في البعد الثاني، وهو محاكاة الصيغة الحديثة للتعليم الجامعي. كانت كلية الفقه في النجف أول مؤسسة تعليمية في الحوزة العلمية توظف صيغة التعليم الجامعي، وتقرر مساقات تستوعب علم الاجتماع، وعلم النفس، والفلسفة الغربية، والقانون، والتاريخ وغيرها من العلوم الإنسانية الحديثة، بجوار المعارف الإسلامية المدروسة في الحوزة العلمية، مع تأليف كتب اخرى، غير ما هو متعارف، تتضمن المباحث ذاتها، بأسلوب يحاكي المقررات الجامعية، أو انتخاب أبواب أو أجزاء من المؤلفات التي تدرس في الحوزة.

ثم استعادت كلية أصول الدين في بغداد تجربة كلية الفقه بعد سنوات، وربما كان لموقعها الجغرافي، وابتعادها عن النجف أثر في اقترابها إلى نمط الدراسة الجامعية اكثر من الحوزوية.

وفي السنوات العشرين الأخيرة ظهرت في قم وطهران كليات وجامعات للإلهيات والدراسات الشرعية، تجسد هذا النمط في تحديث التعليم الديني. منها جامعة الإمام الصادق وجامعة الشهيد مطهري في طهران، وجامعة الشيخ المفيد، وجامعة الإمام الخميني في قم، والجامعة الرضوية في مشهد. نمط التحديث في هذا المستوى يتجاوز الأطر والأشكال إلى حد ما، ويهتم بترسيم تقاليد جديدة للتعليم الديني، ويسعى إلى الامتداد الى آفاق أرحبَ، عبر الانفتاح على معارف العصر، والارتقاء بالبرامج الدراسية إلى مساقات التعليم الجامعي، وإحداث تخصصات متنوعة في المعارف الاسلامية، باستعارة الحقول المختلفة للعلوم الانسانية، أو تدشين تخصصات في العلوم الانسانية، مع تركيبها أو مزاوجتها بالمعارف الموروثة، بعملية استيعاب ودمج، ربما تبدو جوهرية وشاملة أحيانا، فيما تبدو صورية ومبسطة في غالب الأحيان، بمعنى أنها تستغرق في استعارة شكل الصيغة الحديثة في الجامعات، ولكنها تتعثر وتضطرب في القدرة على تمثّل القديم، وإعادة إنتاجه في سياقات العصر.

أما بالنسبة للبعد الثالث، وهو تحديث بنية المعارف الإسلامية. فإن هذا التحديث يطول بنية المعارف الاسلامية ويمهد لانبثاق السؤال اللاهوتي الجديد منذ عشرين عاما. بدأت تتشكل في طهران حلقات دراسية ونقاشية، تهتم بالتفكير في استفهامات لاهوتية لم يعرفها المهتمون بالدراسات الاسلامية في ايران من قبل . تدور حول ما يترقبه الانسان من الدين، وجدل العلم والدين، والعقل والمعتقدات الدينية، وطبيعة التجربة الدينية، ومجال الدين وحدوده في حياة الانسان، وهكذا حقل الفقه ومدياته، ومشروعية الدولة الدينية، وإمكان توظيف المناهج والأدوات المعاصرة للعلوم الانسانية في دراسة التجربة الدينية والتراث والنص... وغير ذلك؛ ما يعرف اليوم بـ «مباحث فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد» في إيران.

بالتدريج، حفلت مجموعة من الدوريات الناطقة بالفارسية بهذه الموضوعات، واهتمت دور النشر بطباعة عدد وفير من الدراسات المترجمة عن الانجليزية والألمانية والفرنسية، والتي تتناول قضايا فلسفة الدين، واللاهوت الكنسي الحديث، والتعددية الدينية، والهرمنيوطيقا والتأويل، وفلسفة اللغة، والألسانيات، وفلسفة العلم... وغيرها.

كانت الحوزة العلمية في قم أول محطة لهجرة هذه النقاشات والكتابات من طهران، فقبل عشر سنوات افتتح أحد أبرز المفكرين في هذا الحقل عبدالكريم سروش حلقة لدراسة علم الكلام الجديد في قم، وظل يديرها بنفسه أكثر من عام، وكان يحضر إليها نخبة من تلامذة الحوزة العلمية.

واستعر السجال بين الدارسين في إيران بشأن مشروعية توظيف مناهج العلوم الاجتماعية الغربية، وهكذا أدوات ومقولات اللاهوت الجديد في الدراسات الاسلامية، بل مشروعية الاشتغال على بعض المباحث، وتأجيج اسئلة، وإثارة إشكالات من شأنها ان تزعزع ايمان الناس وتعصف بمعتقداتهم. وعلى رغم هذه الاعتراضات وازدياد مظاهر الاحتجاج على هذا اللون من الأبحاث، ولكن عدد المنخرطين في السجال اتسع، فاستوعب النخبة في الحوزة العلمية والجامعات، وصار من أهم مشاغل المنتديات الثقافية ومراكز البحوث، والدوريات الفكرية. ثم توغلت هذه المباحث في اقسام دراسات الفلسفة وعلم الكلام وغيرهما في كليات الإلهيات والشريعة. ومع ان هذا النمط من التحديث لم يزل في خطواته الأولى، فإنه يطمح إلى إحداث اصلاح عميق في بنية المعارف الاسلامية، والإفلات من التقاليد الموروثة، والجرأة على نقد التراث، وعدم الخشية من استعارة الادوات المنهاجية من العلوم الاجتماعية الغربية، بل من اللاهوت المسيحي الجديد، وتوظيف المكاسب العلمية في قراءة وتقويم الموروث، والعمل على تدشين رؤى ومفاهيمَ بديلة، والدعوة إلى اعادة بناء العلوم الإسلامية، والتخلص من فرضياتها وقبلياتها ومرجعياتها التقليدية.

فعلم الكلام - مثلا - يغدو علم كلام جديدا يتحرر من مقولات الكلام القديم، وينفتح على الجغرافيا الراهنة للمعرفة البشرية، ويتعاطى مع نتائجها بلا وجل، ويعيد صوغ الهندسة المعرفية للعقائد بنحو مغاير لما مضى. وعلم أصول الفقه يطمح الى ان ينتقل الى فضاء معرفي آخر، يبحث القبليات الثاوية في لاوعي الفقيه، ويتوغل لاكتشاف العناصر المستترة في ذهنه، والمرجعيات المدفونة في عقله، التي تنتج الفتوى، فيرتقي اصول الفقه إلى فلسفة الفقه... وهكذا معارف اللغة العربية وآدابها تعمل على توظيف العلوم الألسنية وعلوم التأويل والهرمنيوطيقا وغير ذلك.

* مفكر إسلامي عراقي