العدد 1896 - الأربعاء 14 نوفمبر 2007م الموافق 04 ذي القعدة 1428هـ

أقدم «تحفة تاريخية» من عصر الخلافة الراشدة

مع انتقال عاصمة الخلافة الإسلامية من المدينة المنوّرة إلى العراق، أصبحت الكوفة مدينة «عالمية»، استوطنتها القبائل العربية، إلى جانب موجات من المهاجرين والسبايا الذين تقاطروا عليها بعد إسقاط المسلمين الدول الكبرى آنذاك.

وفي دولة ناشئة، كان الخليفة يقوم بدور المفتي والخطيب والمبلّغ والموجه والداعية إلى الله، إلى جانب مهمات الحاكم. في أحد الأيام، تقدّم أحدهم ليخطب في الناس، فتلجلج وانعقد لسانه، فتقدّم الإمام علي (ع) إلى المنبر لينقذ الموقف، فقال: «ألا وإنّ اللسان بضعة من الإنسان فلا يسعده القول إذا امتنع، ولا يمهله النطق إذا اتسع، وإنّا لأمراء الكلام وفينا تنشّبت عروقه، وعلينا تهدّلت غصونه».

حول هذا المنبر، كانت تتحلق أعدادٌ كبيرةٌ من «المسلمين الجدد» كالفراش، حتى شكا بعض العرب بقولهم: «لقد غلبتنا هذه الحمراء على قربك يا أمير المؤمنين». هذا الانجذاب له أسراره طبعا، فهناك مبادئُ إنسانيةٌ ساميةٌ ومشروعٌ أمميٌّ عابرٌ للحدود والأعراق، وخطابٌ واعدٌ بتحقيق العدالة والمساواة والإنصاف بين الشعوب، إلى جانب الأسلوب الساحر الذي يودع الكلمات في صدور المستمعين من الطلقة الأولى.

الرسول (ص) في لفتة بليغة أشار إلى «أن من البيان لسحرا، ومن الشعر لحكمة»، وأول من ينطبق عليه ذلك هو ربيبه وتلميذه الأول (علي)؛ لما يمثله خطابه من بيانٍ عذبٍ يسحر الألباب، وهو ما عبّر عنه رئيس كلّية العلوم بجامعة القاهرة علي الجنيد بقوله: «في هذا الكلام موسيقى موقّعة تأخذ القلب أخذا، وفيه من السجع المنتظم ما يصوغه شعرا». فكان البعض يحفظه عن ظهر قلب، وبعضهم يحرص على تدوينه أولا بأول، وأكثر هؤلاء قادم من بيئات ذات خلفيات حضرية. وهكذا تمّ حفظ هذا التراث في القلوب وتوزّع هنا وهناك، حتى جاء عصر التدوين، وانبرى أحد أحفاد الإمام علي (ع) لجمع هذه الخطب والرسائل والحكم والكلمات القصار، واعتمد اختياره على تغليب جانب السحر في التعبير، وأسماه «نهج البلاغة»، وقد فاته أكثر مما جمعه، وجاء بعض المتأخرين ليدوّنوا «مستدركات» على «نهج البلاغة».

هذا الكتاب الذي يعتبر من الكتب التاريخية النادرة والفريدة، أصبح مرجعا يعود إليه الباحثون والدارسون والمؤرخون؛ لكونه الكتاب الوحيد الباقي من فترة الخلافة الراشدة. على ان هناك عواملَ تاريخية أخّرت جمع الكتاب حتى وقت متأخر من العصر العباسي، لما بعد عصر الترجمة بعقود، من بينها القمع الفكري والاضطهاد اللذان تعرّض لهما أتباع مدرسة أهل البيت النبوي الشريف أيام الأمويين، واستمر حتى أواسط العهد العباسي، فلما بدأ عهد الانفراج أخذ الشريف الرضي جمع تراث جدّه الكبير.

الكتاب مورد لمحبي الأدب وأصحاب الذائقة الفنية الرفيعة، ومرجع مهم للدراسات في مجالات العقيدة والفكر والسجالات التاريخية. تعلّق به عددٌ من المحدّثين والمتكلمين والشارحين، من مذاهبَ ومشاربَ مختلفةٍ، لعل أشهرهم العالم المحدّث عبدالحميد بن هبة الله المشهور بابن أبي الحديد، وهو من المعتزلة، شرحه في عدة مجلدات، وأنشأ على هامشه «العلويات السبع»، وهي قصائدُ عشق تتغنى ببطولات عليٍّ (ع) وزهده وعظمة شخصيته.

في مطلع القرن العشرين، وقع الكتاب بالمصادفة في يد الإمام الشيخ محمد عبده (رحمه الله)، أثناء نفيه إلى بيروت، ولما عاد إلى مصر قام بشرحه. كما شرحه الشيخ صبحي الصالح في لبنان في السبعينات، في نسخةٍ أنيقةٍ بالحجم الصغير، وأضاف فهارسَ نوعية تسهّل على القارئ مراجعة الخطب والرسائل وأسماء الأعلام والأماكن والأشعار.

أما هنا في جزر البحرين، فقد انبرى أحد علمائها المبرّزين لشرح النهج، وهو كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني، من علماء القرن السابع الهجري، والذي اشتهر بقصة «كل يا كمي»، في زيارته التاريخية للعراق، مع أنه عالم متكلم وله مؤلفات عدة، توفي العام 679 هـ، ودفن في قرية هلتا، إحدى قرى الماحوز، كما تقول المصادر التاريخية، ويقع قبره اليوم في أم الحصم، قرب جمعية «وعد».

شرح ميثم يغلب عليه الطابع الفلسفي والكلامي، طبع في مجلدات عدة في دول إسلامية عدة، وهو اليوم ميسرٌ في حلّة جديدة، آثرت إحدى دور النشر البحرينية أن تتشرف بتقديمه إلى القراء في مجلد واحد أنيق.

العدد 1896 - الأربعاء 14 نوفمبر 2007م الموافق 04 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً