العدد 1926 - الجمعة 14 ديسمبر 2007م الموافق 04 ذي الحجة 1428هـ

...صفعات!

«إن الجمري قضية وهو يعتبر رجل القلم والمعرفة»... مقولة قالها الشيخ عيسى قاسم في حق الشيخ الجليل رحمه الله ورفيق دربه عبدالأمير الجمري في يوم تأبينه.

في صبيحة يوم بارد من أيام ألمانيا القاسية برودة وأعصابا بسبب الفقر وقساوة العيش الذي أصاب أوروبا، وفي القرن السادس عشر، وتحديدا في إحدى القرى الألمانية المعدمة، كان هناك طفل يدعى (جاوس) لم يتجاوز السابعة وهو طالب ذكي وذكاؤه من النوع الخارق للمألوف، وفي صفه كلما سأل مدرس الرياضيات سؤالا كان جاوس هو السباق للإجابة عليه فيحرم بذلك زملاءه في الصف من فرصة التفكير في الإجابة! وفي إحدى المرات سأله المدرس سؤالا صعبا فأجاب عليه جاوس بشكل سريع، ما أغضب معلمه وطلاب صفه، الأمر الذي تضايق منه معلمه فأعطاه مسألة حسابية صعبة كي يلهيه عن الدرس ويفسح المجال لبقية الطلاب، إلا أن جاوس وبعد خمس دقائق فقط قال وبصوت عال ناتج المسألة هو 5050! فاستدار إليه مدرسه وصفعه صفعة قوية، وقال له غاضبا هل تمزح معي؟... أرني حساباتك!

فقال جاوس متألما من شدة الصفعة هذه حساباتي ولقد اكتشفت أيضا أن هناك علاقة بين 99 و1 وأيضا 98 و2 وهكذا بين كل الأعداد توجد علاقة، وبذلك توصلت إلى قانون عاما وهو ( 2/ nn+1) وأصبح الناتج يساوي 5050.

هنا اندهش المدرس من هذه العبقرية، ولكن بعد ماذا؟!... بعد أن لطم وصفع أمير الرياضيات! إذ لم يعلم بعد ذلك أنه صفع في تلك اللحظة العالم الكبير (كارل فريدريك جاوس) ابن الخادمة والجزار! أحد أشهر علماء الرياضيات في التاريخ الذي طور فيما بعد رسالته الرياضية للدكتوراه وهو لم يتجاوز الثانية والعشرين!

أما في مدينة الكاظمية وفي العام 1980 فقد تلقت العراق أكبر صفعة من الصفعات التي تلقاها جاوس من طاغية بغداد للمرجع والمفكر والفيلسوف (الصدر) الذي صفي جسديا وبقي نبأ استشهاده سرا وودعته ملايين الشيعة أسفا وحزنا على فراقه ووفاته مع أخته (بنت الهدى) الشهيدة التي استشهدت أمام عينيه أيضا في يوم أسود من أيام العراق الجريح على يد الجلاوزة الصداميين، إذ لم يتركوه ولا لحظة يغيب عن أعينهم إلا بعد أن عذبوه ومثلوا بجسده الشريف حقدا وبغضا!

لقد قتلوا الفكر وصادروا المعرفة واغتالوا القلم، بل ودفنوا الاقتصاد والمنطق والفقه والشرف وهم يعرفون من هو هذا الذي بلغ درجة الاجتهاد وهو في سن مبكرة (21 سنة) لم يبلغها أحد من قبله ولا من بعده!

واليوم، نحن نتلقى الصفعات تلو الصفعات من أبنائنا وفلذات أكبادنا بسبب ما نشاهده من تدني مستوياتهم العلمية وهبوط قدراتهم المعرفية وبرودة حماسهم المدرسي، يقابله تنامي حماسهم الرياضي والترفيهي! مع تنامي أعداد كثيرة من الجهلاء والفقراء والمحتاجين في مجتمعاتنا طبعا (علما ومعرفة ووعيا) كي ينضموا إلى قوائم المتسولين عقلا ووعيا وليس فقرا!

فالفقير والمحتاج ليس في نظري فقط فقير المال والحاجة، بل الفقير اليوم في القرن الواحد والعشرين هو ذلك الأمي فقير العلم والمعرفة والوعي! وإلا فكم من طالب علم كالمرجع الديني الشهيد محمد باقر الصدر أنموذجا، إذ عاش فقير مال ومحاربا ومضطهدا فكرا بل كافح الأهوال والصعاب وتغلب على العاطفة وعلى النفس ليصل إلى مرتبة العلماء العرفانيين والفلاسفة والمبدعين، ولا تنسوا صاحب الصفعة الشهيرة جاوس وغيره.

وانتم أيها الأب ترقب هذا العام الصفعة المقبلة! شهادة ابنك، فأنت ادرى بها مني بسبب اهمالك له وتلبية احتياجاته الكمالية وتغطيتك على سلوكه! فماذا ينقصه بعد؟! ألم توفر له هاتفا بمئتي دينار لم يقتنيه بعد أشهر أطباء القلب البحرينيين، كي يلهو في «البلوتوث» ولو كان اغراهام بل حيا لم يصنعه لأجله؟! ألم تهده حاسبا آليا قد لا يمتلكه مدير مصرف، كي يلهو فيه وخصوصا في المواقع المحرمة؟! أم أنه يجري بحوثا ليكتشف العلاقة الرقمية كما اكتشفها جاوس؟! أو مثله مثل مارك غوتنبيرغ الطالب الأميركي الذي يدرس في جامعة «هارفرد» الأميركية الذي ابتكر موقعا إلكترونيا أسماه «فيس بوك» الذي كان يهدف من ورائه إلى نشر أخبار الجامعة والتواصل والإعلانات للشركات لكنه لم يعرف أنه سيصبح يوما ما من أشهر الطلبة ومن المتميزين وخصوصا بعد أن صار يستخدم موقعه 40 مليون قارئ يوميا!

ألم تقترض له قرضا حتى تدان شهريا وتعيش ضنك العيش مع والدته وأخوته لتشتري له مركبة فارهة كي يزعج بها أهالي الحارة نهارا وليلا، في الوقت أنت قابع على الشارع تنتظر من يقلك إلى عملك!

إننا لا نطالب أبناءنا بأن يكونوا في مستوى جاوس ولا آينشتاين ولا أديسون ولا حتى في مستوى الشهيد الصدر، ولكن لابد من أن يرتقوا أكثر علما ووعيا ومعرفة.

ماذا فعلتم بأبنائكم؟... إذا كنتم تعتبرون الجمري قضية حية ومستمرة في قلوب جميع المواطنين لتحقيق جميع المطالب التي طالبوا بها، وإذا كانت دموع آلاف الشباب وخصوصا الطلاب التي انهمرت دموعهم حسرة وندما على فراقه في ليلة رحيله الباردة أو في يوم تأبينه! وإذا كانوا صادقين حقا مع أنفسهم أولا قبل أن يكونوا صادقين مع الجمري، إذن لابد من أن يعي هؤلاء أن الجمري لم يتحمل آلام الجلطات وعذابات السجون وفراق الأهل والأبناء إلا من أجل القلم والمعرفة والمطالب والحرية التي نتفيأ اليوم ببعض ظلالها ونتمتع بصفاء ونقاوة وحرية كلمتها، ونتنفس من هوائها.

الجمري كان سلميا وعاقلا في كل حركة قام بها وفي كل كلمة أطلقها. كان شعاره دائما «البحرين أولا «التي تحمل الوطن والمواطن والمطالب والحقوق من دون أن ييأس أو يمل، كما وصفه الأمين العام لجمعية «الوفاق» بالصبور الصامد لا يهاب الصعاب وخصوصا في القرارات المصيرية التي تتطلب قرارا حاسما إن في الاعتصام الأول أو في الامتناع عن الأكل والشرب وهو مريض أو في السجن الانفرادي أو في أيام المبادرة أو أيام الانفراجات!

الجمري (قضية)عالقة في أذهاننا جميعنا، متحركة صامدة صادقة مسالمة في نهجها لمواصلة مطالبنا إن كنا طلابا أو حملة علم ومعرفة.

مهدي خليل

العدد 1926 - الجمعة 14 ديسمبر 2007م الموافق 04 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً