العدد 1829 - السبت 08 سبتمبر 2007م الموافق 25 شعبان 1428هـ

«حماس»... والخطأ في الحسابات

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

دعت الفصائل الفلسطينية في غزّة إلى إضراب عام ينفذ اليوم في القطاع احتجاجا على إفراط «القوة التنفيذية» التابعة لحركة «حماس» في استخدام القوّة لمواجهة المعارضة. الدعوة إلى الإضراب جاءت ردا على ممارسات سلطة قررت إقفال أبواب السياسة في دائرة جغرافية تعاني من الحصار وتتعرّض يوميا لهجمات إسرائيلية جوية وبرية.

الإضراب العام الذي أعلنت عنه مختلف القوى والأحزاب الفلسطينية ضد حكومة «حماس» يرسل إشارة سلبية تفرض على قيادة إسماعيل هينة قراءة أبعادها السياسية حتى لا تنجرف في مغامرة أهلية تقدّم للاحتلال هدية غالية من حساب سكّان القطاع.

إعادة القراءة ليست عيبا وإنما مجرد مراجعة نقدية لممارسات قمعية بدأت تنقلب على «حماس» وأنصارها. حتى حركة «الجهاد الإسلامي» أخذت تعيد النظر بتحالفها الميداني والموضوعي مع السلطة ولم تعد قادرة على الاستمرار في تغطية ذاك السلوك الاستعلائي في التعامل مع قضايا الناس وحفظ حقوقهم المدنية. فحركة «الجهاد» اضطرت إلى إعلان تحفظها على الإضراب العام اليوم منعا للدخول في نفق مظلم ولكنها لم تعد قادرة على السكوت عن تلك التجاوزات التي ترتكب يوميا ضد الهيئات والمؤسسات والمصالح المستقلة.

منذ البداية أظهرت حركة «الجهاد» نوعا من التمايز في سياستها. وهي كانت متجانسة مع خطها العام وحريصة عليه حتى لا يتعرض لامتحان صعب يمنعها من تفسيره أو الدفاع عنه. فهي مثلا رفضت «اتفاقات أوسلو» وانتقدت السلطة التي أنتجتها تلك الاتفاقات. وقررت بناء على هذا التحليل عدم التعامل معها ومقاطعتها حتى لا تكون ذاك الشريك في تغطية سياسة سلطة صاغت «اتفاقات أوسلو» شخصيتها وهيئتها.

لكلّ هذه الاعتبارات المبدئية اتجهت «حركة الجهاد» إلى تبني سياسة مقاطعة السلطة وكلّ ما يصدر عنها. فهي لم تشارك في الانتخابات التشريعية حتى تتجنب مسئولية الانزلاق نحو مواجهة متطلبات الشارع من خدمات اجتماعية وتربوية وصحية وغيرها. كذلك رفضت الدخول إلى مواقع السلطة حتى لا يفرض عليها التعامل الإيجابي مع القوى الدولية والتفاوض مع الاحتلال لتمرير السلع والبضائع أو فتح خطوط المرور والمواصلات.

مواقف «الجهاد الإسلامي» جاءت منسجمة مع خطها المبدئي وهي تعاملت بموضوعية مع واقع ميداني يفرض على السلطة التعاطي المرن مع احتلال لا يوفر فرصة للثأر والانتقام. لذلك انتقدت «الجهاد» حركة «حماس» حين قررت خوض الانتخابات التشريعية والدخول إلى البرلمان. والانتقاد آنذاك جاء بناء على تحليل افترض أنّ مجرد دخول المجلس يفرض على القوى المشاركة تقديم تنازلات والبدء في تجربة لا تنسجم في جوهرها مع المبدأ.

حتى تتجنب «الجهاد» ذاك الاستحقاق قررت مقاطعة الانتخابات تحسبا من أنْ تكون بداية تراجع عن موقف قرر الابتعاد عن سلطة لا تعترف بها واتفاقات لا توافق عليها. «الجهاد» اعتبرت أنّ الدخول في اللعبة البرلمانية تعني الموافقة على الدخول في لعبة سياسية تتحكّم في خيوطها وخطوطها «اتفاقات أوسلو» والسلطة الفلسطينية التي تأسست عليها.

مواقف «الجهاد» المبدئية قد تكون مثالية وغير واقعية ويمكن انتقادها سياسيا ولكنها على الأقل جاءت منسجمة مع خطها العام الرافض للاتفاقات والسلطة الناجمة عنها. أمّا مواقف «حماس» فكانت مشوشة وغير واضحة المعالم. فالحركة واصلت انتقاد «اتفاقات أوسلو» ولكنها أسقطت تحفظها وتعاملت مع سلطتها. وهذا النوع من الواقعية السياسية يفترض ضمنا مجموعة شروط منها التعامل بإيجابية مع متطلبات سلطة وحاجات ناخب يعيش في ظروف استثنائية لا مثيل لها في العالم. فالسلطة الفلسطينية مثلا ليست دولة مستقلة ذات سيادة وإنما هي أقرب إلى مثال «الحكم الذاتي» المقبول نظريا من دون حماية دولية. والاحتلال أيضا موجود وغير مقبول دوليا ولكنه يعطي لنفسه الحق بالتدخل وعدم الانسحاب وإعادة الاجتياح في اللحظة التي يراها مناسبة.

حقائق تعرفها «حماس»

هذه الحقائق تعرفها «حماس» جيّدا وهي مطلعة على «اتفاقات أوسلو» وتلك الثغرات القانونية التي انتزعت من السلطة مبدأ السيادة وجعلتها قوة مبتورة خاضعة لهيمنة الاحتلال وطبيعته التوسعية. السؤال لماذا قررت «حماس» خوض الانتخابات التشريعية في ظل سلطة أقرب إلى «الحكم الذاتي» لا الدولة؟

هناك أجوبة كثيرة منها أنّ «حماس» قررت ضمنا الاعتراف باتفاقات أوسلو والتعامل بإيجابية مع الوقائع الميدانية. ومنها أنّها وجدت في غياب الرئيس ياسر عرفات فرصة للدخول في منافسة «فتح» على زعامة الشارع الفلسطيني. ومنها أيضا أنّها أرادت تفخيخ سلطة عرفات بعد رحيله من الداخل من خلال بعثرة أجهزته وتحطيم مؤسسات «فتح» أو عزلها أو توريطها في مواجهات محلية وغيرها من مهمات واتهامات أطلقت ضدها.

كلّ هذه الاحتمالات واردة وربما تكون متخيّلة أو مفترضة. ولكن الاحتمال الواضح حتى الآنَ يكمن في أنّ الشواهد التي قدّمتها «حماس» في تجربتها الميدانية على الأرض لم تكن مشجّعة وليست أفضل حالا من السابق. فالبدائل حتى اللحظة نظرية وليست عملية، والرفض الإيديولوجي لعدم التعامل مع الاحتلال تشوش عمليا حين اضطرت «حماس» إلى إعادة النظر في الكثير من الأمور وخصوصا تلك المتعلقة بتأمين حاجات الناس ومتطلباتهم.

هذا الضعف الميداني في التعامل مع الوقائع كسر كثيرا من هيبة «حماس» وصدقيتها المبدئية ووضعها في موقع سلبي تتحمّل مسئوليته مباشرة سواء على مستوى مواجهة الاحتلال وحصاره للقطاع أو على مستوى تلبية حاجات الناس واحتواء ظروفهم الحياتية والمعاشية التي تزداد صعوبة مع مرور الوقت. وبسبب ضعف البدائل عند «حماس» اضطرت قيادتها اللجوء إلى القوة لتعويض الفشل فارتدت إلى الداخل دفاعا عن السلطة بعد أنْ كانت في السابق تدفع السلطة لمواجهة الاحتلال.

المشاهد التي تناقلتها وكالات الأنباء والفضائيات ومحطات التلفزة من غزّة لا تشرّف حركة «حماس» ولا ترفع قيمتها ولا تزيد من وزنها السياسي. المشاهد مخجلة وغير مألوفة وكان بالإمكان تجنب السقوط بها. ما يحصل في غزّة من تصرفات خشنة ضد المتظاهرين أو المصلّين أو المحتجين أعطت فكرة سلبية عن سلطة سياسية تقودها «حماس» في وقت يعاني القطاع من حصار إسرائيلي يدفع الأهالي ثمنه يوميا.

قرار «حماس» دخول لعبة الانتخابات تحت سقف «اتفاقات أوسلو» من دون إعادة قراءة المتغيّرات التي قد تطرأ على المنهج العام في التعامل مع المتطلبات اليومية أدى إلى تعطيل القدرة في البحث عن آليات بديلة اعتمدتها سابقا السلطة الفلسطينية خلال تجربتها القصيرة والمتواضعة. وهذا النوع من القرارات المتسرّعة يؤدي غالبا إلى عزلة سياسية وضعف بنيوي في التعامل مع الناس واللجوء إلى القوة اضطرارا لتعويض النقص في البدائل.

اليوم يشهد القطاع ذاك الاضراب العام الذي دعت إليه فصائل المقاومة الفلسطينية. والدعوة موجهة ضد «حماس» وسلطتها وأسلوبها العنيف في التعامل مع قوى تعارض سياستها وسلوكها العام. والمؤسف في المشهد الفلسطيني أنّ الإضراب يأتي في ظل انقسام يتداخل مع لحظة زمنية لايزال الاحتلال يواصل هجماته وضرباته الجوية والبرية ضد القطاع والضفة معا من دون تمييز بين «فتح» و»حماس».

«حماس» قد تكون أخطأت في حساباتها حين قررت دخول لعبة الانتخابات ومنافسة «فتح» في قيادة سلطة أنتجتها «اتفاقات أوسلو»، ولكن الخطأ الفادح أنْ تستمر في اللعبة من دون مراجعة نقدية أو إعادة نظر في المنهج العام. فالوقوف في منتصف الطريق يزعزع الثقة ويعطل على قيادة الحركة التفكير في البدائل ويمنع عنها ابتكار آليات تعوّض الناس ما خسرته من مكاسب متواضعة.

هذا الضياع بين نزعة إيديولوجية عامّة وسياسة يومية غير قادرة على تخليق وظائف عملية وفعلية ينتج سلبيات في الرؤية ويولّد تشنجات نفسية ويؤسس سياسة انعزالية تدفع السلطة إلى اعتماد القوة والإفراط في استخدامها لفك حصار مضروب من الناس لا من الاحتلال.

هناك فرصة لحركة «حماس» ترفع عنها مسئولية اضطهاد الناس في زمن الاحتلال وهي أنْ تقلع عن استخدام القوة وتلجأ إلى السياسة في التعامل مع قوى تشاطرها الحصار وتداعياته.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1829 - السبت 08 سبتمبر 2007م الموافق 25 شعبان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً