العدد 1869 - الخميس 18 أكتوبر 2007م الموافق 06 شوال 1428هـ

مسيرة الرازي الفلسفية في معاكسة تحوّلات سياسية

طلائع الفلسفة العربية الإسلامية (7)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

سيرة الرازي «العملية» و«العلمية» لا يمكن فصلها عن فضاءات عصر سياسي شهد الكثير من التقلبات الأيديولوجية والانقلابات الثقافية. فالسيرة ليست فلسفية بقدر ما هي سياسية وما ترسمه التحوّلات من حدود فصل وربط مع السلطة وضفافها.

الرازي هو نتاج عصر قلق شهد مرحلة انتقالية دفعت بالخلافة العباسية(مركز الدولة) من طور إلى آخر. وساهمت المتغيرات الانقلابية في تكوين شخصيته الفكرية في سياق تأثيرات متعارضة نجحت في تشكيل وعيه الخاص. فالتحوّلات السياسية الحادة بدأت بعد مقتل الخليفة المتوكّل وأخذت تتطوّر جارفة معها الكثير من الثوابت إلى أنْ انتهت بظهور دولة بني بويه.

امتدّت هذه الفترة الانتقالية من اغتيال المتوكّل إلى ظهور دولة بني بويه أكثر من 87 سنة كانت كافية لإعادة ترسيم أشكال العلاقات الأهلية وظهور أسر حاكمة وتراجع مواقع ونمو قوى جديدة. وخلال فترة أقل من قرن من الزمان ستشهد الخلافة خلالها ظاهرة نمو شوكة قادة الترك العسكرية وأخطرالانقلابات الأيديولوجية. والرازي الذي تصادفت ولادته وحياته ووفاته في هذه المرحلة الانتقالية التي اتصفت بالقلق والتوتر والحذر سيكون مثل غيره من «الفلاسفة» أو العاملين في مجال النشاط الذهني عرضة للتأويلات والاتهامات والمنافسات.

عصر الرازي سيشهد سياسيا عواصف وانقسامات وانتفاضات وثورات (الزنج والقرامطة) وستنهض دويلات في الأطراف بعضها يتساقط بفعل ضربات الزمن وبعضها سيستمر ويؤسس مواقع قوة سيكون لها تأثيرها على مركز الخلافة. وعصره أيضا سيشهد فكريا وفقهيا تحوّلات كبرى سيكون لها تأثيرها في تنميط الوعي الثقافي. ففي أيامه ستشهد الخلافة غيبة المهدي وستظهر الدولة الفاطمية في المغرب وسيعدم الحلاج وسيرحل في أيامه أوبعد رحيله آخر الكبار من رجال المعتزلة (الكعبي) ومؤسس الطريقة الأشعرية في الكلام (الإمام الأشعري) وكبار علماء الهندسة والفلك (بن قرة والبتاني) و«المعلم الثاني» الفيلسوف الفارابي.

عاصر الرازي كلّ هذه المتغيرات السياسية والتحوّلات الأيديولوجية فكان على صلة قريبة وبعيدة عنها ونجح في حدود نسبية في تشكيل شخصية خاصة ومستقلة لم ترق إلى مستوى الحصول على لقب «فيلسوف» ولكنها أثارت عواصف من السجالات الفلسفية التي تركت تأثيرها على أجيال واستدرجت نقاشات وردود عليه في حياته وبعد مماته.

سيرة الرازي الفكرية مهمة ؛لأنها سياسيا تصادف وقوعها قبل رحيل الكندي (الفيلسوف الأوّل) وقبل غياب الفارابي (الفيلسوف الحقيقي كما يصفه صاعد الأندلسي). وبما أنّ الرازي جاء بعد الكندي وعاصر الفارابي ورحل قبله فإن فترته تعتبر مهمة ؛لأنها تشكّل تلك «الحلقة المفقودة» في سلسلة تطوّر المعرفة الفلسفية في الشرق العربي/ الإسلامي التي مهدّت الطريق لاحقا لظهور سلسلة أخرى من حلقات الفلسفة في الغرب العربي/ الإسلامي.

ولد الرازي في الري (قرب طهران) في العام 251 هـ (865م)؛ أي قبل سنوات قليلة من رحيل الكندي. وحين بلغ العاشرة من عمره بدأت معالم الدولة السامانية بالظهور في بلاد فارس. وغرابة هذه الدويلة التي تأسست نظريا في العام 261 هـ (875م) أنها تحدّت الخلافة العباسية المسلمة حين أخذت بمذهب زرادشت، الأمر الذي اعتبره بعض المؤرخين ردة على الدين. الرازي آنذاك كان في مقتبل العمر ولا يزال في طور الدراسة والتعليم، ولكن ظهور مناخ أيديولوجي في منطقته مستقل نسبيا عن مركز الخلافة أشاع حال من التمرد السياسي على ثقافة سائدة. وسيكون لهذا الفضاء تأثيره النفسي في توليد وعي مفارق، حمله الرازي معه من الري إلى بغداد حين انتقل إليها لاحقا.

هذا في شرق بلاد الرافدين. أمّا في غربها فقد بدأت الدولة الطولونية، التي أسسها الوالي أحمد بن طولون في مصر، تتحرّك باتجاه بلاد الشام وتنافس الخلافة العباسية على زعامتها. ونجح ابن طولون في توحيد مصر والشام في حملة عسكرية كبرى قادها في العام 265 هـ (877م). وتصادفت الوحدة المصرية - الشامية في السنة التي وقع فيها الحادث الأهم الذي هز وجدانيا البلاد وهو اختفاء الإمام الثاني عشر (المهدي المنتظر) وبدء ما عرف لاحقا بفترة «الغيبة الكبرى» التي لا تزال قائمة إلى عصرنا.

شكّلت سنة 265 هـ نقطة تحوّل في مجرى التجاذبات السياسية والفقهية. ففي الجانب الفقهي أسست مرحلة جديدة من الوعي المفارق في رؤية الإمامة وموقعها ودورها في الحياة العامّة وعلاقة المجتهدين بالسلطة. وفي الجانب السياسي حاول الطولونيون بعد نجاحهم في بلاد الشام مد نفوذ الدولة من مصر إلى بلاد المغرب، ولكن الأغالبة هزموا العباس (ابن أحمد بن طولون) في 267 هـ (879م) وأفشلوا المحاولة.

الرازي حتى هذه الفترة كان لايزال يدرس ويتعلّم في الري. فهذا الشاب بدأ منذ نعومته يدرس الطب ويطلع على الأدب والمنطق والفلك ويتعلّم الكيمياء ويقرأ الفلسفة. ويقال إنه درس المنطق وعلوم الفلسفة بإشراف المعتزلي الكعبي/ البلخي (من أهل بلخ) الذي يعتبر من كبارهم آنذاك وكان له الفضل في تأريخ «طبقات المعتزلة».

قبل انتقال الرازي إلى بغداد شهدت الخلافة تحوّلات دراماتيكية أبرزها انهيار «دولة الزنج» التي تأسست بعد اندلاع ثورتهم في العام 250 هـ. فهذه «الدويلة» التي نهضت على الفوضى وعدم الاستقرار أنتجت قوة مضادة أدّت إلى القضاء عليها في العام 270 هـ (883م) حين قطع رأس زعيمها علي بن محمد. وتصادفت المتغيرات هذه مع رحيل مؤسس الدولة الطولونية (أحمد) في السنة نفسها وخلفه ابنه خمارويه الذي أعاد توحيد مصر والشام في العام 273 هـ (884).

حتى اللحظة كان الرازي لايزال مقيما في الري وأخذ نجمه يلمع في عالم الكيمياء والطب وبدأ يشتهر في كتاباته الفلسفية التي جمعت نظريا بين الحقلين. وعملية المزج أو الجمع بين الطب والكيمياء شكّلت تلك القاعدة النظرية التي أسس عليها الرازي لاحقا منهجه الفلسفي (تحويل المعادن) الذي قوبل بالرفض والاعتراض من علماء عصره.

الرازي الآنَ شارف الثلاثين من عمره. وقبل انتقاله إلى بغداد الذي تصادف في العام 281 هـ (892م) توفي الخليفة المعتمد في 279 هـ (890م) وسط شائعات عن اغتياله وأحاديث عن حصول انقلاب في القصر أودى به بأسلوب غامض.

في هذا الفضاء المشحون بالشائعات انتقل الطبيب إلى بغداد في عهد الخليفة المعتضد بحثا عن شهرة ولتحقيق مكاسب لا يجدها سوى في عاصمة الخلافة. وفي سنة وصوله قرر المعتضد الزواج من ابنة والي مصر الطولونية. وتعتبر خطوة الخليفة في عقد قرانه من ابنة خمارويه خطوة سياسية؛ لأنها استهدفت من خلال المصاهرة إعادة توحيد العراق وبلاد الشام ومصر تحت مظلة الخلافة العباسية.

خطوة المعتضد لم تنتج سياسيا إذ لم تمض سنة على حفل الزواج حتى اغتيل خمارويه وخلفه ابنه أبي العساكر في العام 283 هـ (894م). ومنذ تلك الفترة بدأت أركان الدولة الطولونية بالاهتزاز ودخلت مرحلة النزاع الأخير.

اغتيال خمارويه أحبط مشروع المعتضد السياسي في إعادة هيكلة الخلافة وتوحيد أطرافها وربطها بالمركز. ولكن الأمر لم يمنع الخليفة من إعادة «تحديث» مؤسسات الدولة وإنشاء مرافق عامّة تلبي حاجات الناس. المعتضد كما يصفه المسعودي في تاريخه اتسم عهده بالهدوء إذ «سكنت الفتن، وصلحت البلدان، وارتفعت الحروب، ورخصت الأسعار، وهدأ الهرج، وسالمه كل مخالف، وكان مظفرا قد دانت له الأمور، وانفتح له الشرق والغرب، وأديل له في أكثر المخالفين عليه والمنابذين له» (مروج الذهب، الجزء الرابع، ص 260).

يعتبر مشروع إنشاء مستشفى في العاصمة أهم خطوة عملية إصلاحية أقدم عليها المعتضد بالتعاون مع الرازي. فالرازي آنذاك أكتسب شهرة في بغداد بعد قدومه إليها قبل ثلاث سنوات. فهو صاحب خبرة في قطاع الطب وعمل سنوات في الري في الحقل المذكور. وشكّل تعاون الرازي مع الخليفة في بناء مستشفى بغداد خطوة نوعية في حياته حين كلف برئاسة الأطباء في المستشفى وإدارة شئونها العامّة، الأمر الذي جعله على صلة شبه يومية بمركز الخلافة.

أدّى هذا التطوّر النوعي في حياة الرازي إلى توليد منعطفات حادّة في شخصيته وعلاقاته مع محيطه. فهو اجتماعيا استقر مستفيدا من موقعه الخاص الذي أتاح له توفير معاش معقول فتح له آفاق العمل في استكمال مشروعه الفلسفي (الطبي/ الكيماوي) ولكنه تعرّض لاتهامات انتقدته على ارتباطه بالسلطة والانحراف في سلوكه الحياتي. وشكّلت حملات النقد سلسلة ضغوط نفسية وضعته في زاوية ضيّقه بذل جهده لشرحها وتوضيحها من دون طائل.

موقع الرازي الرسمي لم يمنعه من تطوير منظومته الفكرية، فهو بداية تأثر بمنهج الكندي الرياضي وتذرع مثله بـ «العقل» كواسطة للايمان. ولكن الرازي عاد وأخذ يعمل على تأسيس منهج فلسفي مستقل مبتعدا عن الرياضيات ومعتمدا على الكيمياء (الأحياء) التي أوصلته مادتها إلى الالتزام بمنهج الطبيعيات في التفكير والتحليل والتركيب. وأدى تأليفه لهذا المنهج إلى تحوّله إلى «أهم الفلاسفة الطبيعيين والمفكرين المارقين» وأصبح علامة في هذا المضمار و»علم في تاريخ الفكر الميتافيزيقي في الإسلام» (ماجد فخري، دراسات في الفكر العربي، ص 53).

نمو فكر الرازي من خلال موقعه الرسمي تحسنت شروطه حين توفي عالم الرياضيات والهندسة والجبر والفلك ثابت بن قرة في العام 288 هـ (901م). فهذا العالم الكبير حظي بعطف الخليفة المعتضد ورعايته لما أظهره من قدرات ذهنية على الاختراع وتفكيك المعادلات. وعندما رحل تعززت مكانة الرازي وتطوّر موقعه بصفته طبيب الخليفة ونديمه، الأمر الذي سهل له مهمة الاستقواء بالسلطة لحماية نفسه واستكمال مشروعه الفلسفي في إطار وظيفة رسمية بالغة الأهمية من ناحية صلتها بالدولة من جهة وبالناس وحاجاتهم من جهة أخرى.

إلا أنّ حظ الرازي لم يستمر طويلا. فالخليفة المعتضد توفي في العام 289 هـ (902م) بعد عشر سنوات من الحكم نجح خلالها في ضبط الأمن الداخلي وتحديث مؤسسات الدولة وتحسين العلاقات مع دول الجوار في محاولة منه لإعادة دمجها في إطار الخلافة العباسية.

رحيل المعتضد جاء أيضا في لحظة زمنية مفارقة على طرفي الخلافة. ففي اليمن كان يحيى بن الحسين قد نجح في تأسيس الدولة الزيدية بعيدا عن رقابه السلطة، وفي المغرب بدأت الدعوة الفاطمية بالظهور في العام 291 هـ (904م) في بداية عهد الخليفة المكتفي. فالمكتفي الذي تولى الخلافة في 289 هـ بدأت فترته القصيرة (ست سنوات) في فضاء سياسي زعزعته تجاذبات إقليمية تمثلت في نمو مخاوف عباسية من احتمال اجتياح الحركة الفاطمية للمغرب وتقويض دولة الأغالبة الموالية للعباسيين. وازدادت المخاوف حين نشطت حركة القرامطة في البصرة وبدأت بمد نفوذها إلى دمشق ومحيطها في العام 289 هـ.

حاول المكتفي احتواء التداعيات من خلال محاولة عودته للتحالف مع مصر وبلاد الشام بهدف تجديد قواعد الدولة وتعزيز أنشطتها إلاّ أن محاولاته لتحسين مواقع الخلافة والمحافظة على نفوذها في مصر والشام ومقاومته للقرامطة لم تتوفق كليا. وهذا الضعف البنيوي سيرثه شقيقه المقتدر الذي تولى الخلافة بعد رحيل المكتفى في 295 هـ (908م).

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1869 - الخميس 18 أكتوبر 2007م الموافق 06 شوال 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً