العدد 1812 - الأربعاء 22 أغسطس 2007م الموافق 08 شعبان 1428هـ

مور يبالغ في أفكاره إلى درجة السقوط

فيلم «سيكو» يتحدث عن تدهور الرعاية الصحية في أميركا

المخرج الأميركي ما يكل مور تحول في العقد الأخير إلى ظاهرة سياسية في السينما التسجيلية. فالمخرج اعتمد إنتاج أشرطة نقدية تعارض إدارة جورج بوش ومختلف السياسات الأميركية الخارجية أو الداخلية.

هذا السلوك الاعتراضي ساهم في تحويل أشرطة مور السينمائية إلى نمط جديد في تعامله مع الموضوعات أو في تعاطيه مع الجمهور.

مور يعتبر الآن من الرموز المعارضة لسياسة بوش ومن تلك القوى المعترضة على النمط الأميركي وعلاقة الدولة بالمجتمع أو ما يسميه وحشية الرأسمالية في عدوانها اليومي على حاجات البشر وحقوق الإنسان.

لأن مور اعتمد هذا النمط من السينما السياسية ابتكر وسائل خاصة به لاظهار اعتراضه على نمط الحياة المتوحش الذي يعيشه الأميركي يوميا من دون ان يمتلك المواطن القدرة على التغيير أو إيجاد الحلول لمشكلاته. فالسينما عنده لا تعتمد على رواية أو سيناريو أو قصة أو دراما لأنها ليست كتابا برأيه. فالكتاب المطبوع للقراءة وليس للتصوير، في حين أن الكتاب الحقيقي هو الواقع اليومي وما يعانيه البشر من ظلم أو إهمال أو عدوان.

بدأت شهرة مور العالمية بعد إخراجه ذاك الفيلم النقدي عن خفايا وأبعاد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 على مركز التجارة في نيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن. والشهرة انطلقت من استعراض المشكلة من داخل الإدارة وذاك النسيج الذي يتشكل منه الكونغرس وما يمثله من قوى سياسية متواطئة على الناس ومسفيدة من اللوبيات (المافيات) التي تمول الأعضاء لاتخاذ قرارات خاطئة وتوريط الولايات المتحدة في حروب يقتل فيها الشباب بينما أبناء النواب والقادة يتمتعون بالدنيا.

فيلم «فرنهايت» ليس توثيقيا ولا يعتمد الدراما المصنوعة من وقائع وحوادث وإنما يقوم أساسا على فكرة السرد المؤلفة من لقاءات ومقابلات يعقدها المخرج مع المسئولين وجهات مختلفة لإعادة توظيفها في سياق مركب يخدم فكرته ويعززها بالشواهد والمعلومات.

شريط «فرنهايت» لاقى الإعجاب ونال الجوائز منها السعفة الذهبية في مهرجان كان الفرنسي الأمر الذي أثار آنذاك غضب الرئيس بوش معتبرا الخطوة إشارة سياسية موجهة ضده شخصيا.

الفيلم الحالي الذي يعرض الآن في سينما السيف لا يختلف عن أسلوب مور. فهو يتوجه إلى حقل حساس في الولايات المتحدة ويطال عشرات الملايين من الأميركيين. مور اختار هذه المرة قطاع الصحة في الولايات المتحدة ليشن عليه حملة قاسية لا يوفر خلالها كل المسئولين منذ العام 1971 حين قرر الرئيس ريتشارد نيكسون تحويل الرعاية الصحية من القطاع العام (مسئولية الدولة) إلى القطاع الخاص (شركات التأمين).

شريط «سيكو» يعتمد الوقائع في سرده المباشر للأزمة التي تظهر في صور تبعث على الحزن في دولة تعتبر نفسها الأولى والقدوة للكثير من الشعوب والأنظمة.

يتناول مور مجموعة محطات في سرده التصويري للمشاهد. فهو يتحدث عن وجود 50 مليون أميركي من دون ضمان صحي لأنهم لا يملكون المال الكافي للتأمين. وبعدها ينتقل إلى وصف حال عشرات الملايين الذين تستغلهم شركات التأمين الصحي ولا توفر لهم العناية المطلوبة عند الحاجة أو حين تقع كارثة. فهذا القسم من الشريط أقرب إلى الفضيحة إذ إنه يعتمد على سلسلة وقائع وروايات ومعلومات تستند إلى مقابلات مع ضحايا تعرضوا للإهمال أو تهرب شركات التأمين من دفع المال أو تأمين التغطية المطلوبة للمستشفيات.

طبعا مور يريد من هذه المشاهد التأكيد على أن شركات التأمين ليست أخلاقية ولا إنسانية وإنما تبتغي الربح حتى لوكلفت تلك التجارة حياة البشر وأرزاقهم.

بعد الاستعراض التاريخي لتدهور الضمان الصحي في أميركا منذ سبعينات القرن الماضي بسبب انتقاله من رعاية الدولة إلى احتكار الشركات الخاصة يتجه مور إلى محطة أخرى وهي المقارنة بين النظام الصحي في الولايات المتحدة والأنظمة المتبعة في كندا وبريطانيا وفرنسا. هذا المقطع ظريف لأنه يكشف مفارقات مذهلة ومضحكة أحيانا بين دول رأسمالية تعتمد «العدالة الاجتماعية» وتضمن «الحد الأدنى» لحقوق المواطنين وبين رأسمالية متوحشة تعتمد عليها الدولة الأميركية في نهش حقوق الإنسان وتحطيم الحد الأدنى من مطالبه المتصلة بالضمانات الصحية أو التعليمية أو المعيشية (الرفاهية، الشيخوخة، التعويضات... إلى أخره).

مشكلة مور في أفلامه الواقعية المبالغة أحيانا في تطوير فكرته وتصويرها إلى حد اللامنطق واللامعقول. وهذه المبالغة تعكس نزعة سياسية متطرفة تذهب بعيدا في النقد من دون تحفظ أو انتباه إلى احتمال أن تنقلب الفكرة على صاحبها. فالتطرف دائما يعطي نتائج معكوسة كما حصل في فيلم «فرنهايت» وكما يتكرر الآن مع شريط «سيكو». فالفيلم يتحدث بإنسانية عن قضية عادلة تمس أبسط حق من حقوق الإنسان. ولكن مور يبالغ في التعامل السياسي معها إلى درجة قصوى إذ أنه يرى في النظام الصحي الأميركي اسوأ الموجود في الكرة الأرضية. فهو أسوأ من النظام الصحي المتبع في معتقل غوانتنامو. وبرأيه أن سجناء المعتقل يحصلون على رعاية صحية أفضل من الشعب الأميركي بمن فيهم تلك الفئة التي تعرضت لأضرار صحية ناتجة عن هجمات سبتمبر 2001.

هذه المبالغة دفعت مور إلى التوجه مع فريق من المرضى إلى ضفاف معتقل عوانتناموا طالبا الرعاية الصحية من المشرفين على السجن. وحين يفشل يتوجه إلى كوبا (المعزولة والمحاصرة) ليجد فيها أفضل رعاية صحية وبأسعار تافهة وبخسة لا تقارن بالكلفة الهائلة التي تطلبها شركات التأمين في أميركا.

في المحطة الأخيرة يعود مور من كوبا إلى الولايات المتحدة مع المجموعة المريضة التي ذهبت معه إلى المعتقل والجزيرة بقناعات تبدو غير واقعية وتحتاج إلى توضيح للمشاهد الأميركي حتى يقتنع بها. صحيح أن شركات التأمين ربحية وتسرق الناس وتحتال عليهم وتبذل كل ما بوسعها حتى لا تدفع فاتورة العلاج... إلا أن ذلك لا يعني أو لا يعطي المبرر للقول بأن المعتقلين في غوانتنامو يعيشون في حال من الرفاهية والعناية قياسا بالظلم الذي يعاني منه الشعب الأميركي.

هذه مبالغة والفكرة حين تصل في نهاياتها إلى التطرف تسقط فورا وتفقد معناها وقدرتها على التأثير.

العدد 1812 - الأربعاء 22 أغسطس 2007م الموافق 08 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً