايتها، كان عندي ولدان، أحدهما قال لا فقُتِل، والثاني قال نعم فانتهى إلى السجن والضياع، إن الشيطان مقيم في هذا البلد، أكاد أراه أم أشم رائحته. فيقول بسام: أنعود إلى الشيطان وخرافاته؟ إني أقدّر بصيرتك يا خالة، وكذلك أقدّر معاناتك، لكن الشيطان لا يؤثر إلا على نفوس تهيأت للأصغاء إليه وطاعته، أو إذا شئتِ نعم هناك شيطان، إنه هذا النظام التابع والخادم للسادة الأجانب الذي امتص ماء الحياة من شعبه، ونهب خيراته، وحوّل البلاد ملهى للأجانب والأثرياء، وسوقا للتبديد والاستهلاك.

تأخذ منه الزرقاء خيط الحديث لتقول: إن ألاعيب الشيطان معقدة، ولا أستغرب أن تكون إحدى ألاعيبه سلسلة طويلة مترابطة الحلقات، تبدأ من مكان بعيد وتنتهي بنا، ولكن إذا كانت الدولة وهي إحدى صنائع الشيطان، هي التي تفعل بنا ذلك فهل تستطيع أن تقاومها؟

يقول بسام لها: لا تسدّيها في وجوهنا يا خالة. أيعقل أن يساق شعب إلى الذبح فلا يقاوم، بل يمضي باسما وكأنه ذاهب إلى حفل زفاف؟! أيعقل أن نغدو سيرة هزيلة وباهتة، سيرة شعب يمضي مع كل ريح لأنه نسي الرفض ولم يعد يعرف إلا الموافقة!

أما فاطمة فترد قائلة: وهل يعلم يا بسام أنه يساق إلى الذبح؟ أنت لم تر ما عاينته، وعجبت له أثناء وجودي في المخزن، لن أنسى ما حييت عيون الناس وهي تجول بين المعروضات، عيون تبرق وتتراقص وتكاد أن تنط من محاجرها! إن الدهشة والإغراء والوعد هي القوة التي تخدّرهم وتسوقهم في الاتجاه الذي تريده.

أما الزرقاء فتقول له: اهدأ... لا تتهور، العاصفة عاتية وستأخذ حدّها.

بسام مقاطعا: انستسلم ولا نفعل شيئاَ؟!

الزرقاء: الطريق الذي حدّثتني عنه مرّة ليس الآن وقته، ذات يوم سيلمس الناس أن ما تدافعوا نحوه لم يكن إلا الموت والخراب.

يحذرنا صوت الزرقاء الونوسية من الانسياق وراء الحلم الأميركي الرأسمالي كما سبق أن حذرنا منه آرثر ميلر في عدة مسرحيات، مثل مسرحية «موت بائع متجول» ويلي لومان الذي ينتهي من بيع الأشياء إلى بيع نفسه حيث يصبح بالنتيجة سلعة سيكون النبذ من نصيبها في المستقبل شأنه شأن السلع الأخرى، وذلك بموجب القوانين الاقتصادية، فهو يدخل المأساة بنفسه لا بمعارضته للكذبة، إنما بممارستها وبشكل ساخر، فالخوف كل الخوف أن يتحول البشر إلى ويلي لومان البائع المتجول الذي يحمل حقيبة لا نعرف من المسرحية ما يصنع بها. وذات مرة اقترب أحد المشاهدين من ميلر وسأله ما الذي يبيعه؟ فرد ميلر: أنه يبيع نفسه. إنه هو الذي يوجد داخل الحقيبة. فهو مثل كثير من النخب الذين يبررون التطبيع ويؤيدون السلام بصيغة الاستسلام، والانسحاق أمام العدو الصهيوني المحتل. وها هو الخادم أو (الشيطان) وهو يردد تلك الحكمة التي تنطبق على الكثيرين في الوطن العربي، إذ يقول الخادم: هذه مغبة الإسراف. لم يكن الإنسان في أي عصر من العصور سفيها في تبديد قواه كما هو اليوم في هذه المنطقة من العالم.

*كاتب وناقد ومخرج مسرحي

العدد 1812 - الأربعاء 22 أغسطس 2007م الموافق 08 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً