العدد 1906 - السبت 24 نوفمبر 2007م الموافق 14 ذي القعدة 1428هـ

خرج لحود من القصر... والذريعة باقية

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أخبار لبنان سيئة. الخبر الجيّد هو أنّ الرئيس السابق أميل لحود خرج من قصر بعبدا بهدوء واحترام وعقلانية غير متوقعة من جنرال عُرف عنه التعاطي مع القضايا المصيرية الكبرى بأسلوب نزق كلفت البلاد الكثير من الخسائر البشرية والعمرانية.

هذه العقلانية المستغربة التي ظهرت من الجنرال في الساعات الأخيرة من عهده كان بإمكانها توفير الكوارث على البلد الصغير لو أبدى القليل منها قبل ثلاث سنوات. فهذا الوطن المسكين كان ضحية عناد افتقد إلى الحكمة والقراءة الصحيحة للمتغيرات التي طرأت على المنطقة حين أصرّ على تمديد ولايته في العام 2004 على رغم الدعوات والمطالبات التي صدرت عن جهات مختلفة من الأطياف اللبنانية.

آنذاك كان بإمكان الجنرال لحود الخروج من القصر الجمهوري مرفوع الرأس وتحت سقف شبه إجماع لبناني وذكرى جميلة لن ينساها التاريخ وذلك لسبب بسيط وهو أنّ تحرير الجنوب في العام 2000 تم في عهده.

المشكلة في لحود في تلك اللحظة أنه فقد البوصلة وانجرف وراء طموحاته الشخصية وحبّه للسلطة ودخوله في سياسة نكايات صغيرة ساهمت في إيقاظ الفتنة الطائفية والمذهبية وجلبت إلى البلاد انقسامات جزئية خلطت الأوراق وبعثرت التحالفات وولّدت خصومات وحساسيات أورثت بلاد الأرز مجموعة من الصدمات والمآسي لاتزال تلاحقها حتى الآنَ.

الخروج الهادئ والعقلاني والمحترم من بعبدا تأخر ثلاث سنوات عن موعده الدستوري. وكانت السنوات الثلاث الممدة في عهده الثاني كافية لتحطيم تلك الصورة التي كان بإمكانها أنْ تتحوّل إلى رمز تاريخي في وجدان لبنان وتاريخه.

الجزء المختصر من عهده الثاني يعتبر الأسوأ في حياة بلد عانى الكثير من الحروب والتشنجات ودفع كلفة غالية نيابة عن التقصير العربي في إيجاد هيكلية دفاعية قادرة على التصدّي للاعتداءات الإسرائيلية المدعومة أميركيا. ففي هذا الجزء الممدد قسرا لعبت الشياطين دورها في تفجير التفاصيل ودفع القوى إلى الوقوف في أمكنة مضادة وتحطيم علاقات تأسست على الثقة وتبادل المنافع وتوازن المصالح.

في العام 2004 كان بإمكان المجلس النيابي اختيار رئيس جديد ليس بعيدا عن مناخات لحود. فاللائحة المارونية كانت طويلة وغنية بالشخصيات والرموز والوجوه اللبنانية المنفتحة على الدول العربية والمتفهمة لحاجات المقاومة وحق الناس في الدفاع عن حرماتهم وحماية سيادتهم واستقلالهم. لكن لحود أصرّ على التمديد تيمنا بسلفه الرئيس الراحل الياس الهراوي الذي جدد نصف ولاية بالضد من الدستور. لم يلحظ لحود أنّ ظروف الهراوي تغيّرت محليا وإقليميا ودوليا. وأنّ ما كان يصح قبل ست سنوات لم يعد بالإمكان تكرار الخطأ الدستوري حرفيا بعد مرور تلك السنوات الست.

محليا كان المزاج اللبناني تبدل نسبيا بعد هزيمة الاحتلال الإسرائيلي وخروجه من الجنوب في العام2000. وترافق تبدل المزاج الشعبي مع صدور بيان مهم عن «مجلس البطاركة الموارنة» بعد الخروج الإسرائيلي يطالب بإعادة النظر في الوجود العسكري السوري في لبنان وترتيب علاقات تتناسب مع التطور الميداني بعد انتفاء شروط التفاهم الدولي/ الإقليمي الذي ارتسمت معالمه في العام 1976.

هذا التطّور المحلي المغاير في تلاوينه السياسية تصادف أيضا مع غياب الرئيس السوري حافظ الأسد الذي يعتبر مؤسس الاستراتيجية الواقعية في التعامل مع المتغيرات الدولية والإقليمية. غياب الأسد الأب ولّد في السنوات الأولى فراغات نجمت عن تراجع رؤية دقيقة للتفصيلات وما ينشأ عنها من متحوّلات.

قواعد اللعبة المحلية أخذت تتغيرنسبيا بعد هرولة الاحتلال الإسرائيلي وخروجه من لبنان بقرار سياسي اضطر إلى اتخاذه رئيس الحكومة العمّالي آنذاك أيهود باراك. فالقرار كان مفاجأة وأحدث صدمة إسرائيلية داخلية وفي الآنَ طرح علامات استفهام بشأن مصير القرارات الدولية التي كانت تشكل ذاك السقف الذي يمنع الساحة اللبنانية من الانكشاف.

القرار 425 كان واضحا في بنوده، فهو من جهة يطالب «إسرائيل» بالانسحاب من لبنان ويعطي من جهة أخرى الحق الشرعي للشعب اللبناني بالدفاع عن نفسه وأرضه. وحين انسحبت «إسرائيل» من الجنوب مكرهة تحت ضربات المقاومة اعتبرت حكومة تل أبيب أنها نفذت الجانب المتعلق بها من القرار الدولي وطالبت سورية بتنفيذ الشق المتعلق بها. هذا المتغير الدولي لم يدركه لحود إلاّ متأخرا حين اكتشف أنّ المعادلة دخلت عليها إضافات أسست منطلقات جديدة لقواعد اللعبة الإقليمية.

تشنج عقلي

استمر لحود يتصرّف وفق عقلية متشنجة تتعامل مع القضايا الكبرى تحت وطأة أسلوب الصغائر الذي لا يقرأ الكليات ويغرق في الجزئيات. مثلا في القمّة العربية التي انعقدت في بيروت في العام 2002 بعد هجمات سبتمبر/ أيلول 2001، تعامل لحود مع رئيس السلطة الفلسطينية ياسرعرفات المحاصر من قوات ارييل شارون في رام الله بطريقة فجّة عكست تلك الضغائن المتراكمة من فترات الاقتتال الأهلي في لبنان.

لم يتصرف لحود على مستوى رجل دولة شهدت فترته أكبر انتصارعربي يسجّل على احتلال إسرائيلي وإنما تحرّك وفق عقلية رجل عسكري يكره عرفات شخصيا. فالرئيس آنذاك عطل إرسال كلمة عرفات على الشاشة التي نصبت في قاعة المؤتمر ومنع ظهور صورة الرئيس الفلسطيني المحاصر في مقره... واستمر في تعطيل الإرسال بذرائع تقنية مختلفة من دون تقدير منه أنّ ظروف المرحلة اختلفت. فالاقتتال الأهلي توقف بعد التوقيع على «اتفاق الطائف»، وعرفات خرج من بيروت ولن يعود إليها، والاحتلال انسحب وتعطل القرار 425، وهجمات سبتمبر وقعت وإدارة جورج بوش تهدد باجتياح العراق وتحطيم السلطة الفلسطينية في عقر دارها. والأهم من ذلك أنّ باراك سقط في الانتخابات وجاء شارون على رأس حكومة متطرفة ترفض اتفاقات أوسلو وتدين الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان وتطالب بالانتقام والثأرمن عرفات في فلسطين وحزب الله في الجنوب.

كلّ هذه المتغيرات لم يلتقطها لحود في ذاك المؤتمر العربي الذي عقد في بيروت برئاسته وأصرّ على سلوكه العبثي الذي يعكس شخصية تتعامل بكراهية مع أمور مضت.

التصرّفات الطفولية التي أقدم عليها لحود في قمّة بيروت في تعامله مع رمزعربي كشفت عن عقلية ليست على سوية حوادث كبيرة بدأت تطرق بقبضاتها على أبواب المنطقة من أفغانستان إلى فلسطين. ومثل هذه العقلية لا يعوّل عليها ولا يمكن الاعتماد على مسلكياتها لتأسيس دولة متوازنة في رؤيتها للوقائع والتحوّلات. وهذا النوع من الشخصيات يصعب قراءة تشنجاتها وردود فعلها إلاّ في الحالات الخاصة والاستثنائية.

سابقا وصف عميد«الكتلة الوطنية» الراحل ريمون أده الرئيس لحود بأنه يتميّز بنصف لسان ونصف عقل. فالعميد الخبير في الشئون اللبنانية اكتشف شخصية لحود باكرا وحدد ثغراتها وسلبياتها استنادا إلى قراءة دقيقة لتصرفاته ومسلكياته.

إلا أنّ توصيف العميد لم يكن كافيا لقرع جرس الإنذار وتحذيرالقوى من احتمالات قد تطرأ على البلد في حال قرر المجلس النيابي مخالفة الدستور وتمديد العهد نصف ولاية.

جرى التمديد في ظروف دولية وإقليمية ومحلية استثنائية. دوليا كانت الولايات المتحدة احتلت العراق في 2003 وأخذت تهدد بتغيير خرائط المنطقة السياسية ونشرالفوضى في محيط بلاد الرافدين. وإقليميا كان الانقسام العربي قد وصل إلى درجات عليا من عدم الانسجام في وقت كانت قوات شارون أعادت احتلال الضفة الغربية وقطاع غزّة وأخذت تهدد مقرعرفات الرئيسي بالاقتحام. ومحليا حصلت اصطفافات سياسية خلطت الأوراق وأعادت ترتيب التحالفات في إطار شعبي أسس توازنات متخالفة مع فضاءات العام 2000.

كلّ هذا لم ينفع في توجيه رسالة تنبيه لرئيس قرر التمديد ثلاث سنوات حتى لو أدّى الأمر إلى خراب لبنان ودماره بذريعة مخالفة الدستور. فالرئيس لحود عاند الوقائع واستمر في جرجرة البلاد إلى مغامرة غير محسوبة بررت صدور قرار كارثي عن مجلس الأمن حمل الرقم 1559.

القرار المذكور أعاد كشف الساحة اللبنانية وسلّط عليها مجموعة بنود تقع كلّها في خانة المخطط الأميركي. ولحود عن إدراك منه أو من دون وعي شكّل ذريعة لانزال ضربات موجعة ضد هذا البلد الصغير من دون تمييز بين خصومه أو أنصاره. والطرف الذي يدّعي الدفاع عنه تعرض لخسائر مؤذية أكثر من خصومه.

خرج أمس الأوّل لحود من القصر الجمهوري بهدوء واحترام. وجاءت العقلانية المدهشة متأخرة ثلاث سنوات عن موعدها. الآنَ على لبنان أنْ يدفع ما تبقى من فاتورة لاتزال واردة على لائحة المخطط الأميركي. فالمخطط نجح في تمرير وتنفيذ ثلاثة أرباع اللائحة بذريعة وجود رئيس مخالف للدستورفي بعبدا، والآنَ خرجت الذريعة من القصر بعد أنْ نجحت في تغطية خراب لبنان حجرا وبشرا... وبقي القصر فارغا من الذريعة. وربما «الفراغ الهادئ» كما قال السفير الأميركي يشكل ذريعة أخرى للاستمرار في تنفيذ ما تبقى من مخطط بعضه منتظر وبعضه غير متوقع.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1906 - السبت 24 نوفمبر 2007م الموافق 14 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً