العدد 1962 - السبت 19 يناير 2008م الموافق 10 محرم 1429هـ

الإمام الحسين (ع) يبطل شرعية السكوت

عباس هاشم Abbas.Hashim [at] alwasatnews.com

يكفي ما جرى يوم العاشر من محرم سنة 61هـ من حوادثَ مفجعةٍ؛ للدلالة على ضرورة الثورة الحسينية. في يوم العاشر من محرم ظهر مدى تسافل الحكم الأموي وابتعاده عن الإسلام من خلال التعدي الصارخ على حرمات رسول الله (ص)، وممارسة القتل البشع في ثلة من أهل البيت (ع) وصحابة الرسول (ص) كحبيب بن مظاهر الأسدي، وذبح طفل رضيع لم يتجاوز الأشهر الستة على يدي والده (ع)، ولم يكتفِ القوم بقتل ابن بنت نبيهم، وإنما أحموا الخيول في الميدان؛ لتدوس صدره وتحطم أضلاعه. والأشد مرارة على أهل البيت (ع) أخذ ذراري رسول الله (ص) من نساء وأطفال، سبايا يساقون من بلد إلى بلد.

بجانب دلالة تلك الحوادث المؤلمة على انحطاط الحكم الأموي، فهي تعد برهانا على عمق الفساد الذي نخر جسد الأمة طويلا، وحرّف جزءا من مفاهيمها، وراجع قيم الدين في ضميرها وسلوكها العملي. لقد تجرأوا على رسول الله (ص) فقتلوا سبطه وهم يعلمون أنه وأخاه الحسن (ع) “سيدا شباب أهل الجنة”، ومثّلوا بجسده بعد القتل وهم يعرفون أن “الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا”. مثل هذه الأفعال الشنيعة انعكاس لخطورة حال الأمة والفساد داخل أفرادها، ومن ثم حاجتها الماسة إلى ثورة تصلح حالها، وتعيدها إلى عدالة إسلامها وقيمه السماوية. مثل هذه الجرائم القذرة من قبل الحاكم الأموي أكبر دليل على ضرورة ثورة الإمام الحسين (ع) الإصلاحية، ولهذا تحرّك (ع) منذ البداية رافعا شعار الإصلاح: “إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله”. والخروج لطلب الإصلاح يعني وجود فساد عظيم تطلّب هذا الحجم من التحرّك والتضحية لإصلاحه. ثم ذكّر بشرعية تحركه منوها إلى أخطر فريضتين في الإسلام حين قال: “أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر”. ولم يترك شعار الإصلاح الذي رفعه غائما عائما، بل طرح النموذج العملي الذي يقتدي به في تحركه بقوله: “وأسير بسيرة جدي وأبي”.

ومن أهم ما دلّ على مدى الفساد الذي نخر أوصال الأمة، وجعلها تتهاون تجاه الحاكم الظالم إلى حد أن تجرأ على فعلته الشنعاء بقتل سبط الرسول (ص) هو طلبه البيعة تحت حدّ السيوف، على حين البيعة عقد برضا طرفين لا طرف واحد، كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): “فمن بايع طائعا قبلتُ منه، ومن أبى تركته”. غير أن الحاكم الأموي قد خيّر الإمام الحسين (ع) بين البيعة مرغما أو القتل، وفي مثل هذا السلوك الإجرامي - أي أخذ البيعة بالإكراه من مثل الإمام الحسين (ع) - أو قتله “ولو كان متعلقا بأستار الكعبة” كما في الروايات، استهتار خطير بقيم الإسلام العالية، وجرأة على الأمة نتيجة الاطمئنان لضعفها وضعف مقاومتها بطش الحكم الأموي.

وعندما رفض الإمام الحسين (ع) البيعة، واختار القتل عزيزا شامخا، وقال كلمته الخالدة التي نقلها ابن أبي الحديد المعتزلي وغيره: “ألا وإن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين: السلة أو الذلة، وهيهات منا الذلة! يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وطهرت، وأنوف حمية، ونفوس أبية”.

كان يدرك أن هلاك دين الله يكمن في بيعة مثله لرجل مثل يزيد بن معاوية، يتجاهر بالمعاصي ويرتكب الموبقات ويقتل النفس المحترمة. ففي مثل بيعة الإمام الحسين (ع) مصيبة عظيمة على قيم الدين، وعلى رأسها قيمة العدالة التي لا تختلف فيها البشرية جمعاء، وإن اختلفت في حدودها. في بيعة الإمام الحسين (ع) إصباغ شرعي على مخالفة الحاكم ناموسَ العدل بمخالفته القانون العادل، أي الأحكام الشرعية التي تمثل حقيقة العدالة في المنظور الإسلامي، إذ إن العدالة قيمة إنسانية لا خلاف عليها بين كل البشر، إلا أن الخلاف بين كل المبادئ الوضعية والسماوية في فهم هذه القيمة وحدوها، واختلاف الفهم لقيمة العدالة هو الذي أولد نظما متعددة، وقوانينَ مختلفة، وكلها تدّعي تمثيلها العدالة.

ثورة الإمام الحسين (ع) سحبت الشرعية عن السكوت حيال مخالفة القانون العادل، وأعطت شرعية للثورة على الأوضاع الجائرة. ففي لحظة سقوط الإمام الحسين (ع) من على صهوة جواده صريعا استيقظت الأمة مذعورة على صوت ناعية الإمام الحسين (ع)، وأدركت أن استخفاف الحكم الأموي بأكبر رأس فيها متمثلا في الإمام الحسين (ع) يعني أن لا قيمة لأي رأس بعد هذا الرأس، أصغر أم كبر، ولا مكان لأية قيمة دينية وإنسانية. فاشتعلت جذوة الروح الثورية الجديدة في الأمة، حتى أصبحت نارا مازالت تكبر وتكبر، حتى أحرقت الحكم الأموي بعد أن حجّمت دوره التخريبي، وقلّصت إمكان الاستبداد على مرّ العصور.

لم يعد من مكان للتشكيك في شرعية الثورة ضد الحكم إذا ما استبد وظلم. وبقدر الفساد الحاصل تتسع التضحيات المطلوبة. فالظلم اليزيدي الأموي كان بقدر لا يصلحه سوى تفجير هائل يزلزل الأمة، كل الأمة. فكان الثمن لهذا الزلزال رأس الإمام الحسين (ع). إن الظلم يسرع بالدولة إلى الفناء ويفسد أحوالها ويشقي أهلها، أما العدل فهو سنّة طبيعية تمد الدول بعمر مديد؛ لقول الإمام علي (ع): “ثبات الدول بإقامة سنن العدل” وقوله: “ما حصن الدول بمثل العدل”.

وهل الإصلاح الذي ثار من أجله الإمام الحسين (ع) إلاّ تحكيم قيمة العدل في الحياة؟

إقرأ أيضا لـ "عباس هاشم"

العدد 1962 - السبت 19 يناير 2008م الموافق 10 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً