العدد 1868 - الأربعاء 17 أكتوبر 2007م الموافق 05 شوال 1428هـ

دورة اقتصاد جهنمية والإنسان هو الضحية

«أمة الوجبات السريعة»

وجهان تعتمد عليهما قاعدة فيلم «Fast Food Nation» (أمة الوجبات السريعة) الذي يعرض حاليا في سينما الدانة. الوجه الأول خارج حدود الولايات المتحدة ويتحدث عن العمال المهاجرين أو الهاربين سرا إلى الولايات الجنوبية في أميركا بحثا عن عمل يوفر الهناء والرفاهية. والوجه الثاني يقع داخل الولايات المتحدة ويتحدث عن ورش العمل والمزارع والمعامل التي يشتغل فيها العمال الزاحفون من المكسيك طمعا في الحصول على مداخيلَ معقولة تسهل حياتهم الزوجية أو العزوبية.

الجانب الأول من السيناريو يعطي فكرة موجزة عن أساليب التهريب التي تنظمها عصابات تعمل سرا وتقوم بنقل العمال عبر ممرات خارج دائرة القانون. فالعصابات تستغل ظروف الحياة الاجتماعية في المكسيك وتقوم بتأمين منافذ الهروب بعد دفع مبالغَ طائلة للمافيات. والمافيات تقتصر وظيفتها على النقل وتسليم البضائع البشرية إلى المؤسسات التي تقوم بتشغيل هؤلاء في ظروف صعبة ومن دون غطاء قانوني (دفع ضرائب) أو تأمين صحي أو ضمان اجتماعي. كذلك تقوم بإسكانهم في غرف تفتقد الشروط الصحية أو الضرورية للإنسان.

الجانب الثاني من السيناريو يختصر تلك الوسائل غير الشرعية والمخالفة للقانون ويقدم صورة موجزة عن طبيعة عمل مؤسسات غذائية كبرى تدر الأرباح بملايين الدولارات يوميا وتنشر فروعها في الولايات المتحدة ومختلف انحاء العالم في وقت تغتصب حقوق العمال وتقهرهم من خلال اعتمادها على شبكة من الوكلاء المحليين أو المديرين الإقليميين.

فكرة فيلم «أمة الوجبات السريعة» تشبه كثيرا سيناريو فيلم «بلدة على الحدود» الذي عرض الشهر الماضي في «الدانة» أيضا. الشريط السينمائي الثاني تناول قصة صحافي وصحافية كشفا موضوع استغلال المرأة عن طريق استخدامها في مصانعَ أسست الفروع على حدود المكسيك لتتهرب من الضرائب وارتفاع كلفة الأجور والإنتاج. فـ «البلدة على الحدود» يتحدث عن هروب الرساميل من أميركا إلى المكسيك وتوظيفها هناك بالتعاون مع ملاّك الأرض بتغطية من شيوخ ونواب الكونغرس تحت غطاء اتفاقات «التجارة الحرة» بهدف توفير كلفة الإنتاج واستغلال رخص الأيدي العاملة وتوافرها في بلد يعاني أزمات وقلة الفرص للعائلات والأسر.

«أمة الوجبات السريعة» يتطرق سريعا إلى هروب الأيادي العاملة من المكسيك إلى أميركا وتحديدا ولاية كولورادو التي تكثر فيها المزارع وتشتهر بتربية الأبقار. وفكرة «أمة الوجبات السريعة» استندت إلى موضوع مزارع الأبقار وعدم توافر الشروط الصحية في العناية بالعمال حتى في رعاية البيئة التي أخذت تتدمر بسبب الإهمال وتجاوز القانون.

فكرة كل فيلم تختلف عن الأخرى في النهايات العامة ولكنها تتقاطع في نقطة واحدة وهي الحدود المشتركة بين الولايات المتحدة والمكسيك وتلك الأنشطة السرية التي تقوم بها شبكات تحت الأرض لتهريب البشر من الجنوب إلى الشمال أو تهريب الرساميل من الشمال إلى الجنوب. وهذا التعاكس يتقاطع في مربع مشترك هو الاحتكار والاحتقار والطمع والتهرب من المسئولية وعدم الاكتراث بحياة البشر وازدراء حاجاتهم.

هذا المربع الإنساني يجمع الفيلمين في فكرة واحدة هي أن الشركات الكبرى التي تمتاز بالدعاية والحضور اليومي هي الأكثر غشا والأدنى في مراعاتها حاجات الإنسان وتدهور نشاط البيئة إضافة إلى تعريض صحة المستهلكين للخطر.

فيلم «بلدة على الحدود» يركز على مخالفة المنتجين الرأسماليين للقانون على حين الثاني (أمة الوجبات السريعة) يركز على المخاطر الصحية التي يتعرض لها المستهلكون يوميا للوجبات السريعة. فهذه الأطعمة اللذيذة والشهية تفتقد ابسط الرعاية الصحية.

الفيلم الثاني يعطي أهمية للبيئة والرعاية الصحية وظروف العمال الصعبة حتى يوجه رسالته إلى المستهلك ويرشده إلى حماية نفسه من الاتكال في غذائه اليومي على «الوجبات السريعة» التي تحتوي على موادَّ كيماوية مضرة أو تختلط فيها موادُّ عضوية من البقر أو أعضاء بشرية قطعتها الآلات خلال تحضير وجبات اللحوم.

هناك مشاهدُ مقرفة كذلك هناك مناظرُ تقزز النفس حين تستعرض بعض اللقطات والصور كيفية اختلاط براز البقر مع أعضاء بشر (أصابع وأقدام وأرجل) قطعت خلال ساعات العمل الطويلة. فالاختلاط خطير ويهدد صحة المستهلك ومع ذلك تستمر هذه السلسلة من المطاعم بفتح الفروع والانتشار السريع في أميركا والعالم.

صورتان لوجه واحد

يبدأ الفيلم إذا من صورتين. الأولى تلاحق عملية تهريب العمال من المكسيك إلى جنوب الولايات المتحدة وصولا إلى التحاقهم بورش العمل والمزارع ومطاعم الوجبات السريعة. والثانية تلاحق أعمال شركة جديدة للوجبات السريعة دخلت السوق حديثا وبدأت تنافس مؤسسات عملاقة ومعروفة ومشهورة دوليا على كسب الزبائن.

مدير التسويق في الشركة الجديدة أنزل إلى السوق عرضا مغريا للمستهلكين وأدى إلى اكتساب زبائنَ كثرٍ نظرا إلى حجم قطعة اللحم وسعرها المعقول. فالمدير أخذ يخطط لتوسيع دائرة عمل الشركة ووضع أمامه برنامجا لاحتواء المزيد من الزبائن من خلال التفكير في إنزال عرض لكمية أضخم وسعر أقل. ولكن المدير الطامح يكتشف أن جامعة أميركية أخضعت منتوجاته لفحوصات مختبرية فتبيّن أنها تحتوي على موادَّ عضوية وبراز البقر. وتخوف مدير المبيعات من انتشار الخبر فقرر إرسال مدير الرقابة الصحية إلى الجنوب (كولورادو) لمعرفة الأسباب التي تلوث اللحوم ولماذا تتلوث وكيف يمكن تجنب هذا الاحتمال؟

من هذا المقطع تبدأ القصة الأخرى التي منها يطل المخرج ليكشف عينيا أن الأطعمة الجاهزة أو مطاعم «الوجبات الصحية» تفتقد الرعاية الصحية ولا تحترم البيئة حتى الإنسان ولا تهتم كثيرا بحماية المستهلك.

حماية المستهلك تشكل فكرة الفيلم المركزية؛ لأن الاستهلاك يشجع الإنتاج. واتساع رقعة الاستهلاك يدفع الشركات إلى توسيع شبكات الإنتاج من دون تخطيط أو عناية. فالتسريع في تلبية الطلبات العاجلة والمزدهرة محليا وعالميا يقلل من الرقابة الصحية ويدفع المؤسسات الغذائية الكبرى إلى التنافس وتكبير حجم قطعة اللحم وخفض سعرها. ومثل هذه الدورة الاقتصادية التي تبدأ بالسوق (المال والعمل والإنتاج والاستهلاك) وتنتهي بالإنسان (الصحة والأمراض والبيئة) مترابطة من أولها إلى آخرها. وبالتالي فإن تصحيح الدورة الاقتصادية لا يقتصر على جانب وإنما يشتمل كل الزوايا التي يتألف منها طبقات مبنى العمارة.

مدير الرقابة الصحية إذا يتوجه إلى مزارع الجنوب للكشف عن أسباب تلوث اللحوم ببراز البقر وبقايا أعضاء إنسان. المدير شريف ومخلص وحريص على سمعة شركته وصحة الزبائن؛ لذلك قرر معرفة الأمر من خلال الملاحقة والاستقصاء والرصد والمراقبة. وحين يعرف الحقيقة بعد اطلاعه على دورة العمل الاقتصادية من العمال المُهَرَّبين من المكسيك، إلى المزارع التي لا تخضع للرقابة البيئية، إلى المسلخ الذي ينحر البقر، إلى المصنع الذي يعلب أو يغلق قطع اللحم المجففة والمبردة والمضغوطة يكتشف اللعبة وصعوبة تصحيح العلاقة بين المنتج (الشركة) والمستهلك (الزبائن) والعمال وأصحاب المزارع. فهذه الدورة معقدة وضرب حلقة من حلقاتها يؤدي إلى تفكيك السلسلة وانهيار شركات ومؤسسات تسيطر على اقتصاد السوق.

فكرة الفيلم اعتمدت على كتاب أحدث ضجة كبيرة حين صدر في تسعينات القرن الماضي وفضح حياة الاستهلاك الأميركية ومخاطر الوجبات السريعة على صحة المواطن وتوازنه (السمنة والترهل). ولكن المخرج أعاد صوغ الموضوع وربطه بمجموعة قضايا إنسانية واجتماعية واقتصادية وبيئية متصلة ببعضها ولا يمكن قطع طرف منها من دون إحداث الضرر بالأطراف الأخرى.

مثلا، حماية البيئة تعني فرض رقابة صحية على مزارع البقر وهذا سيرفع كلفة التربية؛ ما يؤدي إلى ارتفاع أسعار اللحوم. وأيضا تحسين ظرف حياة العمال وعدم استغلالهم وتأمين الغطاء الصحي والضمان الاجتماعي إضافة إلى دخلهم اليومي وسكنهم سيؤدي إلى تضاعف كلفة الأجور والإنفاق؛ وهو ما يجعل شركات إنتاج اللحوم في وضع اقتصادي صعب. وأيضا تدهور أرباح المزارع أو إنتاج المصانع سينعكس على مؤسسات الأغذية ومطاعمها و «الوجبات السريعة»؛ لأنها ستكون عاجزة على تلبية ارتفاع حاجات السوق وتغطية الطلبات ورغبات المستهلكين.

إنها دورة جهنمية. وهذا ما قاله المدير الإقليمي لمندوب الرقابة الصحية. فالحل بسيط، احرق اللحمة على النار وتختفي آثار المواد العضوية ومضارها. وإلا ستقع كارثة اقتصادية. وهكذا عاد المندوب إلى الشركة الأم ليرفع تقريره من دون توصيات أو تحذيرات أو تنبيهات. فالمدير الإقليمي زرع الخوف في قلبه حين أشار إلى احتمال خسارته وظيفته في حال كشف الأسرار وفضح الإهمال بسبب صراعات داخلية في مجلس إدارة الشركة. وبين حماية المستهلك والرعاية الصحية وبين أرباح المؤسسة وضمان الوظيفة مالت الكفة إلى الصمت وعدم قول الحقيقة. فالحياة في النهاية مستمرة والطلب على «الوجبات السريعة» في تصاعد مطرد. أما البيئة والصحة وضمان حياة العمال فهي عثرات ستبقى موجودة حتى تبقى الأعمال والأنشطة الاقتصادية تواصل نموها وازدهارها.

العدد 1868 - الأربعاء 17 أكتوبر 2007م الموافق 05 شوال 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً