العدد 1946 - الخميس 03 يناير 2008م الموافق 24 ذي الحجة 1428هـ

مهمل المهادي... قََتلَ ابنه انتقاما لصديقه

مهمل المهادي من عبيدة من قحطان, وكان معروفا في قبيلته, وذا رئاسة فيها. شاعر وفارس نشأ ميسور الحال رفيع الجاه. خرج للغزو ومعه مجموعة من بني قومه, وفي هذه الرحلة تصادف أن مر على قبيلة سبيع القبيلة العربية الأصيلة. وصادف في مروره في مرابع قبيلة الدواسر التي نزل بها مرور فتاة بالغة الجمال لدرجة أن المهادي تأثر بها من أول نظرة، ولم يستطع أن يفارق مضارب قبيلتها. أخفى المهادي ما أصابه عن رفاقه, واختلق عذرا تخلص به من مرافقتهم, وأقنعهم بمواصلة المسير من دونه وبقي في مضارب تلك القبيلة وحيدا.

بحث مهمل عن أكبر بيت في بيوت القبيلة لأنه عادة ما تكون البيوت الكبار لرؤساء العشائر أو فرسانها أو شخصياتها المعروفة, ونزل ضيفا على صاحب البيت فأكرمه بما يليق به وبقي عنده فترة يفكر في الطريقة التي توصله لمعرفة تلك الفتاة. وكان لا بد أن يستعين بأحد من القبيلة نفسها.

فكر المهادي طويلا واهتدى إلى حيلة يستكشف بها الرجال حتى يهتدي إلى أوثقهم فيحكي له قصته. قرر أن يجرب صبرهم، فادعى أنه مصاب بمرض التشنج أو الصرع إذ يأتيه الصرع ويرتمي على من يجلس قربه، ولأنهم لا يعرفونه صدقوا روايته والمهادي يتنقل من واحد إلى آخر ويرتمي عليه وكأنه مصروع, ويتكئ عليه بكوعيه حتى يؤلمه ليختبر صبره. فكان بعضهم يبتعد عنه والبعض الآخر يصبر قليلا ثم يغير مجلسه, وهكذا حتى جلس ذات مره بجوار شاب توسم فيه الخير وتحرى معالم الرجولة في وجهه فاصطنع الصرع وارتمى عليه واتكأ عليه بكوعيه بشدة. والشاب صابر وساكن لا تصدر منه شكوى, وكلما حاول البعض إزاحته عنه نهرهم قائلا: هذا ضيف والضيف مدلل فاتركوه، أما المهادي فقد عرف أنه وجد ضالته، وحينما أفاق المهادي من صرعه المصنع, وقام الشاب متجها إلى بيته تبعه المهادي واستوقفه في مكان خال من الناس واستحلفه بالله ثم أفضى إليه بسره. وشكا له ما جرى بالتفصيل وأعلمه من هو ووصف له الفتاة الوصف الدقيق الذي جعل الشاب يعرفها، ولما انتهى من حديثه قال له الشاب أتعرف تلك الفتاة لو رأيتها مرة ثانيه؟ فأكد له المهادي معرفته لها وحفظه لتقاسيم وجهها فقال له الشاب: هانت! واصطحبه معه إلى بيته ووقفا وسط البيت، وصاح الشاب: فلانة احضري في الحال، فدخلت وإذا هي ضالة المهادي، فوقع من طوله لشدة تأثره، أما الفتاة فقد عادت لخدرها مسرعة بعد أن رأت أن هناك رجلا غريبا كما هي عادة بنات البدو، أما صاحب المهادي فهدأ من روعه وأسقاه ماء، وسأله: أهي ضالتك؟ قال المهادي: نعم. قال الشاب: هي أختي وقد زوجتك إياها، فكاد المهادي أن يجن لوقع الخبر عليه لأنه لم يتوقع أن يحصل عليها بتلك السهولة. ترك الشاب المهادي في بيته وذهب لوالده وأخبره بالقصة كاملة وكان من الرجال المعروفين بحكمتهم وإبائهم ورجولتهم، فلما فرغ الابن من سرد الحكاية، قال الأب لولده أسرع واعقد له عليها لا يفتك به الهيام، وبالفعل عقد له عليها، وفي الليلة التالية كان زواجهما, والمهادي يكاد لا يصدق أن تتم العملية بهذه السهولة واليسر والسرعة وقد كانت شبه مستحيلة قبل أيام. المهم أنه دخل عليها وخلا البيت إلا من العروسين وأخذ يتقرب منها ويخبرها من هو ويعلمها بمكانته بقبيلته وأنه زعيمها ويعرفها بنفسه ويحاول أن يهدئ من روعها ليستميل قلبها، وأفضى لها بسره أنه رآها وأسرته. كل هذا والعروس تسمع ولا تجيب والمهادي يتكلم ويتقرب وتزداد نفورا منه.

وكان المهادي فطنا شديد الذكاء, فقد لمس أن زوجته تضع حاجزا بينها وبينه، وتأكد من صدق حدسه حينما لمح دموعها تنهمر من عينيها وهي لا تتكلم، عرف أن وراءها قصة. فتقرب منها واستحلفها بالله ألاَّ تخفي عنه شيئا، ووعدها ألاَّ يمسها سوء. وأقنعها بأن تحكي له. فقالت: أنا فتاة يتيمة كفلني عمي وربيت مع ابن عمي.

كنا صغيرين نلهو مع بعضنا وكبرنا وكبرت محبتنا معنا وقبل حضورك كنت مخطوبة لابن عمي الذي لا أستطيع البعد عنه لحظة ولا يستطيع البعد عني برهة، ولما حضرت انتهى كل شيء وزوجني إياك. طار صواب المهادي فقال لها: وأين ابن عمك قالت له هو مفرج السبيعي الذي عقد لي عليك وأفهمك أنني أخته وآثرك على نفسه لأنك التجأت له ولأنك ضيفنا كاد المهادي أن يفقد عقله لحسن صنيع ذلك الشاب الذي اتكأ عليه وسكت لفترة طويلة وهو يستعرض ما حصل ولا يكاد يصدق أن تبلغ المروءة في شاب كما بلغت بمفرج.

وبعد فترة صمت قال لها: أنت من هذه اللحظة حرام علي كما تحرم أمي عليّ. ولكن أرجوك أن تخفي الأمر حتى أخبرك فيما بعد فصنيعهم لي لا ينسى لذا لا أريد الآن أن تقولي شيئا. هدأ روع الفتاة ونامت ونام هو في مكان آخر.

وبقي زوجا لها أمام الناس لعدة أيام وبعدها استسمح أصهاره بالرحيل إلى قبيلته لتدبير شئونه ومن ثم يعود ليأخذ زوجته. ورحل ولما وصل قبيلته أرسل رسولا من قبيلته يخبر مفرج بطلاق زوجة المهادي وأنه لما عرف قصتهما آثر طلاقها وأن مروءته قد غسلت تأثير الغرام عليه وأنه سيبقى أسيرا للمعروف طالما هو حي وتم زواج مفرج من ابنة عمه وعاشا برغد فترة طويلة من الزمن. ولكن الزمان لا يترك أحدا. فقد شح الدهر على مفرج وأصاب أراضي قبيلته القحط والجفاف فهلك الحلال وتبدلت الأحوال, ومسه الجوع، فلم يجد سبيلا إلا اللجوء إلى صديقه المهادي وخصوصا أنه ميسور الحال، وبالفعل ذهب هو وزوجته وأولاده الثلاثة ونزل عليه ليلا. وكان المهادي يتمنى هذه اللحظة وينتظرها بفارغ الصبر لكي يرد الجميل فلما نظر حالته عرف فقره. وكان للمهادي زوجتان فأمر صاحبة البيت الكبير من زوجاته أن تخرج من البيت وتترك كل ما فيه لمفرج وزوجته وأولاده ولا تأخذ من البيت شيئا أبدا. وبالفعل خرجت من البيت فقط بما عليها من ملابس وتركت كل شيء لزوجة مفرج وقبل خروجها أفهمت زوجة مفرج أن لها ولدا يلعب مع رفاقه وإذا غلبه النوم جاء قرب والدته ونام ورجتها أن تنتظره حتى يحضر وتخبره بخروج أمه من البيت ليذهب لها وبالفعل انتظرت زوجة مفرج ولد المهادي ولكن انتظارها طال بعض الشيء خصوصا وأنها متعبة مجهدة من طول السفر وعناء الجوع وقد وجدت المكان المريح فغفت بعد أن طال انتظارها وحضر ولد المهادي كالعادة ورفع غطاء أمه ونام معها وتلحف معها بلحافها كعادته ظنا منه أنها والدته.

في هذه الأثناء كان مفرج يتسامر مع صديقه القديم المهادي ولما غلب عليه النعاس استأذنه لينام فسمح له. وسار معه حتى دله على بيته الذي أصبح ملكا له دخل مفرج بيته وإذا بالفراش شخصان رفع الغطاء فإذا زوجته نائمة وبجانبها شاب يافع فلم يتمالك نفسه فضرب الفتى الضربة التي شهق بعدها وفارق الحياة. نهضت الزوجة مذعورة فإذا الشاب مصروع. فقالت لزوجها قتلت ولد المهادي. فقال: وما الذي جاء به إليك؟. فأعلمته بالقصة فرجع إلى رشده. وأسقط في يديه فماذا يفعل! ؟ كان لا بد أن يخبر المهادي. فهرول مسرعا إلى حيث المهادي جالس وأخبره بالحكاية. وهو يكاد يموت حزنا.

هذا والمهادي هادئ ممسك أعصابه. ولما انتهى من كلامه قال له المهادي هو قضاء الله وقدره ولا مفر من ذلك كل ما أرجوه منك ألا تخير أحدا وتوصي زوجتك بأن تكتم الخبر حتى عن أم الولد. وحمل المهادي ولده ورماه في مكان اللعب إذ كان يلعب مع أقرانه. وفي الصباح انتشر خبر مصرع ابن الأمير فقد كان المهادي أمير قومه والكل لا يجرؤ أن يخبر الأمير خوفا من اتهامه له بالقتل، ولما وصل الخبر إلى الأمير اصطنع الغضب وشاط وتوعد وطالب القبيلة كلها بالبحث عن القاتل من دون جدوى وفي المساء جمع القوم حوله وقال عليكم أن تدفعوا كلكم دية ولدي. من كل واحد بعير, وبالفعل جمع الدية حوالي 700 بعير أدخلها المهادي ضمن حلاله وأعطى أم الولد منها 100 بعير وقال لمفرج البقية هي لك ولكن اتركها مع حلالي حتى ينسى الناس القصة. وبالفعل بعد مرور مدة عزل الإبل ووهبها لمفرج فنقلته النقلة الكبيرة في حياته من فقير لا يملك قوت يومه إلى أكبر أغنياء القبيلة.

مرت السنون على هذه الحال الكل منهم يؤثر صديقه على نفسه. ولكن لا بد أن يحصل ما يغير صفاء الحا. كان للمهادي بنت بارعة الجمال أولع بها ولد مفرج وقد كان هناك سبب يحول بينهما فأخذ يحاول معها ويتعرض لها بالغدو والرواح ويحرضها على مواقعته بالحرام. والفتاة نقية, فأخبرت والدتها التي أخبرت بدورها المهادي فأمر المهادي بالسكوت إكراما لوالد الشاب مفرج وأمرها أن تجتنبه قدر استطاعتها فنفذت وصية والدها, وهو يطاردها أربع سنوات متتالية وفي السنة الرابعة عيل صبرها فقالت لوالدها إن لم تجد لي حلاّ, فقد يفترسني في أحد الأيام هذا والمهادي لا يستطيع أن يعمل شيئا إكراما لصديقه مفرج، والشاب يزداد رعونة، فكان لا بد من فراق جاره وصديقه لكي يمنع جريمة ابنه ولكن كيف يصارحه وهو الداهية كما عرفنا بالسابق فاقترح على مفرج أن يلعبا لعبة بالحصى ما يسمى الآن «الدامة» وكان كلما نقل حجرا قال لمفرج: ارحلوا وإلا رحلنا حتى انتبه مفرج لمقولة جاره، فأسرّها ولما عاد لزوجته أخبرها بكلمة المهادي: ارحلوا وإلا رحلنا، فقالت له: إن هناك أمرا خطيرا حصل لا بد لنا من الرحيل، فاذهب واستأذنه، فذهب واستأذنه ولم يمانع المهادي مع العلم أنه كان في كل سنه يطلب الرحيل ويرفض المهادي، إلا هذه المرة قبل بسرعة وكان يريدها. رحل مفرج وهو يبحث عن السر الخطير الذي من أجله قال المهادي كلمته وبعد أن ابتعد عن منازل قبيلة المهادي نزل ليستريح ويفكر بالسبب، ولكنه لم يهتد إلى شيء، لذا تسلل ليلا وامتطى فرسه وقصد المهادي ولما دخل مضارب القبيلة ربط فرسه وتلثم واندس في مكان قريب من مجلس المهادي لعله يعرف سببا لرغبته برحيله، وجلس يرقب المهادي، فلما انفض المجلس من حوله وجلس وحيدا، ومفرج يراه وهو لا يرى مفرج ومفرج ينتظره حتى يدخل عند زوجته ليسترق السمع لعله يسمع شيئا من حديثه مع زوجته إلا أن المهادي لما جلس في مجلسه وحيدا تناول ربابته وأخذ يغني في قصيدة طويلة جاء فيها على ذكر بداية علاقته معه وما وصل إليه الحال اليوم.

ولما أتم المهادي قصيدته توجه إلى أهله وعاد مفرج وركب فرسه باتجاه أهله خارج حدود القبيلة تأكد مفرج أن السبب يكمن في أولاده ولكنهم ثلاثة فأي الثلاثة صاحب الخطيئة, وإلى أين وصلت، فلجأ إلى الحيلة وبدأهم واحدا تلو الآخر، يقول لهم: لما كنا في جيرة المهادي كان لديه ابنة جميلة ولم تتعرضوا لها لو كنت مكانكم وفي شبابكم لما تركتها وخصوصا وهي بهذا الجمال وأنتم بهذا الشباب وأخذ يستدرجهم أما اثنان منهم فلم يجد وراءهما شيئا خصوصا وهما يعرفان ماذا عمل المهادي مع والدهما أما الصغير منهم فأجابه: والله يا والدي لو لم نرحل في ذلك اليوم لأتيتك بخبرها. فعرف أنه هو فقال مفرج وهل كان ذلك برضاها فقال ولده لا بل غصبا عنها فقال له وكيف كنت ستغتصبها. فقال كنت أنتظرها حتى تخرج وحيدة وأتربص بها, ثم أهجم عليها, يد فيها خنجري وأخرى تمسك حبلا أربطها به وأهددها، وما إن انتهى الشاب من قصته حتى قام مفرج مسرعا وسحب سيفه وقطع رأس ولده وعاد لأهله بالرأس ووضعه في خرج وأمر أحد أبنائه أن يحمله إلى المهادي ويرمي الرأس في حجره.

وبالفعل دخل الولد مجلس المهادي وسلم ورمى الرأس في حجره ولحق بأهله تعجب المهادي أيضا لحسن صنيع مفرج فهذه المرة الثانية التي يغلبه فيها فلحق به وأقسم عليه أن يعود وأعاده إلى مكانه السابق وبقيا متجاورين ومتحابين إلى النهاية.

العدد 1946 - الخميس 03 يناير 2008م الموافق 24 ذي الحجة 1428هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً