العدد 1910 - الأربعاء 28 نوفمبر 2007م الموافق 18 ذي القعدة 1428هـ

حين يزوّر كاتب طموح مذكرات رجل حيّ

«HOAX» يتحدث عن عملية خداع جرت في السبعينات

في تسعينات القرن الماضي أعلنت مجلة «دير شبيغل» الألمانية أنها ستبدأ نشر مذكرات الزعيم النازي أدولف هتلر على حلقات أسبوعية. أحدث الخبر هزة سياسية وشغل بال الباحثين واهتمام المؤرخين. فالمذكرات التي أعلن اكتشافها شكّلت مناسبة لإثارة قضايا خفية لا تعرف تفصيلاتها. ومذكرات هتلر اعتبرت خطوة نحو اكتشاف الكثير من مجهولات التاريخ وخصوصا الحرب العالمية الثانية يكتبها الطرف المسئول عن إشعالها.

نشرت «ديرشبيغل» الحلقة الأولى فالثانية ثم الثالثة لتكتشف أنها وقعت ضحية خدعة قام بتلفيقها أحد كبار المزوّرين. فالكتاب كذبة، والمذكرات ليست سوى تجميع معلومات أرشيفية من هنا وهناك أعيد صوغها بأسلوب هتلري وضمن أفكار الزعيم النازي وتوجيهاته وقام بكتابتها مزوّر خطوط مشهور في أيامه.

اضطرت «ديرشبيغل» إلى وقف نشر الحلقات والاعتذار إلى القراء بعد أن اكتشف الخبراءُ أن المعلومات الواردة ليست دقيقة ولا تتطابق مع وثائقَ معروفة ومنشورة عن الزعيم الألماني.

فضيحة تزوير «مذكرات هتلر» اعتبرت الأخطر وأدت إلى بهدلة صدقية أهم مجلة ألمانية، إلا أن تلك الفضيحة ليست الوحيدة في عالم التزوير. ففي الواقع هناك حقول مختلفة في هذا المضمار. بعض الشركات تقلد صناعات غيرها (ساعات شهيرة، اسطوانات، فيديوهات، وملابس، وهواتف) والبعض يحترف سرقة التقنيات ومضاربة المنتوجات الأصلية وكسر سعرها في السوق. إلا أن السرقات الأخطر والأهم هي تلك اللوحات الفنية التي تتعرض للاستنساخ والتقليد وتباع بأسعار مرتفعة باعتبار أن المزور نجح في مطابقة الأصل تقريبا. وهذا النوع من التزوير يعتبر الأكثر كلفة؛ لأنه يورط احيانا الأغنياء بأعمال لا قيمة فنية لها.

فيلم «الخديعة» (HOAX) - الذي يعرض حاليا في سينما الدانة - يتحدث عن عملية تزوير أو خداع شهدتها الولايات المتحدة في العام 1971 وتعتبر الأوقح أو الأظرف في التاريخ؛ لأن المؤلف مشهور وادعى أنه حصل على مذكرات الملياردير الأميركي هوارد هيوز. والغريب في الموضوع أن الكاتب استطاع إقناع مجلة «لايف» الأسبوعية والأكثر شهرة في زمنها أن هيوز وافق على اعطاء مذكراته حصريا له. والطريف ان المزوّر لم يدعِ اكتشاف مذكرات شخصية راحلة وإنما ادعى الحصول على تكليف من شخصية حية. وهذه النقطة تعتبر الأدهى في كل عمليات الاحتيال وأعقد بكثير من «مذكرات هتلر».

سيناريو الفيلم يتحدث عن كاتب في الأربعينات (ريتشارد غير) من عمره فشل مرارا في إقناع دور النشر بطباعة رواياته أو الترويج لها لأسباب مختلفة منها الهيئات المكلفة بالتحكيم كانت تنقسم وتتردد في الطباعة والنشر. وأحس الكاتب الطموح أنه ضحية مؤامرة وأن هناك جهات تعطل إمكانات تطوره وتقطع عليه طريق الشهرة والوصول إلى مبتغاه.

ونتيجة اليأس الناجم من صدمات متتالية قرر الدخول في مغامرة لم يحسب مخاطرها جيدا. وهكذا قرر مصادفة الادعاء أنه حصل على تكليف خطي من هوارد هيوز بكتابة مذكراته. والمصادفة جاءت بعد اطلاعه على رسائل لهيوز نشرتها مجلة بخط يده. وقام المؤلف الطموح بتقليد خطه وكتابة رسالة تكلفه بتسجيل المذكرات.

هيئة تحرير مجلة «لايف» لم تصدق الحكاية؛ لأنها حاولت مرارا الاتصال بهيوز لأخذ تصريح أو مقابلة منه ورفض. فهذا الملياردير الشهير مغرور ومعقد ومتهم بأنه يعاني من مشكلات صحية وأمراض نفسية وكآبة فرضت عليه الانعزال وعدم الاتصال بأقرب الناس إليه.

إلا أن الكاتب الطموح نجح من طريق الكذب والاحتيال في خداع هيئة المجلة وإقناعها بأنه فعلا على اتصال مباشر ويومي مع هيوز، وأن الرجل الملياردير وضع شرطا عليه هو المحافظة على السرية وعدم كشف المعلومات حتى لا تمنع من النشر.

صدقت هيئة تحرير «لايف» الكذبة بعد أن عرضت الرسالة الخطية على خبراء لكشف الخطوط، كذلك قدمت عينة من المذكرات لأقرب الناس من هيوز وأكد هؤلاء من مرافقين أو مستشارين سابقين للملياردير أن المعلومات التي وردت في الأوراق دقيقة وصحيحة ولا يعرفها إلا تلك الحلقات الصغيرة والضيقة التي كانت على علاقات معه.

وبدأت اللعبة تدور. فالمجلة دفعت للكاتب مليون دولار مقابل احتكار نشر المذكرات وطباعتها. والمبلغ في تلك الأيام كان يعتبر ثروة ولا يستطيع اي كاتب الحصول عليه. ولكن «لايف» اعتبرت أنها حصلت على ضربة صحافية لا مثيل لها في عصرها؛ بسبب نجاحها في الوصول إلى تفكيك لغز هذا الملياردير الصامت.

حوادثُ كثيرة يتطرق إليها سيناريو الشريط السينمائي الذي يغطي مرحلة غامضة، وفي الآن تقع في السبعينات في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون. فتلك الفترة كانت تشهد مشاحنات ومظاهرات بسبب حرب فيتنام، وفي الآن كانت لوبيات شركات الطيران تتنافس على كسب العروض والصفقات ومن بينها شركة هوارد هيوز التي لعبت دورها في تطوير علم الطيران الأميركي، وفي الآن لم تتردد في تقديم الرشاوى لتمرير العقود منها رشوة قدمها هيوز إلى شقيق نيكسون في خمسينات القرن الماضي.

هذه النقطة الخطيرة استخدمها المخرج بذكاء لتوضيح تلك الملابسات التي رافقت عملية التزوير وتمرير الخدعة.

الكاتب من جهة حين نال الترخيص من المجلة للبدء في العمل على مذكرات هيوز أخذ بالاتصال بأصدقاء الملياردير القدامى وعقد مقابلات معهم بذريعة أنه يؤلف كتابا عن «تاريخ الطيران». وبما أن هيوز هو الطرف الأهم في هذا التاريخ بدأ الكاتب المزوّر يجمع المعلومات من هنا وهناك عنه حتى حصل على صندوق أرسل إليه وفيه الكثير من الوثائق عن تجربة هيوز وعلاقاته.

آنذاك كان الملياردير يتعرض لحملة في الكونغرس ومحاكمة ودعاوى من شركات طيران منافسة تتهمه بالرشاوى وتطالبه بدفع تعويضات تصل إلى 137 مليون دولار. وهذا المبلغ الضخم في حال دفع فسيؤدي إلى إفلاس هيوز وشركاته.

الملياردير آنذاك كان يبلغ سن السبعين من عمره وأصبح في حال من الانزواء والوحدة. ولكنه أيضا أحس بأنه يتعرض للابتزاز وربما الإفلاس وتشويه السمعة. وهكذا بدأت خيوط اللعبة تتشابك. هيوز لا يعرف الكاتب الطموح ولكنه سمع أنه ادعى برسالة التكليف. والكاتب المزوّر تورط في مشكلة ولكنه أصر على متابعة الكذبة مهما كلف الأمر.

طاقم الملياردير كان يواجه مشكلة الدعوى ويريد التخلص من أعراضها وكلفها العالية التي قد تؤدي إلى افلاس الشركة. وهكذا تقاطعت المصالح. فالملياردير لم يلتقِ الكاتب في حياته ولكنه أوعز لطاقمه بتمرير وثائق ومعلومات منها تلك الرشوة التي قدمها إلى شقيق الرئيس نيكسون. فالوثيقة تهدد الرئيس وتهدم صدقيته وربما تفك إدارته وتسقطه أرضا.

الكاتب الطموح استمر في لعبة الخداع والتزوير وهو لا يعرف أنه ضحية خداع من نوع آخر. كذلك مجلة «لايف» لا تعرف أيضا أنها دفعت مليون دولار ثمنا لأكاذيبَ ملفقة. الكل يخدع والكل مخدوع ما عدا هيوز الذي لا يظهر على الشاشة.

أخيرا صدر الكتاب (الكذبة) وأحدث ضجة وخاف نيكسون من فضيحة شقيقه. واضطر «البيت الأبيض» إلى عقد صفقة سرية مع هيوز وتقوم على المعادلة الآتية:

أن يقبل الملياردير عقد مقابلة على الهاتف مع محطة تلفزيونية يكذِّب فيها المذكرات ويؤكد أنها مزوّرة ومتخيلة ولا أساس لها من الصحة وأنه لا يعرف الكاتب ولم يكلفه ولم يلتقه أبدا.

مقابل هذا تسحب الدعاوى من شركات الطيران المنافسة وتشطب الديون ويعفى هيوز من دفع مبلغ 137 مليونا.

تقاطع المصالح بين السلطة والثروة قطع رأس الكاتب المزوّر. فتكتشف «لايف» أنها وقعت ضحية خدعة كبرى فتسحب الكتاب (المذكرات) من الأسواق وتتلفها وتحرقها وترفع دعوى ضد الكاتب لاسترداد المبلغ (مليون دولار) وتعويض سمعتها. وهكذا تنتهي قصة الخداع بدخول الكاتب الطموح السجن مدة ثلاث سنوات، على حين هيوز ينقذ سمعته ويرحل عن الدنيا بعد فترة. أما نيكسون الذي غامر بعقد صفقة تنقذ سمعته من الهبوط فتورط في فضيحة التجسس في «ووترغيت» وأدت المسألة إلى اضطراره للاستقالة والخروج مكسور الرأس من موقع الرئاسة.

فضيحة التزوير هذه تعتبر الأهم ليس لأنها ظريفة وذات طابع سياسي فقط وإنما لأن وقائعها جرت في وقت كان صاحب المذكرات لايزال على قيد الحياة... ومع ذلك انطلت الحيلة على «لايف» ودفعت ثمنها غاليا من سمعتها وصدقيتها.

العدد 1910 - الأربعاء 28 نوفمبر 2007م الموافق 18 ذي القعدة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً