العدد 1963 - الأحد 20 يناير 2008م الموافق 11 محرم 1429هـ

بوش وكرْع النبيذ بالأنف

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

نظمت كلية العلاقات الدولية التابعة لوزارة الخارجية الإيرانية مؤتمرا عالميا تحت عنوان «البرنامج النووي الإيراني وتقرير البرداعي» أوInternational Seminar On Irans Nuclear Program And IAEA Director General Report وبالفارسية «سمينار بين المللي برنامه ي هسته إيران وكزارش البرادعي». المؤتمر حضره الكثير من الباحثين والمهتمين بالقضايا الاستراتيجية والجيوبوليتكية من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وكندا وألمانيا وفرنسا ونيوزلندا واليابان والهند ومصر وسورية والكثير من الدول، وحظي باهتمام خاص من قبل الحكومة الإيرانية تمثل في حضور عدد من المسئولين الإيرانيين في طليعتهم الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي سعيد جليلي وعدد من مسئولي وزارة الخارجية وبعض الأساتذة الجامعيين وغطته وسائل الإعلام الإيرانية المسموعة والمرئية والمقروءة كافة، وعلى رغم أنني أفردت مساحة مهمة لتناول ما أنتجه المؤتمر، أو على الأقل لتصويب عدد من الرؤى الخاصة ببرنامج إيران النووي فإنني أحيلها لمقال قادم أتناول فيه ذلك الملف وفق مرئيات ذلك المؤتمر وبعد زيارة البرادعي الأخيرة لطهران، إلا أنه (أي المؤتمر) أتاح لي معرفة الذهنية السياسية الإيرانية وحجم المساحة التي تلعب عليها تلك السياسة على المستويين الإقليمي والعالمي. المؤتمر الذي عقد خلال أحد أيام نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي لا أجده إلا متصلا بما يجري من أحداث قريبة أهمها زيارة الرئيس الأميركي للمنطقة في 9 يناير/ كانون الثاني الجاري، فالتنادد بين الولايات المتحدة ودول أخرى اليوم يدور في أماكن منفصلة جغرافيا، لكنه متصل سياسيا، في الجانب الغربي الجنوبي من العالم يدور الصراع بين الدول العائدة من رحم اليسارية وبين واشنطن، وفي أوروبا الشرقية والمناطق المتاخمة للقوقاز يقف الروس البوتينيون أمام التوسع العسكري الأميركي، وفي منطقة الخليج والعراق يدور الحديث عن ممانعة إيرانية من نوع خاص ضد السياسات الأميركية في المنطقة.

فالإيرانيون يعلمون أنهم ليسوا جزيرة غرينادا، لكنهم أيضا ليسوا كروسيا، وينظرون إلى الأمور ويديرونها من خلال اتصالهم الجغرافي والسياسي بالمنطقة، ففي العراق لم يكن مشروعهم سوى إفشال الوجود الأميركي المباشر هناك لكيلا تمتد الذراع الأنغلوساكسونية العسكرية لهم إذا ما نجحت خطة ما بعد سقوط بغداد، وقد كانت المعادلة التي اعتمدوها في تسيير رافعة هذه السياسة معقدة جدا إلى درجة أن حلفاء إيران في داخل العراق لم يستطيعوا (وفي أحيان مختلفة) ضبط البوصلة الإيرانية تجاه العراق، وربما سمعت شيئا من ذلك مباشرة من السيد عبدالعزيز الحكيم عافاه الله (وهو من أقوى حلفاء الجمهورية الإسلامية داخل العراق وفي المنطقة بعد حزب الله لبنان) عندما قال إنهم دفعوا جزءا من ضريبة الخلاف الأميركي الإيراني في الداخل العراقي.

الإيرانيون وضعوا لسياستهم في العراق خطوطا متباينة، لكنها متقاربة لكي تسمح لتلك الخطوط بالتلاقي والاستقواء ببعضها بعضا عند الضرورة، فالعلاقة مازالت قائمة بينهم وبين الأكراد إلى الحد الذي دفع الرئيس جلال الطالباني إلى أن يعتذر من تصريحات نُسِبت إليه بشأن اتفاقية الجزائر، والعلاقة قائمة بينهم وبين التيار الصدري الذي لا يجد زعيمه ملاذا آمنا يهجع فيه بين الفينة والأخرى سوى مدينة قم المقدسة وفي منزل شقيق زوجته السيدجعفر الصدر نجل الشهيد السعيد آية الله العظمى السيد محمدباقر الصدر والعلاقة مازالت قائمة مع حزب الدعوة الإسلامية بشقيه الذي لا يجد حلّ عقده التنظيمية والسياسية والمالية إلاّ في طهران، والعلاقة أيضا قائمة بطبيعة الحال مع المجلس الإسلامي الأعلى الذي لايزال يتنفس استراتيجيا وماليا عبر الرئة الإيرانية، والعلاقة أيضا لم تنقطع مع الحزب الإسلامي عبر زعيمه الروحي محسن عبدالحميد.

وإلى جانب هذا الخط المدني، ينشط الخط العسكري الذي تتعمَّر بندقيته على أكتاف المنظمات الشيعية المسلحة في الداخل العراقي والمتولدة من تيار الصدر وثارات الله ومجاميع أخرى من بغداد والمدائن والبصرة، وإلى جانب هذا الخط يتم تفعيل الخط السياسي المتلازم لطبيعة الصراع القائم بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة في المنطقة عبر شفاعة الخط المدني الذي به ومن خلاله تذهب وتأتي الرُسُل والمكاتبات، وهو مسار يبدو أن الأميركيين أحوج إليه من الإيرانيين إذا ما وضع في الميزان إلى جانب مشكلاتهم المتعاظمة.

وفي الموضوع اللبناني، ينشط الخلاف بالتناوب بين الفرنسيين والأميركيين من جهة والإيرانيين من جهة أخرى حول السكة التي يجب أن يسير عليها هذا البلد، فطهران ترى أن الولايات المتحدة تنتهج سياسة راديكالية لتأمين مصالحها الخاصة، تتدفق من السياسة الأعم لها في المنطقة والعالم والقائمة على خلق أزمات مسيطر عليها، لكنها سياسة انفعالية تستند إلى مبدأ التجربة والخطأ، أما الفرنسيون فبسبب وجودهم التقليدي في لبنان ولأن هذا البلد يمثل العمق الأمني لأوروبا فإنهم يتباينون مع حلفائهم الأميركان إلى حد ما حول مصيره، وخصوصا أن لديهم قوات عسكرية في إطار قوات اليونيفيل العاملة في جنوب لبنان، وهي ربما النظرة ذاتها التي لخصها السفير الإيراني في لبنان محمدرضا شيباني قبل فترة.

وبالتالي، فإن الإيرانيين يديرون سياستهم في لبنان عبر محورين أساسيين، الأول: هو العلاقة الاستراتيجية مع دمشق التي تقاسمت معها الظروف والجبهات منذ العام 1981، والثاني: علاقاتها مع حزب الله لبنان الذي بدا عقب حرب يوليو/ تموز أنه حامية سياسية وعسكرية لا يمكن تجاوزها فعلا، لكنها وفي الوقت نفسه لا تجر الخيط إلا وفق فضاء الحزب السياسي في الداخل اللبناني رغبة منها في إبعاده ومن ثم سياساتها عن نقاط تماس قد تُحدث خللا في نظام المصالح القائمة، وربما أشار إلى ذلك بشكل وآخر الأمين العام لحزب الله السيدحسن نصرالله في مقابلته الأخيرة مع قناة NBN.

وفي موضوع الطاقة الذي بات يقلق العالم يرى الإيرانيون أنهم يمرون في العهد الذهبي للطاقة الأحفورية، والتي من حسناتها أن يقع ستون في المئة من احتياطاتها في المنطقة، وأن يمر أربعون في المئة منها يوميا من مضيق هرمز الذي يملك حق التصرف في أمره الإيرانيون بالمحاصصة مع الآخرين، إلى درجة أنهم يطلبون من بارجة بورت رويل سي. جي 73 الأميركية تحديد هويتها واتجاهها وسرعتها! الإيرانيون يعلمون أن الدول الاثنتي عشرة من أعضاء منظمة الأوبك حققت إيرادات نفطية قياسية في العام الماضي (2007)، فاقت الـ 658 مليار دولار، ويعلمون أيضا أن هذه الإيرادات قد تصل إلى 762 مليارا من الدولارات نهاية العام الجاري، لذلك فهم اليوم يُراكمون ثروة فلكية بسبب ارتفاع أسعار النفط التي وصلت إلى مئة دولار، وليس غريبا أن يصل احتياطيها من النقد الأجنبي (العملة الصعبة) إلى 70 مليار دولار واتباعهم سياسة تنويع الاحتياطيات بدلا من الاعتماد على الدولار الأميركي كما أعلن ذلك محافظ البنك المركزي الإيراني طهماسب مظاهري، وهم يطمحون في الحصول على 70 مليار دولار من تصدير النفط قبل نهاية السنة الفارسية التي تنتهي في مارس/ آذار المقبل بعد أن بلغت إيراداتهم في النصف الأول منها نحو 35 مليار دولار. وبالتالي فهم والأميركيون على خط النار في هذا الأمر على رغم أنهم يعلمون أن السعر الذي قد يضر بالاقتصاد الأميركي بشكل قاتل هو 140 إلى 150 دولارا للبرميل الواحد، وخلال زيارته الأخيرة للمملكة العربية السعودية طالب الرئيس الأميركي جورج بوش المملكة بزيادة إنتاجها من النفط على رغم أنه يعلم أن الرياض لن تتمكن من ذلك قبل حلول العام 2015 وبشرط أن تستمر الاستثمارات في مجال الطاقة بالوتيرة الحالية نفسها، وعليه فإن ملف الطاقة هو إحدى الزوايا المتوترة بين طهران وواشنطن من جهتين الأولى: أسعار النفط، والثانية: أمن الخليج ومضيق هرمز.

وفي الملف الفلسطيني، ورث الإيرانيون القضية بطريقة بينت أنهم يحملون الملفات المركونة فيها، ولم يتوقف تأييدهم القديم لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) عند حدود الشعار فقط بل على الدعم المباشر أيضا بعد وصول الحركة إلى الحكم عبر تنهيض البنية السياسية والاقتصادية والعسكرية للحركة وتقويمها مؤسساتيا وأمنيا، وربما أفلح الإيرانيون في تلقف ما يسقط من سياسات عربية باهتة ومنها القضية الفلسطينية وإعادة إنتاجها وتموضعها في سياق السياسات الإقليمية، وهم في ذلك نجحوا بقوة في التدثر بالثوب القومي والإسلامي والنماء بداخله ومن ثم تبنيه، ولا أعلم مَنْ مِنَ الزعماء العرب الذي اتصل بمحمود الزهار لتعزيته باستشهاد نجله غير أبي مازن، إلا أن الصحف جميعها نشرت أن منوشهر متقي اتصل بالزهار وقدم له التعازي وأن الرئيس محمود أحمدي نجاد اتصل بإسماعيل هنية وقدم له التعازي في مجزرة غزة الأخيرة أيضا.

هذه السياسة الإيرانية تجاه القضية الفلسطينية تُزيِّتها الكثير من المفاعيل على الأرض وأهمها عدم وجود قوة عالمية تضع حدا أو تقيم قسمة عادلة لهذه القضية، وأيضا عدم وجود سياسات عربية موحدة قادرة على الضغط والتنفيذ، بالإضافة إلى الممارسات الصهيونية الوحشية ضد الفلسطينيين وتوسيع المستوطنات وغيرها من السياسات الهوجاء.

في المُحصلة يبدو أن الخلاف الإيراني الأميركي هو بشأن إيجاد تعريف جديد لأمن المنطقة وتحديد اللاعبين الأساسيين فيها، وإذا ما استطاع الأميركيون قهر الصبر الإيراني المعروف فإنهم سينجحون في تمرير مشروع شرق أوسطي كبير، أما إذا فشلوا في ذلك فإن عليهم أن يقبلوا بالمحاصصة الاستراتيجية في المنطقة.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 1963 - الأحد 20 يناير 2008م الموافق 11 محرم 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً