العدد 1930 - الثلثاء 18 ديسمبر 2007م الموافق 08 ذي الحجة 1428هـ

وعود «الدول المانحة» وأكاذيبها

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

مليارات الدولارات هطلت على رأس رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس خلال مؤتمر «الدول المانحة» الذي أنهى أعماله أمس الأوّل في باريس. فالمؤتمر الذي عقد برعاية فرنسية ومشاركة أميركية وأوروبية ودولية وعربية وعد رئيس السلطة بالدعم المالي والمساعدة على قيام «دولة قابلة للحياة».

وقبل أنّ يعود الرئيس عباس إلى مقره في رام الله أعلنت حكومة أيهود أولمرت استئناف الحفريات في نفق تحت المسجد الأقصى بذريعة البحث عن آثار دينية وسياحية. وقرارأولمرت أرفق بترحيب بنتائج مؤتمر «الدول المانحة» مع تحفظات سياسية أشارت إلى مخاوف من احتمال أنّ يؤثر المال على الاستقرارالأمني ويذهب باتجاه يخالف خطط التنمية والإعمار.

إشارات أولمرت تعطي فكرة عن تلك العقبات السياسية والأمنية التي تخطط حكومته لوضعها أمام سلطة عبّاس بهدف منعها من تطوير مشروعها الاستقلالي ودفعه خطوات ميدانية إلى الأمام. فالقرار الذي اتخذته حكومة تل أبيب باستئناف الحفريات تحت المسجد الأقصى بعد اختتام مؤتمر «الدول المانحة» أعماله في باريس يشابه في تأثيراته السلبية والاعتراضية ذاك القرار الذي اتخذته حكومة أولمرت حين اتجهت نحو استئناف الاستيطان وبناء وحدات إسكانية في القدس المحتلّة بعد اختتام «مؤتمر أنابوليس» أعماله في ولاية ميرلاند الأميركية. والغاية المشتركة من الخطوتين الإسرائيليتين تؤكّد أنّ تل أبيب غير جاهزة للسلام وهي لاتزال تصرّ على مواصلة خطط الاستيطان لمنع السلطة من تطوير مشروع الدولة المستقلة القابلة للحياة.

الوعود المالية يرجّح أنْ تبقى مجرد كلام في كلام لا معنى لها ولا قيمة عملية مادامت «الدولة» الموعودة غير موجودة على الأرض ويتوقع ألا ترى النورلا في نهاية 2008 ولا في نهاية 2015 كما وعدت وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس. فالوعود مجرد شراء للسكوت والمال مجرد كلام يُعلن ويُقال ويُكتب على الورق ولا يصل إلى أصحابه، كما سبق وحصل في السنوات الأخيرة حين عقدت مؤتمرات دولية لمساعدة الدول الفقيرة والنامية وكانت النتيجة تطويل وقت الفقر وتأخير ظروف التنمية.

الدول الكبرى تلعب وتكسب المال وتطوّر شروط قوتها بينما الدول الصغرى (الفقيرة والنامية) تنتظر الوعود إلى أنْ تُصاب بالإعياء من كثرة الانتظار وصعوبته. وما حصل في «أنابوليس» على مستوى الغطاء السياسي وتكررت نسخته في باريس على مستوى الوعد الاقتصادي ليس جديدا وإنما يمكن تقديم عشرات الأمثلة على منواله.

وعود وأكاذيب

بعد غزو أفغانستان في نهاية 2001 جرى عقد ذاك المؤتمر للدول المانحة تحت غطاء مساعدة حكومة كابول على الإنماء والإعمار. حتى الآنَ لم تصل تلك المليارات التي وعدت بها أو تبرعت بتقديمها الدول الكبرى والهيئات والمنظمات والمصارف الدولية. وأفغانستان التي تنتظر الهبات والمساعدات والقروض الميسرة منذ سبع سنوات تقريبا ازدادت فقرا ودبّت فيها الفوضى وتمزّقت إلى أشلاء قبلية ولم تقطع بوصة واحدة في سياق مشروع إعادة الإعمار.

بعد اجتياح العراق في مطلع 2003 وتقويض دولته دعت الدول الكبرى والهيئات والمصارف والمنظمات والشركات المتعددة الجنسية إلى عقد مؤتمر للدول المانحة أطلقت خلاله خطة إعادة إعمار انتهت إلى كلام بكلام وأدّت إلى دب الفوضى واتساع السرقات ونهب الثروات من خلال تنويع مصادرالرشوة والارتزاق والسمسرة. وتطوّرالفساد والإفساد إلى درجة غير مسبوقة. الآنَ لا يُعرف إذا وصلت الأموال أو لم تصل وإذا ما كانت التبرعات صادقة أو كاذبة. ولكن ما هو معروف أنّ العراق بعد الاجتياح أنهار اقتصاديا أكثر من مما كان عليه وضعه قبل الغزو الأميركي - البريطاني. والاحتلال الذي وعد بالتنمية وإعادة الإعمار أشرف مباشرة على النهب والسرقة وتبديد الثروات. فالعراق يعتبر من الدول الغنية بالمواد الخام ويقدر إنتاجه من النفط أكثر من مليوني برميل يوميا؛ أي ما يعادل 200 مليون دولار، وبالتالي فهو ليس بحاجة إلى منح ومساعدات وهبات بقدر ما يحتاج إلى دولة عادلة ومحترمة تضبط الإنتاج وتعيد توزيعه لإعادة البناء والتأسيس. وما حصل أنّ ثروة العراق وأمواله تهدر يوميا على لصوص وقطاع طرق وقبائل سياسية لا وظيفة لها سوى تهريب مردود الإنتاج النفطي إلى الخارج وتخزينه في ودائع وحسابات مصرفية شخصية.

لبنان أيضا بعد تعرضه إلى ذاك العدوان الأميركي - الإسرائيلي في صيف 2006 تداعت الدول الكبرى إلى عقد مؤتمر في روما لمساعدته ثم إلى مؤتمر للدول المانحة (باريس 3) في العاصمة الفرنسية لدعمه على إعادة ما دمرته الحرب... وحتى الآنَ لاتزال الدولة المنهوكة والمعطلة تنتظرالوعود ولم تصل بسبب تلك الشروط السياسية التي وضعتها عواصم الغرب. ولو لم تبادر الدول العربية والهيئات المدنية والمؤسسات المستقلة وبعض المتمولين والشخصيات على تقديم مساعدات وهبات لكان البلد الصغير أنهار وتفكك إلى دويلات تقودها ميليشيات وأمراء حرب وطوائف.

وعود «الدول المانحة» التي هطلت على رئيس السلطة الفلسطينية في باريس يرجّح أن تكون على هيئة الأكاذيب التي تم تسويقها بعد الغزوات والاعتداءات على أفغانستان والعراق ولبنان منذ العام 2001. كذلك لن تكون بعيدة عن تلك الوعود والاتفاقات والتفاهمات التي سبق أن وقعتها «الدول المانحة» مع رئيس السلطة الفلسطينية الراحل ياسرعرفات وانتهت بتطويق مقره في رام الله إلى أن غادره مريضا إلى المستشفى ولم يعد إليه.

الوعد بالمساعدة ليس كالمساعدة. الوعد بالعمل من أجل قيام دولة فلسطينية «قابلة للحياة» يختلف عن الفعل الميداني الذي يتمثل بالضغط على تل أبيب وإجبارها عنوة على تنفيذ قرارات دولية واضحة في بنودها وفقراتها. ما يحصل هو العكس تماما. فالدول تعد السلطة الفلسطينية بتقديم المنح والهبات والقروض ولكنها تعطي المساعدات المالية والعسكرية لتل أبيب لمواصلة سياسات الاحتلال والاستيطان وبناء المستعمرات والوحدات السكنية واستئناف الحفريات في القدس والغارات الجوية على الضفة والقطاع وقتل الأبرياء والمساكين والمحاصرين.

الدول الكبرى تخدع الدول الصغرى وهي تعطي الكلام المعسول من جهة وترتكب الآثام وتشجّع على الظلم والقهر والإذلال من جهة أخرى... وبعدها تتنصل من المسئولية وتتهم الضعاف بالخطأ ثم تطيح بهم حين تنتهي وظيفة شراء السكوت والوقت.

مساعدة السلطة الفلسطينية لا تكون بعقد مؤتمر للدول المانحة قبل أنْ يساعد الشعب الفلسطيني على تأسيس دولته. فالدولة أوّلا ثم المال ثانيا. وما حصل في باريس أمس الأوّل هو العكس تماما. فالدول المانحة وعدت بتقديم مليارات الدولارات للمساعدة على قيام دولة «قابلة للحياة» بينما الوقائع الميدانية تشير إلى أنّ حكومة أولمرت تتجه نحو قطع كل الأوصال التي تؤدّي إلى استمرار الحياة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1930 - الثلثاء 18 ديسمبر 2007م الموافق 08 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً