العدد 1857 - السبت 06 أكتوبر 2007م الموافق 24 رمضان 1428هـ

الفساد وعناصر ثلاثة

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

وجود تشريعات قانونية صارمة وعادلة، يتم تنفيذها بنزاهة وإنصاف، ومن دون تمييز، أحد ثلاثة أمور، توفرها يحول دون تكاثرعدد المفسدين، وسارقو أقوات الشعب، ويردع المفسدين منهم. ومن هنا تكمن أهمية دور الدولة ووظيفتها وحقها الحصري الذي لا يشاركها فيه أية مؤسسة أخرى، وهو احتكار استخدام القوة في تنفيذ القانون، قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: (..ولا يقيم الناس إلاّ السيف..)، فوجود مفسدين مهما كانوا قليلين، يفسد حياة الجميع، لذا لا بدّ من القوة لإجبار الشاذين على سلوك الطريق القويم، وإلاّ فسدت حياة المجموع. غير أنّ المصيبة حين يكون الإفساد يعشعش في الطبقة المستأمنة على تطبيق القانون؛ أي بين بعض أصحاب المناصب العليا في الدولة ممن يكون إفسادهم يوقع أكبر الضرر على مصالح عموم الناس، ولهذا قد تقتصر موجة محاربة الفساد المالي على الشركات العامّة وستطال صغار القوم دون أصحاب الألقاب الكبيرة.

من جهة ثانية، أنّ المجتمعات والأمم لا تقصر اعتمادها على مجرد إصدار تشريعات قاسية لإنجاح مشروعات كبيرة، كمحاربة الفساد المالي، وإنما تعمل على تغذية أفرادها في كلّ المراحل التعليمية وفي البيت والمجتمع منذ نعومة أظفارهم، على تربية تنبذ السرقة وتزدري مَنْ يقوم بها، وتعلي من شأن الأمين وحفظ الأمانة. ففي هذه الحالة، يتم خلق عرف اجتماعي نابع من ثقافة ودين المجتمع، له دوره الكبير في دفع الأفراد للالتزام بمعايير وقيم الجماعة، فقد يوفّي المدين بدينه، ويرجع المستعير ما استعاره إلى صاحبه بفضل هذه الرقابة المجتمعية، وبهذا فإنّ ردّة الفعل من قبل المجتمع قد دخلت في تعديل وضبط سلوك الفرد.

إلا أنّه لا يمكن أنْ يُستغنى بالتشريعات القانونية والرقابة المجتمعية، عن العنصر الثالث والأخطر القادر على ضبط سلوك الأفراد وجعله ينسجم مع مصلحة الجماعة. فمن وجهة نظر بعض المفكّرين الإسلاميين كالسيد محمد باقر الصدر، أنّ السبب الأكبر وراء كل أنواع الانحرافات ومنها الفساد المالي والأخلاقي وكلّ المظاهر المنحرفة في المجتمع، هو المحتوى الداخلي للفرد. صحيح أنّ سلطة المجتمع ونبذه للمنحرفين والتي يُطلق عليها بالضابط الاجتماعي، بجانب سلطة الدولة في فرض القانون الصارم العادل، والتطبيق النزيه له، تعطيان نتائج كبيرة جدا في مجال مكافحة الفساد بشتى أشكاله. إلا أنه ومن دون العناية بالمحتوى الداخلي الذي قد يُعدّ العنصر الأخطر، سيظل الأفراد يبحثون عن ثغرات في القانون يلجون منها إلى مبتغاهم، فضلا عن إمكانية الهروب من القانون، فأشد القوانين كالتي تعاقب بقطع اليد على السرقة، كما في القانون الجنائي الإسلامي، لا تمنع من حدوث السرقة حتى في الحالات الطبيعية حيث يتمتع فيها أفراد المجتمع بمستوى معيشي جيّد، «ما لم يكن إلى جانبها ضمان ذاتي ينبثق عن الشعور الداخلي للإنسان بالمسئولية».

مشكلة الإنسان الحقيقية هي محتواه الداخلي الذي يتكون من دوافع فطرية غريزية عديدة، تسيره بهذا الاتجاه أو ذاك، في شؤونه الصغيرة والكبيرة. ومن هنا يأتي الدور الذي تتميز به العقيدة الدينية والثواب والعقاب، وهو تهذيب هذه الغرائز التي تحرّك سلوك الأفراد وأفعالهم. فهذه الغرائز، عادة ما تدفع الإنسان نحو تحقيق ما يشبعها، فينتج عنها تعدي وتجاوز يطال حقوق الآخرين، فقد تدفعه غرائزه حينما يأمن سلطة المجتمع أو عقوبة الدولة، للتهرّب عن مسئولياته أمام المجتمع ويخرق القانون. بذلك نصل إل نتيجة، مفادها أنّ الانحراف يبدأ من الداخل، ونتيجة سيطرة الغرائز والدوافع الفطرية، ينعكس هذا الانحراف على المحيط الخارجي من أفراد وممتلكات وغيرها، واستبداد بالثروات والحكم، ومحاولة كسب مواقع القوة التي تقود إلى توفير مشتهياته ورغباته في التملك. وعندما يكتفي الشارع الإسلامي المقدّس بالقسم (الحلف) في بعض حالات الأحكام القضائية، فهذا يعني أنّ الإسلام يعوّل على التربية الإيمانية، ودور هذه التربية في استقامة سلوك الأفراد، وانعكاس ذلك السلوك في المجتمع.

إذا، القانون العادل الذي ينفذ بإنصاف ومن دون تمييز، والعرف الاجتماعي الصالح الذي ينبذ الخيانة ويعلو من الميول نحو القيم المعنوية الأخلاقية، وأثر الدين والإيمان بالله الذي يضبط المضمون الداخلي للإنسان ويتحكم في غرائزه... هذه عناصر ثلاثة، قادرة على خلق أفراد صالحين، يندر أنْ يخرج منهم مفسدون وأشرار. والفساد المالي لدينا، ما زال ليس ظاهرة عامّة، والعلّة معلومة لكل ذي عقل وبصر. الماء مرة ينزل من السماء ويسقط على سطح الأرض، ومرة يخرج من باطن الأرض إلى سطحها.الفساد المالي لدينا لا يخرج من القاعدة؛ أي من الشعب، وإنما ينزل من فوق، ومقتصر على بعض الشخصيات الكبيرة والرسمية، ولا علاقة لأفراد الشعب به. ومحاربة الفساد المالي سيبقى وهمٌ كبير من دون تفعيل مفهوم الحكم الصالح في أواصر الدولة. والسبب يعود لعدم قيام الدولة بدورها الإيجابي، بل هي السبب وذلك؛ لأن الفساد يمارسه كبار أصحاب المناصب الرسمية وشبه الرسمية، والشرط الرئيسي أنْ يبدأ الإصلاح من الدولة بتطهير هذه المناصب من العناصر الفاسدة، وإذا صلُح هؤلاء سيصلح من تحتهم، ففي الأثر: إذا صلح الوالي صلحت الرعية.

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1857 - السبت 06 أكتوبر 2007م الموافق 24 رمضان 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً