العدد 1959 - الأربعاء 16 يناير 2008م الموافق 07 محرم 1429هـ

وليد سماء النحت يغرس يديه في الرخام

البنفلاح في ثاني معارضه الفردية

مع أوّل خيوط نسيج الصباح المشرق بعزيمة وتفاؤل، حينما يُشَك في حلكة الليل المظلم، فارضا على الدنيا القيام، وبدء حياتهم في يومهم الجديد، تتداخل مع إيقاع الحياة أصوات مطرقته ومعداته، حينما يحلو له بعد صلاة الفجر أنْ يبدأ عمله، ويغرس يديه في الصخر، ليشكله بهوى نفسه كيفما شاء للناس أن يروا من فنه وإبداعه.

معرضه الثاني، كان أسطورة تحدٍ له، فهو يروي أن معرضه الأول، وحينما كان في إبتدائية العمل الفني، قدم نماذج من رؤاه الفنية المصنعة بالخشب، إلا أن أحد الأحاديث الجانبية التي طالما دارت في المعارض الفنية، أوصلت له رسالة على لسان أحد الفنانين قائلة «لو كان فنانا لعمل في الرخام بدل الخشب»، وبذلك بدأت قصة التحدي التي عاشها وحكاها الفنان البحريني فؤاد علي البنفلاح، على هامش افتتاحه للمعرض لأعمال النحت التي يقوم بها في السادس من يناير/كانون الثاني الجاري.

يروي فؤاد مفتتحا الحوارمعه بحكاية الفنان الذي وصل تحديه إلى أسماعه قائلا: «دخلت في تحدٍ مع نفسي بمقابل ما قاله هذا الفنان، إذ أنّ عبارته بأنّ الفن هو العمل في الرخام وليس الخشب كانت تحديا لي ولإمكاناتي الفنية، وكانت عبارته حافزا لي كي أسافر وأجلب الحجر من الخارج بنفسي، وأبدأ أوّل دروسي في مجال النحت على الرخام بمساعدة الفنان البحريني الكبيرعلي المحميد، الذي ساهم في إرشادي خلال أولى مراحل عملي في مجال النحت على الرخام».

إلا أنّ الرخام ليس خشبا فعلا، فليس بالسهولة شق الحجر وتشكيله كيفما يشاء المرء كما هو الخشب، فكان فؤاد تجربة يانعة في هذا المجال، لم يشق عليه إستذكار تفاصيل دخوله لهذه التجربة، إذ عبر قائلا «أول شيء أنا أعاني من مشكلة هي عدم إطلاعي على الفنانين الكبار خلال الفترات السابقة، فالنحت لي مجرد هواية، ولكنني حينما بدأت العمل في النحت على الرخام، كنت أجلس أمام الكتلة الصماء، ومعي كوب شاي وقلم، وأبدأ بالتخطيط عليها، وكنتُ في أحيان كثيرة لا أملك فكرة واضحة حول الشكل النهائي للعمل، إلا أنني أشعر من خلال طول فترات تأملي أنني أدخل في حوار مع القطعة، سواء أكانت رخاما أم خشبا، حتى أصل إلى نقطة البدء، التي كانت في الغالب تبدأ بعد أن أؤدي صلاة الفجر».

وكيف البدء في العمل من غير صورة عامّة لما سيؤول إليه في نهاية المطاف، يجيب فؤاد بالقول «معظم أعمالي لها فكرة، لكن مخططها غير موجود، لذى أبدأ العمل، وأترك للقطعة أن تسير معي إلى ما تريد أنْ تصبح عليه، فأنا أريد أنْ أنقل هذا المعنى أو هذا الإحساس، ولكن الأمر منوط بكيفية تبلورالشكل والفكرة مع العمل، وكيفية خروج الفكرة».

أين انتهيت؟

يفخر البنفلاح بعبارة الفنان البحريني الكبير عبدالله المحرقي حينما قال له: «لديك جرأة في التعبير، ولا نعرف من أين بدأت» فهو يحيي القطع الميتة بلمسات خفيفة، فكيف يقنع الفنان بأن عمله قد وصل للمرحلة التي يثق به حينما يقوم بعرضه أمام الناس، فيجيب على ذلك أنّ «العمل، حينما تنطبق عليه الفكرة التي تدور في بالي أقتنع بها، وحينما ينتهي العمل أبدأ في ملاحظة الأخطاء الصغيرة وأتجنبها في الأعمال اللاحقة»، إلا أنّ المسألة تظل مرة أخرى مرتبطة بوصول الفكرة التي يرغب الفنان بإرسالها، ومدى قدرة العمل على ذلك، إذ يجيب قائلا «من طبيعة العمل التجريدي أنّ كل شخص يستطيع أن يقرأه بقرائة مختلفة، فإذا اجتمع أكثر من شخص حول عمل واحد، تجد لكل منهم انطباعا وقراءة خاصة به، وحتى الشخص الواحد حينما يتأمل العمل من زاوية مختلفة تتغيّر رؤيته، إلى جانب أنّ الفنان يعني معنى آخر، فلذلك، وبدلا من أنْ يرى المشاهد كتلة صلبة، سعيت في محاولة لأخذ المشاهد في حوارمع الكتلة الصلبة، لتخبره القطعة وتلقنه الموضوع من خلال الشكل الذي أخذته، وقد علق على ذلك الفنان الكبيرعبدالكريم البوسطة بأن الأعمال مثل: سيمفونية تنقلنا من مكان إلى مكان آخر».

ملمس آخر ...

بخلاف أعمال الرخام، التي تمتاز بجمالية الملمس الناعم حين يتم تلميعها بعد أن تتخذ شكلها النهائي، جرد فؤاد بعضا من أعماله من هذه الصفة إلى جانب تجريده للأعمال نفسها بشكل عام، وفي ذلك كانت له رؤية خاصة، إذ يقول «طبيعة الرخام أنه وبمجرد تلميعه يكتسب شكلا جميلا حتى وإنْ لم يتم تشكيله، وفكرتي كانت بكسر القاعدة، لأنّ العمل جميل حتى وإنْ لم يتم تلميعه، ولكن الجذب يكون من خلال الإنحناء والإنسياب والتكوين للعمل بشكل عام»، وحول صعوبات تجربته الأولى يقول «المواد والمعدات التي يشتغل عليها النحاتون غير موجودة في البحرين، وخصوصا الكتل الخام الكبيرة، لذا فقد قمت كحذو معظم الفنانين بشحنها من الإمارات عبرالبر، وهي هناك في المستودعات أحجار متنوعة يؤتى بها من دول مختلفة، كما أنّ المعدات غير متوافرة، إذ يتم تشكيل الأحجار من خلال معدات برد وحفر وقطع من الألماس، وهي كذلك نأتي بها من الخارج، ونتحمّل أعباء كلفتها الباهضة، وإمكانية عدم ملائمتها مع ما نحتاج إليه، إلا أنّ العزيمة والرغبة في صنع شيء خاص هما الدافع لتحمّل كل تلك المشاق».

ولون آخر...

وكما كان للفنان الفكرة في إكساب بعضٍ من أعماله صفة الخشونة لتمييزها، زاوج فؤاد بين عدد من الأحجار ذات الألوان المختلفة، والتي كان دافعه لها محددا ذكره قائلا «حينما آتي للفكرة أجد أن العمل الذي أحدده هو الذي يفرض لونه، ففي بعض الأعمال كالوجوه، كنت مضطرا لتشكيلها بألوان ثابتة، فالعمل هو الذي يتحكم، وفكرتي في تنويع الألوان أتت لكسر الروتين بالنسبة للمشاهد عبر استخدام خامات وردية وصفراء ورمادية وبيضاء وسوداء».

ويضيف في مسألة خصائص الأحجار المختارة أنّ «الخام الأصفر كان فيه حفر، وكان بالإمكان معالجتها من خلال برادة الخام التي يتم عجنها وملء الفراغات بها، إلا أنني إخترت أنْ أبقيه كما هو عليه».

وأفكار مختلفة

يلاحظ المتجوّل بين منحوتات معرضه الأخير أنها متنوعة حتى في أشكالها، فبين الأعمال التجريدية كان هناك عدد لا بأس به من الوجوه التي قام الفنان بنحتها، والتي أبدى البنفلاح رأيه في وجودها أنها «محاولة لإثبات الذات، فالتجريد قلة من الناس تستطيع فهمه، وزوار المعرض خليط من الناس ومستوياتهم الفكرية متفاوتة، ولذلك، ولكي أعبّر اقتداري كفنان على الخروج بأعمال بكلّ الأنماط، قدمت أعمالا يستطيع أيّ شخص بسيط أن يراه ويفهمه، إلى جانب أعمال تجريدية ذات خواص مختلفة، منها ما يتم ثابتا على قاعدة، ومنها أعمال من دون قاعدة تعبّر وتوصّل الفكرة كيفما وضعتها ولا ينقص من العمل شيء».

خاتمة عند بداية

«بدأت من الصفر، وكونت نفسي من لاشيء» كذا يقول البنفلاح، مضيفا كفلسفة له في عمله «الحياة فيها تعقيد، وكي نمشي فيها ونشق طريقنا يجب أنْ نواجه ونشق طريقنا وسط تعقيدات الحياة، سواء مثلنا هذه الحياة بالحياة الإجتماعية أو التعليمية أو المهنية أو حتى الفنية، فجميع الأمور تبدأ عند نقطة، وتنتهي عند نفس النقطة».

واختتم الفنان حديثه معاتبا بالقول «عتبي على المسئولين في حجبهم جوائز النحت في معرض البحرين السنوي للفنون التشكيلية، فإن كانوا لا يعترفون بالنحت كفن، فلماذا يكبدوننا خسائر الخروج بهذه الأعمال، إذا لم يكن النحت عملا فنيا لماذا يسمحون لنا بالمشاركة، ولماذا الجوائز للرسم فقط وليس هناك جوائز للنحت، هذا إحباط للنحاتين، وكيف بإمكانهم أنْ يتطوروا مع هذه المعوقات»؟

العدد 1959 - الأربعاء 16 يناير 2008م الموافق 07 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً