العدد 1938 - الأربعاء 26 ديسمبر 2007م الموافق 16 ذي الحجة 1428هـ

مقدمات في الفكر السياسي الأوروبي (1)

اكثر المواضيع تعقيدا هي تلك التي تتعلق بموضوع مثل الفكر السياسي والديمقراطية والشورى.. الخ. وربما نحن بحاجة لتناول هذا الموضوع من عدة أبواب ومداخل، على ألا نطلق أحكاما مسبقة قبل الدخول في النقاش، وذلك من خلال التسلسل التاريخي والمرور على وجهات نظر رموز فكرية وأحداث مهمة ساهمت في تطوير الفكر السياسي الأوروبي. فالتسلسل الفكري للديمقراطية، مثلا، يرتبط بالموقف الفكري من «العقل» و«حرية الاختيار». ولذلك فإن مفاهيم الجبر والتفويض المعروفة ومصادرها وأساليب الحكم جميعها تدخل في صلب الموضوع. ومفهوم الديمقراطية ما هو إلا تطبيق لنظريات فلسفية وممارسات حياتية لأمم وحضارات متعددة.

ديمقراطية أثينا (578ق م - 335ق م)

لقد وثق أفلاطون كيف كانت أثينا والدول -المدينية Polis في اليونان تحكم بواسطة «الأساليب القديمة» للديمقراطية قبل الميلاد. فقد تحدث عن سقراط (الذي عاش بين 470-399ق م) وألّف أفلاطون كتابه «الجمهورية» في العام 375 قبل الميلاد، ورأى أن الإنسان ثلاثي والأبعاُد هي: العقل، والنزعات الكريمة (المروءة)، والشهوات الغريزية. وقال ان الدولة يلزم أن تحتوي على العقل (المتمثل في نخبة الفلاسفة ، اي الأقلية الحاكمة) وعلى المروءة المتمثلة في الجنود، وعلى الشهوات المتمثلة في الجماهير (الرعاع). وكانت أثينا تمارس أسلوبا من الحكم أطلق عليه «الديمقراطية» بمعنى حكم الشعب للشعب. والشعب المقصود به آنذاك هم الرجال فقط ويستثنى منهم النساء والعبيد وغير الأثينيين. وكانت الديمقراطية عبارة عن تجمع جميع المواطنين في الساحة العامة لمناقشة الأوضاع واتخاذ القرارات بصورة جماعية عامة. ونشأ مفهوم النظام الذي يعتمد على قوانين تشمل الجميع دون استثناء Polity كنقيض للاستبداد. أما المناصب فقد كانت تملأ بواسطة القرعة. وقد سميت هذه الديمقراطية بحكم «الرعاع والدهماء». وانتهت الحالة الديمقراطية في أثينا مع غزو الإسكندر الأكبر في 335ق م (توفي 323 ق م) الذي أسس دولته على أساس القوة العسكرية والحكم الفردي المطلق. وكانت أثينا قد ضعفت بسبب الصراعات الداخلية وكثرة النقاشات الحادة وغيرها التي أفقدت أثينا القدرة على مواجهة الأخطار الخارجية عند الطوارئ، بعد أن استمرت مدة طويلة مع تقطع في الممارسات.

عصر الرومانية والمسيحية

عرفت الدولة الرومانية عدة عصور، فالعصر الملكي امتد من 631 ق م الى 440 ق م، ثم جاء العصر الجمهوري مابين 440 ق م الى 323 ق م، ومن ثم اختلط نسق الحكم حتى 96 ق م، وشهدت الدولة الرومانية نوعا من الديمقراطية المحكومة بواسطة النبلاء (الطبقة الأرستقراطية) التي كانت تستحوذ على عملية اتخاذ القرار لأنها «أكثر علما وفهما» من عامة الناس والغوغاء. ومورست السلطة التنفيذية بمساعدة مجلس للشيوخ ومجلس شعب يمثل مصدرا للسلطة التشريعية.

* وعندما بعث الله سبحانه وتعالى النبي عيسى عليه وعلى نبينا السلام (قبل نحو ألفين عام)، لم تكن دعوته تتعرض لنظام حكم. لكن عندما حاول بعض اليهود الإيقاع به من خلال القول انه لا يدفع الضرائب لقيصر، طلب منهم أن يروه نوعية الضرائب التي يدفعونها لقيصر. فأروه العملة التي عليها صورة القيصر، فقال لهم (كما ورد في التراث المسيحي): أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله. وقد اتخذ بعض المسيحيين هذه المقولة لاحقا منطلقا لفصل الدين عن الدولة.

* في القرن الرابع الميلادي (مع اقتراب نهاية العظمة الإمبراطورية الرومانية) اعتنق إمبراطور روما الدين المسيحي، مما أدى لانتشار المسيحية في أوروبا التي كانت تسيطر عليها دولة الروم. فإمبراطور روما «قسطنطين» وصل للحكم في العام 306م واستمر حتى 337م، وهو الذي نقل مركز الإمبراطورية من روما إلى القسطنطينية (واسمها بيزنطة قبل تغيير الاسم) وجعل المسيحية دين الدولة مما أدى لانتشار المسيحية بشكل واسع وأدى كذلك لسيطرة الكنيسة على الحكم والملوك اللاحقين.

* سان آمبرواز (340-397م) أحد أهم مفكري المسيحية الذين نظروا للكنيسة وعلاقاتها بالدولة وقال بأن سلطة الكنيسة أعلى من كل شيء وحتى من الإمبراطور. وقال آمبرواز انه مرتبط بالإمبراطورية لأن الإمبراطورية مسيحية ولكنه ينتظر من الإمبراطور مسلكا يليق بالمسيحية. وعندما ارتكب الإمبراطور ثيودوسيوس مذبحة في العام 390، كفره آمبرواز حتى التوبة وإعلان الندامة.

* ظهر القديس أوغسطين (354-430م) كشخصية ريادية في العالم المسيحي، الذي آمن بأن الحياة الاجتماعية مقدسة ولذلك فإن الدولة مهمة في حياة الناس للحفاظ على المجتمع. وعلى «الملك» أن يكون في خدمة الإله. وأدان طغيان الملوك واستضعاف الأمم الفقيرة. وقد رأى بأن الطغيان من الحكام «لا يبرر» الثورة عليهم. وأن على المسيحية أن تركز على المحبة وعليها أيضا أن تؤكد الطاعة للدولة. ومن هنا فإن الدعوة المسيحية التي بدأت بعيدا عن الحكم أصبحت الديانة الرئيسية للإمبراطورية والمشاركة في الحكم. ودعا أوغسطين لوحدة الكنيسة وعالمية سيطرتها على العالم المسيحي، وقال بأن النور (الوحي الإلهي) هو الذي يعطي الإنسان الحقائق. وآمن بأن هناك «مدينة الله» و«مدينة الشيطان» وأن مدينة الله لا يمكن معرفتها إلا من خلال سلطة الكنيسة المقدسة وغير القابلة للنقاش.

* بعد فترة، نشأت أزمة السلطان الديني والسلطان الدنيوي، وبدأت فكرة الفصل بين السلطتين، سلطة دينية بيد القساوسة وسلطة دنيوية بيد الملوك والأمراء. غير أن السلطة الدينية كانت أعلى من السلطة الدنيوية، وكانت قوة رجال الكنيسة تسمح لهم بالتدخل في الأمور الدنيوية وتهديد الملك إذا لم يستجب لهم. وهكذا كان الصراع مستمرا في القرون اللاحقة.

عصور الظلام الأوروبية (القرون الوسطى) مابين 525 1500- م

بدأت عصور الظلام في قرابة 525م، عندما أغلقت مدارس الفلسفة والعلوم في الاسكندرية وغيرها من المناطق التي تسيطر عليها الدولة البيزنطية. وانتشرت الحروب وأمراض الطاعون وغيرها من المآسي الاجتماعية. غير أن الكنيسة وسعت نفوذها باستمرار. وقد حاول القائد الأوروبي «شارلمين» Charlmagne إعادة مجد الإمبراطورية الرومانية من خلال السيطرة على روما في 800م، وعدد من المناطق الأوروبية وقيام البابا بتتويجه إمبراطورا للدولة الرومانية الجديدة تحت مسمى «الإمبراطورية الرومانية المقدسة».

* القرون المظلمة الوسطى اعتمدت على تقسيم إقطاعي يتكون من الملوك وملاك الأراضي (البارونات) وعامة الناس. والنظرة كانت مستمدة من الله، والملائكة والناس، على أساس ان الفرد الإنسان يحتوي على راس وقلب، وبطن.

* فبل الف عام تقريباانقسمت المسيحية الى مذهبين رئيسيين: الكنيسة اليونانية الأرثوذيكسية (الشرقية) في مقابل الكنيسة الرومانية الكاثوليكية (الغربية).

* استمرت أوروبا تعيش الظلام والظلم والقسوة حتى بداية النهضة الأوروبية بعد انتهاء القرون الوسطى (1500م). وقد أدت سيطرة الملوك لنشوء الدولة التي آمنت بأن لكل ملك الحق في أن يحدد دين دولته ومن لا يعجبه ذلك المذهب الديني فعليه أن يرحل لدولة أخرى. والتصفيات الجسدية في القرون اللاحقة أدت لظهور فكرة «التسامح» وتعدد الأديان والمعتقدات التي توسعت بعد النهضة الأوروبية.

* نهاية عصور الظلام صاحبتها مآسى ومحن كبيرة، وكان عدد من العلماء الأوروبيين قد بدأوا بتحدي سيطرة الكنيسة والملوك والإقطاع. مثلا سانت توماس أكونياس Aquinas الذي عاش بين 1225-1274 م وتأثر بأفكار «ابن رشد»، طرح موضوع الوحي والعقل ورأى بأن العقل بإمكانه التوصل لمعرفة العلة الأولى للوجود (الله).

وجاء علماء آخرون منهم ويليام أوف أوكام William of Occam الذي عاش بين (1290 1349-)، واختلف ويليام مع البابا مما أدى الى لجوئه لحماية الإمبراطور في 1328 . وفي هذه الفترة بدأت «الإمبراطورية الرومانية المقدسة» التي أسسها تشارلمين تتفكك. وكتب ويليام كتاباته الفكرية طارحا فكرة تقليل السلطات الدنيوية للكنيسة التي كانت تتبنى الافكار المظلمة . وهذه هي الأفكار التي دفعت بأوروبا إلى الخروج من عصور الظلام.

والجدير بالذكر هو أنه في الوقت الذي كانت تمر في ظلام دامس كانت هناك دول أخرى تعيش النور مثل الصين (ما بين 618و907م) والبلاد الإسلامية التي بدأت تتوسع مع انتشار الدين الإسلامي. ففي الوقت الذي كان العالم الإسلامي يشع بالفكر والفلسفة والعلوم كانت أوروبا تمر في ظلام وظلم بسبب تحالف الإقطاعيين مع بعض رجال الكنيسة.

عصر النهضة الأوروبية (1440-1540) Renaissance

بدأت حركة التنوير الأوروبية في المدن الإيطالية الشمالية التي ازدهرت في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. وقد ظهرت طبقة التجار القوية (البرجوازية) المتعلمة والبعيدة عن الكنيسة. وكان من بين المفكرين الخطرين الذين ظهروا في هذه الفترة مكيافيللي (1469-1527) Machiavelli. مكيافيللي كتب كتابين «الأمير» The Prince و«المناهج» The Discources . وقال مكيافيللي بأن الهدف الأساسي للحكام هو الحصول على السلطة السياسية بأي ثمن، وأنهم من أجل ذلك قد يقولون بحقهم الإلهي أو حقهم في الملك الوراثي من خلال مباركة الكنيسة. وحلل مكيافيللي كيف يصل هؤلاء الحكام للسلطة. وقال في الأوضاع المضطربة والفاسدة إنه لا بد من وجود حكومة قوية، حتى ولو كانت دكتاتورية. وإن إقامة حكم قوي يحتاج لأساليب الخديعة والمكر والدهاء والبطش. فالمهم هو إقامة الحكم القوي والفعال. وان الحاكم بإمكانه أن يستخدم مقاييس مختلفة حسب الحاجة، و«الغاية تبرر الوسيلة». والغاية هنا هي إقامة الحكم القوي والفعال. أما في كتابه «المناهج» فإنه قال بأن الحكم الجمهوري القائم على دستور ديمقراطي يمكنه تحقيق الغاية المرجوة، وهي استقلال الحكم وحفظ الأمن والاستقرار.

* توماس مور (1478-1535)، عالم إنجليزي، كتب كتابه Utopia «الطوباوية» في العام 1516، واشتهرت قصته الخيالية (الطوباوية) التي تحدث فيها عن بلاد تحكمها حكومة مثالية تعمل بالمساواة الكاملة بين الناس (دون فرق بين الرجل والمرأة) وتوجد فيها حرية للعقيدة وديمقراطية ولا توجد ملكية خاصة لأحد، وكل شيء مملوك للدولة (كما قالت الشيوعية لاحقا). وقد أعدم مور بعد أن رفض الموافقة على ما قام به الملك هنري الثامن عند انفصال الأخير عن سلطة البابا ومنعه الكاثوليكية وتأسيس الكنيسة الإنجليكانية التي ما زالت هي الكنيسة الوحيدة التي تعترف بها الدولة البريطانية وترأسها الملك أو الملك، بدلا من البابا.

(... يتبع)

* نقاشات في ورش عمل نظمت في العام 1998

العدد 1938 - الأربعاء 26 ديسمبر 2007م الموافق 16 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 6:54 ص

      الفكر الاوربي قبل النهضة وبعدها

      الله يخليكم انا بدي الفكر الاوربي قبل النهضة وبعدها
      وجزاكم الله الف خير

اقرأ ايضاً