العدد 1923 - الثلثاء 11 ديسمبر 2007م الموافق 01 ذي الحجة 1428هـ

دور «العمامة» في حماية الدين وتأصيل التحديث

الإصلاح العربي بين السياسة والعبادة

في 3 مارس/ آذار 1924 أعلن رئيس الجمهورية التركية ومؤسسها كمال مصطفى أتاتورك إلغاء الخلافة العثمانية (الإسلامية) في خطوة متوقعة ولكنها وقعت على الجمهور العربي/ الإسلامي كالصاعقة.

خطوة اتاتورك جاءت في سياق تحولات تاريخية فرضتها مجموعة متغيرات دولية وإقليمية تراكمت منذ هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى وتراجعها إلى داخل حدودها الجغرافية تاركة بلاد الشام والقدس تتساقط تحت ضربات قوات التحالف البريطانية - الفرنسية.

قبل سنة كان اتاتورك أعلن إلغاء السلطنة العثمانية وقيام الجمهورية في 29 أكتوبر/ تشرين الأول 1923. وجاء الإعلان الأول ليؤسس خطوة الفصل بين الديني والسياسي في الإعلان الثاني.

عملية الفصل بين الدين والدولة أثارت ردود فعل غاضبة وشكّلت مناسبة لظهور كتابات ووجهات نظر اجتهدت في تصويب الخطوة وإعادة قراءة عناصرها السلبية ومدى تأثيرها على ثقافة تشكلت تاريخيا في فضاء حضاري توازنت فيه العقيدة وتشريعاتها بالسياسة وأنظمتها.

احتجاجات كثيرة صدرت في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي وكلها حاولت البحث عن مخرج نظري يعيد انتاج هيئة تمتلك صلاحيات تساعدها على تجسير الهوة بين ضفتي الدين والسياسة. فصدرت في هذا الشأن مجلات ودوريات ومقالات تطالب بإعادة الخلافة للعرب بعد ان تخلى عنها الأتراك. وتداعت شخصيات ورموز سياسية ودينية من مختلف الديار الإسلامية تطالب بإعادة إحياء الخلافة وتعويمها خوفا على المسلمين من التمزق والضياع في متاهات ايديولوجية لا تعرف هويتها ويمكن أن يؤدي الأخذ بها إلى تفكيك وحدة المسلمين وتضامنهم دفاعا عن وجودهم ومصيرهم.

لم تلقَ تلك التحركات والدعوات الغاضبة المنفعلة التجاوب المطلوب من «أولياء الأمر» وأصحاب السلطة ورجال الاعيان. فالتجاوب كان شكليا واقتصر على الاحتجاج الذي يكتفي بتفهم الانفعال ولا يذهب باتجاه التعامل معه بأسلوب يعيد الاتصال بين شارع يطمح للمحافظة على الإرث وسلطات تبحث عن وسائل للحكم.

آنذاك لم تكن المنطقة العربية (والعالم الإسلامي أيضا) في وضع يسمح لها بإعادة ترتيب هيكلها السياسي وضبطه من الانفلات والتشرذم. فالمنطقة كانت ممزقة أو محتلة أو تعاني من ضياع سياسي وغياب الهوية. وبسبب ذاك التعارض بين الديني والدنيوي ظهرت كتابات عربية مضادة تطالب بفصل الدين عن الدولة أو منع رجال الدين من التدخل في السياسة انطلاقا من نزعات علمانية قومية أو ليبرالية إلحادية وأحيانا إسلامية ترى ان الدين لا ينص على قيام دولة.

هذه الاعتراضات ولدت نقاشات حامية أسست منذ تلك الفترة قواعد اختلاف في رؤية التقدم والانفتاح على الغرب والاستفادة من علومه. وتشكلت من ضمن تلك الرؤى الأحزاب والحركات والتنظيمات والاندية التي حاولت تأسيس منهجيات فكرية أو برامج تقترح خطوات معينة للخروج من مأزق التخلف والدخول في سباق مع الزمن لبلوغ الرقي والتمدن.

في ظل هذا التنافر الثقافي تشكلت تيارات إسلامية وقومية وعلمانية انقسمت بدورها على خطوط متوازية. التيار الإسلامي مثلا توزع بين فريق طالب بالاحياء وفريق طالب بالإصلاح. والتيار القومي تشتت بين فريق يطالب بالوحدة العربية وفريق ارتد إلى الماضي وابتكر «قوميات» كيانية تتصل بحضارات وثقافات مرت على المنطقة قبل الفتوحات العربية الإسلامية. والتيار العلماني اقتصر نشاطه على نخبة متغربة حاولت المزج بين النماذج الأوروبية وحالات اجتماعية تفتقد أرضية ثقافية قادرة على استيعاب الوافد إلى المنطقة من ترجمات ونظريات وفلسفات.

هذا الكم من التفكير المنفعل يمكن مراجعة اصوله النظرية والعملية في الكتابات التي صدرت بين نهاية الحرب العالمية الأولى ونهاية الحرب العالمية الثانية. فخلال تلك الفترة التي امتدت ثلاثة عقود من الزمن ظهرت خطوط تماس ايديولوجية بين تيار راهن على الغرب (أوروبا) معتبرا ان دول الانتداب ليست استعمارية وإنما تشكل قوة انتقالية لابد من الاعتماد عليها والتعاون معها للخروج من المأزق الحضاري. وتيار تعامل مع الغرب بسلبية باعتبار ان الدول الأوروبية تريد السيطرة ولا تطمح إلى تطوير وتحديث المنطقة. وأدت سياسات الغرب الميدانية وما افتعلته دول الانتداب من قرارات وخطوات ساهمت في تكريس التجزئة والتقسيم و «التهويد» في توليد قناعات عززت وجهة نظر التيار الإسلامي (العروبي ايضا) التي تشكك في نوايا أوروبا.

التيار الإسلامي/ العروبي الذي حافظ على مواقعه القوية شعبيا كان يعاني بدوره من ضغطين: الأول، الاختلاف بين التيار الاحيائي الذي يريد العودة إلى الأصول الأولى للتواصل مع التاريخ تمهيدا لتجديد البيعة والتيار الإصلاحي الذي يريد رفد الموروث بالجديد لاعادة انهاض الامة ودفعها نحو السباق مع الغرب باتجاه التقدم. والضغط الثاني، التجاذب بين السلطة والشارع أو بين الدولة (النخبة) والمجتمع (الإسلام).

إعادة إنتاج الصورة

حتى الآنَ لايزال المشهد يتكرر ويعيد إنتاج تلك الصور التي ظهرت على المساحة العربية/ الإسلامية منذ ان تلقت السلطنة العثمانية تلك الصدمة العسكرية حين نجح التحالف الالماني (البروسي) - النمسوي في فك الحصار عن فيينا في العام 1683.

كل المؤرخين الأوروبيين ينطلقون من ذاك الحدث للإشارة إلى نقطة بدء نهوض أوروبا المعاصرة ونجاحها في التفوق على الإسلام المتمثل آنذاك في السلطنة العثمانية. فبعد تلك المعركة ستبدأ شمس المسلمين بالغروب عن الغرب لمصلحة نمو قوة أوروبا واندفاعها الميداني باتجاه الشرق وصولا إلى اسقاط الخلافة في العام 1924.

هذا التحديد الزمني ليس دقيقا لأن نهضة أوروبا بدأت في القرن الخامس عشر وتطورات ميدانيا وعمرانيا ومعرفيا إلى أن نجحت في انزال ضربة عسكرية في نهايات القرن السابع عشر بدءا من فيينا.

معركة فيينا طرحت بقوّة تلك الأسئلة الكبيرة: لماذا حصل ما حصل؟ وكيف يمكن تجاوز المحنة؟ وما الوسائل التي يجب اعتمادها لتحقيق نهضة تعيد انتاج عناصر القوة؟

هذه الأسئلة تولدت عن هزيمة عسكرية موضعية، إلا انها كانت قوية إلى درجة اطلقت موجات من الاجوبة حاولت الرد على أسباب الضعف الذي ظهر ميدانيا على خطوط التماس الحربية. الموجات لم تكن موحدة وبعضها تحول إلى هزات ارتدادية طالبت بإعادة النظر في الهيكلية التراتبية التي كان يعتمدها السلاطين في تنظيم شئون الدولة. فالهيئة التي كانت تظهر بها السلطنة على الرعية شكلت نقطة نقاش للمراجعة وأخذت المناظرات تذهب باتجاه إعادة النظر في سلطة القرار ومراكز القوى ودور شيخ الإسلام (المفتي) في صوغ الفتاوى وتأثيرها المعنوي على «فرامانات» السلطان.

إلى ذلك، بدأ التفكير في إعادة هيكلة الجيش بصفته تلك القوة التي تتحمل مسئولية الدفاع عن السلطة. وأدى هذا التحول في الرؤية إلى تأسيس منطلقات تجاور القوى التقليدية من دون أن تقدم على تجاوزها. فأخذت رويدا تتشكل مع الأيام قوى نظامية حديثة، ومراجع، ومؤسسات، ومواقع تعزز السلطة السياسية وتنزع عن الهيئات التقليدية صلاحيات القرار والتقرير.

منذ تلك السنوات ظهرت اشارات وعلامات وألوان ونياشين وصفات خاصة بالسلطان وبعيدة عن الموروث التقليدي الذي اعتمدته السلطنة العثمانية في تاريخها الطويل، وهذا الأمر أدى إلى ظهور نوع من الازدواجية بين سلطة الدولة وسلطة الدين. فالدولة اتجهت نحو تحديث رموزها للتمايز عن الدين متأثرة بحدود نسبية بتلك الموجات التي اخذت تقذفها أوروبا في وجه السلطنة.

شكلت العمامة آنذاك زواية ثقافية في تحدي السلطة لموقع رجل الدين. فالعمامة هي رمز يتمتع بشرعية تاريخية تكتسب الاحترام من العامّة لكونها تشكل تلك القوة التقليدية التي تؤهل صاحبها لترسيم حدود الحلال والحرام. وبسبب قوة العمامة الرمزية أخذ السلطان يبحث عن رمز مضاد ينافس تلك الصورة التقليدية التي تتمتع بصفات معنوية تعطيها ميزة التفوق الثقافي الشعبي المتوارث على كل الصور والاشكال والهيئات.

البحث عن معادل للعمامة جعل السلطان يذهب باتجاه ابتكار أو استيراد أشكال «حديثة» تعطي تلك الصفة الرمزية لسلطة موازية. فكانت فكرة ارتداء «الطربوش». فالطربوش بدأ يكتسب شهرته بعد أن اعتمده السلطان ذاك الرداء الرأسي للدلالة على قوة منافسة تأخذ رمزيتها من صلاحيات الدولة. وإذا كانت العمامة ترمز إلى رجل الدين بصفته تلك القوة التي تتجمع في سياقها عوامل العلم والمعرفة والاجتهاد فإن الطربوش اخذ يرمز إلى رجل الدولة (الافندي) الذي تجتمع في هيئته عوامل السلطة والمال والتخطيط.

استمر الطربوش يلعب دوره الزمني في تأسيس سلطة موازية إلى أن تطور الأمر إلى اصطدام بين السلطان سليم الثالث والقوى التقليدية تمثلت في ذاك الصراع الذي نشب بين الجيش الحديث وقوات الانكشارية التقليدية. وأدّت المواجهة السياسة العلنية تلك إلى فشل السلطان وهزيمته في العام 1808.

جاء خلفه السلطان محمود الثاني ليواصل مهمة تعزيز التوازي بين الطربوش والعمامة في وقت كان الباشا محمد علي في مصر يواصل تعزيز سلطته تمهيدا للانقلاب على المماليك ومصادرة السلطة وانتزاعها في خطوات متلاحقة من شيوخ الأزهر.

التضاد بين الطربوش والعمامة لم يكن يعني بدء التناقض بين الدولة والدين وإنما محاولة لتجديد المصالحة وتوزيع الادوار بالتوازي بين السلطتين. فالباشا في مصر صادر قوة الأزهر، ولكنه اعتمد على العمامة (الشيوخ) لتأصيل نزعة التحديث وتبرير فوائدها على العامة. وفي الباب العالي لجأ السلطان محمود الثاني إلى المصالحة ولكنه اضطر إلى الانقلاب عليها مستخدما الجيش الحديث للانقضاض على الانكشارية في العام 1826.

إبعاد الانكشارية (القوات التقليدية) عن واجهة السلطة أدى إلى تعزيز قوة السلطان العثماني وترسيخ هيبة الطربوش في موازاة العمامة. واستمر هذا التجاذب يأخذ ابعاده الثقافية وبدأ الطربوش يظهر في ساحات الصراع السياسي حين ارتداه رجال الاعيان والافندية والاساتذة والتجار وتلك النخبة التي كانت تعمل في إدارات الدولة. فالطربوش كان يرمز إلى «الحداثة» وتلك السلطة النامية كقوة ضغط اجتماعية على قوة رمزية تمثلت في العمامة.

تأرجح التوازن بين القوتين استمر إلى عهد السطان عبدالحميد الثاني (آخر السلاطين العثمانيين). فهذا الرجل بدأ حداثيا وانتهى تقليديا. فهو اتخذ في عهده خطوات إصلاحية وتربوية ودستورية اطلقت موجة من التقدم العمراني والمعرفي. ولكنه اضطر إلى إعادة النظر فيها حين اكتشف ان دول الغرب اخذت تستفيد منها وتستخدمها ثغرات سياسية لتفكيك الدولة والانقلاب على السلطنة.

تراجع السلطان عبدالحميد عن خطواته الدستورية ولد ردة فعل لم تقتصر على رجال الدولة (الافندية وأصحاب الطرابيش) وإنما امتدت ايضا إلى رجال الدين (أصحاب العمامة) حين انطلقت من جهاتهم بدايات دعوات للإصلاح تربط الدين بالتمدن وكان من ابرز رجالها عبد الرحمن الكواكبي وغيره من أعلام ورموز. وساهم دخول رجال الدين في عملية التغيير في تكسير اشكال الصورة النمطية وإعادة انتاج نموذج جديد في سياسة التمدن والإصلاح.

الكواكبي وخط الإصلاح

حركة الإصلاح والتحديث والتمدين التي قادها رجال الدين بالتضاد مع السلطة (الطربوش) حافظت على موقع العمامة ورمزيتها في تكثيف قدرة الإسلام على اختراق المراحل وعبور الزمن من محطة إلى أخرى. وشكلت حركة الكواكبي الذي توفي في حادث غامض العام 1902 خطوة مهمة في إعادة ترسيم حدود العلاقة بين السياسة والعبادة وساهمت في توليد انشطة متفاوتة في رؤيتها للسلطة والتعامل معها. وترافق نشاط الكواكبي الاصلاحي مع اتصالات وجهود سبق وقام بها جمال الدين الأفغاني (توفي 1897) على مستويات مختلفة تحت سقف تجديد الدعوة لإعادة إحياء مشروع الخلافة الإسلامية. فالأفغاني آنذاك ساهم مع الشيخ محمد عبده وتعاون معه على إصدار مجلة «العروة الوثقى» في باريس العام 1884.

في تلك الفترة بدأت تظهر على الشاشة السياسية اتجاهات غير متوافقة بين تيار يغلب مشروع الوحدة الإسلامية على الإصلاح وتيار يغلب البرامج الإصلاحية (الدستور) على فكرة الوحدة الإسلامية. وبين التيارين التوحيدي والإصلاحي تأسست وجهات نظر تجمع بين نزعة التحديث والخوف على الدولة من الانهيار( كتابات شكيب أرسلان مثلا).

كلّ هذه الاتجاهات المتنوعة في غاياتها لعبت دورها في إعادة تشكيل الحياة السياسية وارفقتها بمجموعة أنماط من السلوكيات الاجتماعية وما تقتضيه الثقافة المتبعة من مظاهر تعكس التوجهات. فالسلطة التي لجأت إلى «الطربوش» للتمايز عن العمامة تعرضت بدورها إلى انقسامات خلطت التيارات ووزعتها اتجاهات تداخل فيها الديني مع المدني. والقوى الحداثية التي دعت إلى تقليد الغرب واستنساخ نماذجه اصطدمت بالواقع وتفككت إلى مدارس بعضها يريد التحديث من دون التفريط بالدولة وبعضها يريد إعادة النظر بمفهوم الدولة وإدخال تعديلات على هيكلها التنظيمي وعلاقاتها مع الولايات العربية. وبسبب اختلاط التوجهات تداخلت وظيفة العمامة الدينية بحاجة السلطة العثمانية إليها مقابل انحياز شريحة من الأعيان (الأفندية) إلى الدولة من دون التخلي عن مطلب الإصلاح الدستوري. وساهم هذا التداخل في انتاج حاجة سياسية إلى البحث عن رمزية جديدة بعيدة عن العمامة (رجل الدين) والطربوش (رجل الدولة). آنذاك وصل التجاذب إلى حده الاقصى ولم تكد السلطنة العثمانية تدخل العقد الأول من القرن العشرين حتى تعرضت إلى هزات عسكرية واجتماعية شجعت حزب «الاتحاد والترقي» العلماني القومي على ترتيب انقلاب ضد السلطان وعزله عن موقع القرار في العام 1908 بذريعة رفضه العمل بالدستور.

انقلاب «الاتحاد والترقي» أثار عاصفة من الترحيب والغضب في آن. فالفريق المؤيد اعتبر أن الخطوة تفتح الطريق للعودة إلى الدستور. والفريق المعارض وجد فيها خطوة نحو المجهول وربما تؤدي إلى اضعاف الدولة وانهيارها وإثارة قلاقل قومية ومخاوف سياسية من الولايات العربية.

في هذه الفترة ظهرت على خط المنافسة الملابس العسكرية والشارات والنياشين التي ترمز إلى وجود قوة جديدة نامية وسط خضم التنازع بين الديني والسياسي. وشكلت هذه الفترة مرحلة انتقالية بين سلطة عثمانية لا يحكمها سلطان وجمهورية قومية علمانية أخذت تشق طريقها باستقلال عن «العمامة» و «الطربوش» وصولا إلى اعلان كمال أتاتورك إلغاء السلطنة والخلافة معا.

أتاتورك اعتمد القبعة (البرنيطة) رمزا لدولته وباتت «الحداثة» في مظهرها الخارجي تتمثل في ارتداء القبعة للتمايز عما تعنيه العمامة والطربوش من رمزية تعكس مرحلة سابقة.

معركة الأزياء لم تكن شكلية بقدر ما كانت تدل على ثقافة أو نزعة سياسية. لذلك اتجهت الكثير من القوى الحداثية إلى تقليد أتاتورك وارتداء القبعة للاشارة إلى مواقفها السياسية المؤيّدة لاتجاهات العلمنة وعزل الدين عن الدولة ومنع ارتداء الحجاب، بينما حافظت القوى التقليدية على الموروث العثماني وأصرت على ارتداء الطربوش كإشارة سياسية إلى رفض خطوات جمعية الاتحاد والترقي.

حافظت العمامة على موقعها الخاص ودورها التاريخي في عملية التجاذب بين «الطربوش» و «القبعة»، وأعادت الاعتبار لرمزية حاولت السلطة احتواء تأثيراتها. فقبل تلك المرحلة كانت القوى الدينية في شقيها الإصلاحي والاحيائي انتهت من فترة إعادة تثبيت موقع رجل الدين في قيادة الفكر الإصلاحي إلى جانب العمل على التفكير في وسائل مرنة لإحياء مسألة الخلافة وما تتطلبه من شروط تنظيمية. وقاد تلك المرحلة بعد غياب الأفغاني عن صورة المشهد السياسي الشيخ محمد عبده (توفي 1905) وبعده الشيخ محمد رشيد رضا (توفي 1935) وصولا إلى حسن البنا (اغتيل سنة 1949) الذي أسس حركة إسلامية في العام 1928 أخذت تنافس القوى الحزبية في قيادة الشارع وتكسر احتكار رجال السلطة في برمجة الرؤية الجديدة للدولة.

في تلك الفترة كان حزب الوفد المصري (تأسس في العام 1918) يقود حركة التغيير إلى جانب الحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل في العام 1907. وجاءت الحركة الإسلامية لاحقا لتدخل في سياق التنافس الحزبي الذي جمع بين الموروث التقليدي والاطار التنظيمي الحديث. وخطوة البنا لم تكن طلقة في الهواء بقدر ما هي رد على قرار أتاتورك إلغاء الخلافة ونتاج تحولات ثقافية انتجتها منظومة أفكار إصلاحية وإحيائية أطلقها الشيخان: عبده ورضا.

تعتبر خطوة البنا محاولة جديدة في اطار حركة الاحياء والتجديد لذلك اسست فترة تميزت بالابتعاد الثقافي عن تلك المجموعات السياسية التي حاولت الربط أوالقطع بين الدولة والمجتمع. فالشارع كان بحاجة إلى حركة مختلفة تبتعد عن تلك الرموز التي حاولت أخذ دور العمامة في عملية التغيير. آنذاك كانت الانقسامات حادة بين قوى تقليدية ترتدي الطربوش وقوى حداثية تضع على رأسها القبعة (البرنيطة) وتطالب النساء بخلع الحجاب وقوى ضائعة بين الطرفين وقوى اخرى لجأت إلى الجمع بين البدلة الأوروبية (ربطة العنق) والطربوش أو ربطة العنق والقبعة. ومن يراجع الآن صور القوى السياسية في تلك الفترة يلاحظ بسرعة تلك المظاهر الخارجية التي كانت تشير إلى رمزية أكثر من كونها مجرد تعبير عن أشكال في الملابس. فالاختيار كانت له دلالته الثقافية، إذ أدى دخول الدولة في نفق مظلم إلى ضياع هوية النخبة وتوزعها على قيم حائرة في سلوكها الاجتماعي وانضباطها الأخلاقي.

بدأت القصة في مطالع فصولها ضد العمامة وانتهت في خواتم فصولها لمصلحة العمامة. فكلّ تلك الأزياء والأشكال والإشارات والرموز كانت غير أصلية ولم تنجح في تأصيل مواقعها فأخذت تتلاشى وتضمحل واحدة بعد الأخرى إلى أنْ اختفت تقريبا عن الشاشة السياسية. فالطربوش اختفى ولم يعد يثير تلك الإشكاليات، كذلك القبعة لم تعد تثير ذاك الاهتمام الرمزي، كذلك كل محاولات الجمع بين نصف تقليدي ونصف حداثي.

الإسلام بدوره كان قد قطع شوطا في السباق وبدأ يتدخل عمليا في معركة التحديث وتحوّل في الكثير من المناطق إلى حركة سياسية تقود الجهاد ضد الاستعمار(عمر المختار في ليبيا وعبد الكريم الخطابي في المغرب) وصولا إلى نهوض حركات الإسلام السياسي في سبعينات وثمانينات وتسعينات القرن الماضي في مختلف المناطق العربية التي قادت لاحقا الاحتجاجات ضد محاولات السلطات تجاوز الدين أو الحريات العامّة. فالجمع بين الإصلاح (التحديث) والإحياء (تأصيل الموروث وإعادة انتاجه) شكل ذاك الرابط القوي بين السياسة والعبادة منذ مطلع القرن الماضي إلى مطلع القرن الجاري.

هذا الخط استكمل نشاطه وعزز دوره ولم تكن العمامة بعيدة عن إحياء موقع الإسلام المعاصر ودوره في ترسيم حدود التطوّر ومدى العلاقة المطلوبة لتجديد الصلة بين الدولة (الشكل التنظيمي) والدين (مصدر التشريع). ومثل هذا الاتصال بين الزاويتين يمكن ملاحظته ميدانيا ورمزيا في التاريخ العربي الحاضر بدءا من المغرب وانتهاء بالبحرين. فالشيخ الرّاحل عبدالأمير الجمري والكثير من الرموز الدينية في الطائفتين السنية والشيعية هم نتاج تلك الفضاءات الثقافية التي تشكّلت في مطلع القرن الماضي حين أقدم أتاتورك على إنزال تلك الضربة الثقافية السياسية بالسلطنة والخلافة وكان من تداعياتها وآثارها إنتاج صدمة فكرية اطلقت موجة تحديات لعبت فيها «الرمزية» دور الربط أو الفصل بين زمنين... وانتهت المعادلة في الشوط الأخير إلى غياب كلّ تلك الأشكال(الأزياء) المنافسة عن المسرح التاريخي وبقاء العمامة ثابتة في موقعها تقوم بدورها التقليدي وتجدده عند كلّ محطة تطرأ على حياة الأمّة في صعودها وهبوطها.

العدد 1923 - الثلثاء 11 ديسمبر 2007م الموافق 01 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً