العدد 1897 - الخميس 15 نوفمبر 2007م الموافق 05 ذي القعدة 1428هـ

مواقف الحركات الإسلامية ومخاوفها من المسألة الديمقراطية

في ندوة عقدت في أكسفورد قبل 11 سنة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

في العام 1996 دعا «مشروع دراسات الديمقراطية في البلدان العربية» إلى عقد ندوة في كلية سانت كاترننز في جامعة أكسفورد البريطانية لمناقشة موضوع «الحركات الإسلامية والديمقراطية: المواقف والمخاوف المتبادلة». انعقدت الندوة في 31 أغسطس/ آب 1996 بحضور 53 باحثا عربيا من فلسطين والجزائر ولبنان والأردن ومصر والعراق وتونس والبحرين واليمن وقطر والسودان والسعودية، وتركز النقاش في ورقتين: الأولى تناولت مواقف الحركات الإسلامية من الديمقراطية. والثانية تناولت مواقف الديمقراطية من الحركات الإسلامية.

كان الهدف من الندوة البحث في أسباب ضعف الديمقراطية في البلاد العربية ومخاوف الدول منها ولماذا تتردد الحركات الإسلامية في التعامل مع الفكرة؟ وأدى الموضوع إلى تشعيب النقاش وتفرع البحث واتسع نطاقه ليشمل التاريخ والجغرافيا وسياسة الغرب (أوروبا والولايات المتحدة) وتردد الأنظمة في تبني المشروع الديمقراطي خوفا من حصول الحركات الإسلامية على غالبية المقاعد البرلمانية وبالتالي وصولها إلى الحكم.

طبيعة الموضوع فرض مادته السياسية على النقاش، فتوزعت العناوين على قسمين: الأول تطرق إلى الجوانب النظرية العامة والآراء المتداولة بشأن الدولة المعاصرة ودستورها ومفهوم السلطة وعلاقتها بالمجتمع. والثاني تطرق إلى الجوانب العملية ومسألة الصراع بين الدولة المعاصرة والإسلاميين.

كان النقاش يستهدف تعيين الطرف المسئول عن معضلة الديمقراطية في المنطقة العربية، لذلك اتجه البحث إلى تأريخ الأزمة منذ إلغاء الخلافة الإسلامية رسميا في العام 1924 وردود الفعل العربية على القرار الذي اتخذه كمال أتاتورك. كذلك وثق البحث عوامل الانقسام وظروفها السياسية وصولا إلى تسعينات القرن الماضي. فالأزمة ليست جديدة، ولكنها دخلت في محطات زمنية وتواصلت إلى أن دخلت الدولة في صدامات عنيفة مع الإسلاميين. وهذا الأمر لايزال قائما حتى الآن.

مضى أكثر من 11 سنة على الندوة والنقاش النظري لايزال يدور حول نفسه ويتنوع ويتفرع ليعود من جديد إلى نقطة الدائرة. أما الجانب العملي فقد تغيّر قليلا وخصوصا في مجال التطبيق وتلك النماذج التي تطرقت إليها أوراق البحث.

تركز النقاش آنذاك في عينات عربية وإسلامية اتخذت أمثلة حسية للدلالة على الأزمة القائمة بين الدولة والإسلام. وجاءت العينات بناء على وقائعَ جارية كانت تعيشها مصر والسودان والجزائر وتونس وفلسطين وتركيا.

اختيار هذه الدول ليس مقصودا وإنما القصد من اختيارها كان مجرد محاولة لتقريب الصورة الميدانية (الواقع العملي) من التصورات الذهنية. فالفكرة حتى تكون ظاهرة في تكوينها العقلي لابد أن تعزز بأمثلة حسية تنقل المشهد السياسي من المتخيل الذهني إلى واقع معاش يدركه كل متابع للأخبار اليومية.

مصر والسودان

الآن وبعد أكثر من 11 سنة ماذا حصل من تطورات إضافية على تلك الأمثلة الحسية التي قدمت نماذجَ عينية في ندوة أكسفورد؟

أمور كثيرة حصلت ولكنها لا تخرج عن دائرة التجاذب السياسي بين الدولة والمجتمع. في مصر لايزال مجرى الوقائع يصب في الاتجاه ذاته من دون تغيير يذكر على المعادلة. إلا أن هناك توجهات جديدة طرأت على مواقف جماعات إسلامية كانت ترفض الديمقراطية والانتخابات وتتبنى العنف وسيلة شرعية وحيدة لقلب نظام الحكم. ففي العقد الأخير صدرت كتابات إسلامية انتقدت عمليات الإرهاب والخطف والاغتيال وقتل المدنيين وتفجير المناطق السياحية. وشكّلت هذه المراجعة النقدية التي بدأت بالتوقيع على مبادرة «وقف العنف» في العام 1997، مناسبة لعقد مصالحات جزئية أدت إلى تراجع العنف في مصر والإفراج عن عشرات المساجين. ولكن المراجعة لم تكن كافية لتطمين السلطة وإقناعها بضرورة التسليم بالوقائع والانفتاح على حركة «الإخوان المسلمين» التي أدانت العنف ورفضته منذ البداية.

المصالحة بين الدولة والمجتمع لم تكن شاملة، وهي حتى الآن لاتزال تعاني من أزمة ثقة مزمنة بين السلطة والإخوان. فالسلطة لاتزال من قمة الهرم حتى قاعدته كما هي لم تتغير سياسيا وترفض التصديق أو القبول بأطروحات الإخوان السلمية والمسالمة. وحركة الإخوان السياسية لاتزال ممنوعة رسميا حتى لو شاركت في الانتخابات وفازت بعشرات المقاعد البرلمانية. وبسبب ازدواجية العلاقة بين السلطة والحركة لم يتغير المشهد السياسي خصوصا على مستوى إغلاق الصحف واعتقال الصحافيين ومداهمة مقرات واعتقال مجموعات ومحاكمة قادة في أحزاب المعارضة والنقابات.

في السودان أيضا لم يتغير المشهد كثيرا بل هناك مجموعة تطورات أسوأ من السابق. الانقلاب الذي كان مر عليه سبع سنوات وقت انعقاد ندوة أكسفورد انقلب على نفسه وانشق قادته وتوزعوا على أحزاب موالية للسلطة ومنظمات معارضة لها. حتى الشيخ (المؤسس) حسن الترابي اختلف مع قادة الانقلاب (الجناح العسكري) فطُرِد من السلطة واعتُقِل وأُفرِج عنه ليعتقل مجددا ويُحاكَم بتهمة التآمر ثم يفرج عنه ليصبح أحد أبرز قادة المعارضة لنظام ساهم هو في تأسيسه. الآن وبعد كل تلك السنوات لاتزال قمة السلطة على حالها لم تتغير في وقت يواجه السودان (الدولة) سلسلة مخاطر قد تؤدي إلى تشطيره إلى كانتونات سياسية تتوزع النفوذ والثروة من الجنوب إلى الشمال ومن الشرق إلى الغرب (إقليم دارفور).

الجزائر وتونس

في الجزائر جرت تبديلات طفيفة على المسرح السياسي. فالسلطة لم تتراجع عن مواقفها المبدئية من العنف، ولكنها فتحت باب المصارحة والمصالحة وأعطت فرصة زمنية للتفاوض والعودة إلى الحياة المدنية. وأدى انفتاح السلطة الجزئي إلى تسهيل عقد تسوية جزئية بين الدولة والإسلاميين في عهد الرئيس الحالي عبدالعزيز بوتفليقة أسفرت عن الإفراج عن قادة الجبهة الإسلامية مقابل التعهد بعدم مواصلة دعم المنظمات المتطرفة التي تكفّر السلطة وتدعو إلى إسقاطها وتغييرها من طريق القوة.

العنف في الجزائر تراجع كثيرا في العقد الأخير قياسا بالمرحلة السابقة التي شهدت حالات مرعبة من القتل اليومي ومجازر ارتكبت ضد المدنيين في القرى والبلدات. وبسبب تلك المشاهد الدموية التي كادت تصل إلى شفير الحرب الأهلية اقتنعت الدولة أن المصالحة هي الأسلوب السليم كذلك اقتنع قادة أكبر تنظيم إسلامي أن السلم الأهلي هو الطريق الأفضل للوصول إلى تغيير السلطة.

الخوف على الجزائر (ماضيها ومستقبلها) أسس مصالحة معقولة أوقفت نسبيا مسلسل الجرائم، ولكنها لم تنجح في التطور للوصول إلى تسوية تاريخية لابد من عقدها لضبط الانهيار الحاصل بين الدولة والمجتمع.

في تونس لم تتغير صورة المشهد. فالمعادلة لاتزال على حالها تراوح مكانها فهي لم تتراجع إلى درجة العنف ولم تتقدم إلى درجة المصالحة. الآن وبعد 11 سنة لاتزال السلطة من قمتها إلى قاعدتها كما هي لم تتغير ولم تبدل نظرتها أو علاقاتها مع الإسلاميين ومختلف تنظيمات المعارضة الأخرى. كذلك لايزال زعيم حزب النهضة الإسلامي الشيخ راشد الغنوشي في المنفى وغير مسموح له بالعودة إلى بلاده وممارسة حقوقه المدنية وحقه في الاعتراض على سياسات السلطة.

فلسطين وتركيا

في فلسطين تدهور الوضع كثيرا بعد رحيل مؤسس السلطة ياسر عرفات. فالزعيم الفلسطيني الراحل نجح بحدود نسبية في ضبط العلاقة المتوازنة بين القيادة والقوى السياسية. واستطاع بسبب خبرته التقليدية في إدارة الصراع بين «فتح» و «حماس» من دون التورط في مواجهات دموية أو صدامات مسلحة.

هذه العلاقة المتأزمة بين «فتح» و «حماس» مرت في محطات صعبة شهدت أحيانا تجاوزات سياسية في التعامل مع المؤسسات المدنية والمنظمات الأهلية، ولكنها حافظت على الحد الأدنى المطلوب لضبط الوحدة الفلسطينية ومنع الاحتلال من استغلال الثغرات والتحكم في المسار العام للمفاوضات مع «إسرائيل».

رحيل عرفات قلب المعادلة وترك فراغات سلبية أدت إلى تعديل الكثير من المشهد السياسي الفلسطيني. فاليوم تبدو الصورة متعارضة ومنقسمة إلى سلطتين واحدة تقودها «حماس» في غزة وأخرى تقودها «فتح» في الضفة.

انهيار المشهد الفلسطيني جاء في سياق تراكمات أدت إلى تمزيق الصورة في النهاية. فـ «حماس» دخلت الانتخابات التشريعية تحت سقف سلطة اتفاقات أوسلو، ولكنها حاولت اختراقها بعد نجاحها في العملية الديمقراطية، وهذا ما عزز الانقسام بينها وبين «فتح» وصولا إلى الدخول في مواجهات دموية لم تتوقف ألا بعد تقسيم السلطة إلى قوتين في ظل احتلال يحاصر ويترصد الفرص للانقضاض.

تركيا هي الدولة الوحيدة التي تغيّرت جزئيا ودخل فيها المشهد السياسي في محطة جديدة تحتاج إلى وقت للتبلور والاستقرار. تركيا الآن اختلفت عن تلك الصورة التي ظهرت فيها خلال عقد ندوة أكسفورد. آنذاك كانت تمر في حال من الانقسام السياسي والتجاذب الايديولوجي بين رأس الدولة العلماني ورئيس الحركة الإسلامية نجم الدين أربكان الذي فاز حزبه بغالبية مقاعد البرلمان. اضطر الإسلامي أربكان أن يصافح العلمانية تانسو تشيلر ويعقد معها مصالحة لتشكيل حكومة ثنائية. ونجحت المصافحة مؤقتا، ولكنها انهارت بسبب ضغوط المجلس العسكري الحاكم فخرج أربكان من الحكم إلى السجن وتقاعدت تشيلر قبل الأوان.

الحركة الانقلابية لم تكن موفقة. فهي من جهة أفشلت تجربة ولكنها من جهة فشلت في منع نمو تجربة مشابهة وتَكرارها في أطر سياسية وتنظيمية مغايرة.

ما حصل في تركيا لاحقا يعتبر من النماذج الواقعية والمعقولة التي تريد تأسيس تسوية تاريخية بين الدولة والمجتمع تقوم على فكرة المصالحة بين سلطة علمانية وحركة إسلامية. فالحركة الانقلابية أدت إلى انقسام حزب أربكان وخروج الثنائي طيب رجب أردوغان وعبدالله غول (قادة تيار الشباب) على الشيخ المؤسس وإعادة تشكيل حركة إسلامية معاصرة تقبل بالقوانين الجمهورية وليست متطرفة في نزعتها الدينية.

في المقابل اكتشفت السلطة أنه لابد من الاعتراف بالواقع والتعامل بعقلانية مع حركة الشارع وهوية المجتمع المسلمة. وأدى هذا التنازل المتبادل إلى تلوين السياسة التركية بالديمقراطية وتقاسم مواقع الدولة من دون اللجوء إلى العنف. وأسفر هذا الوعي التاريخي المتقدم عن إطلاق مسار جديد في تجربة نموذجية تستهدف في النهاية إعادة تجسير العلاقة بين الدولة والمجتمع. وهذا ما حصل بالضبط حين نجح الإسلاميون الجدد في الانتخابات وقاموا بتشكيل حكومة حققت نجاحات اقتصادية رفعت من شعبية رموز الحركة الإسلامية.

الآن دخلت تركيا في تجربة نموذجية تحتاج إلى وقت للتبلور. وفي حال أخذت السلطة المركبة من قوتين مجالها الزمني ولم تتعثر محليا وإقليميا ودوليا يتوقع أن تلعب هذه المصالحة السياسية دورها المطلوب للتأثير على مسارات «الديمقراطية» في البلدان العربية وما تقتضيه من ضرورات وشروط ومستلزمات لإنجاح ما اتفق المشاركون في ندوة أكسفورد على تسميته «الديمقراطية التوافقية» التي تقوم على فكرة تسوية تاريخية بين الدولة المعاصرة والإسلام المعاصر.

قبل أكثر من 11 سنة بُحِثت هذه القضية على الصعيدين النظري والعملي، حتى الآن لاتزال التجربة عاثرة وتحتاج إلى وعي تسووي يقرأ التاريخ ويستفيد من التجارب والعِبر. فكيف كان أمر الدولة والحركات الإسلامية آنذاك؟ وكيف تعاملت مع بعضها واقعيا؟ وكيف تعاطت منهجيا مع مقولات نظرية يعاد إنتاجها وتَكرارها من دون تقدم؟ هذا هو مدار السلسلة التي ستنشر تباعا على حلقات.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1897 - الخميس 15 نوفمبر 2007م الموافق 05 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً