العدد 1988 - الخميس 14 فبراير 2008م الموافق 06 صفر 1429هـ

تجدد الاختلاف على الديمقراطية بين الإخوان والجهاد

الحركات الإسلاميّة والفكر المعاصر (12)

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

أهم تطور حصل في التيارات الإسلامية هو انتقال الخلاف من الخصومات العقائدية في نهاية السبعينات إلى المواجهات السياسية والاشتباكات بين الطرفين، وخصوصا بين الجماعة الإسلامية وحركة الإخوان في الثمانينات والتسعينات.

ازدادت الصدامات عندما بدأت الحكومة المصرية تفرج عن قيادات الجماعة الإسلامية في العام 1984، وأخذت الأخيرة تنشط وتعيد تنظيم نفسها فاندلعت المواجهات وانتقل الخلاف إلى الجامعات والمؤسسات والمحافظات، ووصل أحيانا إلى الاشتباك واستخدام السكاكين والخناجر والجنازير وأسياخ الحديد كما حصل في أسيوط في عامي 1987 و1988، وانتهت المواجهات إلى إصدار كل طرف بيانات يتهم فيها الآخر بالاعتداء. وتطورت حرب المناشير إلى صدور بيانات توثق الخلافات وتقوم على تأصيلها عقائديا وسياسياَ.

وبصدور البيانات العقائدية تأسست خطوط آيديولوجية متناقضة تختلف على معظم المسائل المتعلقة بالناس والتعامل مع المجتمع. وأبرز وثيقة أصدرتها الجماعة الإسلامية كانت تلك التي تحمل عنوان «نحن والإخوان» شرحت فيها بالتفصيل خلافاتها مع الإخوان ورفضها لمواقفها السياسية وخلطها المفاهيم الإسلامية بالشوائب العلمانية وتساهلها مع النظام المصري ومشاركة الإخوان في البرلمان. (هشام مبارك، الإرهابيون قادمون، ص 222).

يشير الصادق المهدي في هذا الصدد إلى تعارضات القوى الإسلامية واستخدامها الدين بحسب الظروف والأهواء إذ يقول: «للأسف درجت بعض هذه التيارات التقليدية الإسلامية للمناورة وبصورة لا تليق بنهج إسلامي، ففي ظروف ينطلقون من موقفهم التقليدي ويقولون إن نظام الحكم الإسلامي يؤيد نظام الاتجاه الواحد ويمنع وجود الأحزاب لأنها تفرق الكلمة، وفي ظروف أخرى يقولون العكس وإن النظام الديمقراطي الحديث هو تطبيق لنظام الشورى الإسلامي. وهكذا مناورات وتناقضات حول قضايا الاقتصاد والسياسة الخارجية» (تحديات التسعينات، ص 130).

وفي هذا المعنى الذي أشار إليه زعيم حزب الأمة السوداني شكّل الهجوم الذي شنته الجماعة الإسلامية على الإخوان بداية قطع ليس مع قيادة الإخوان آنذاك بل مع تاريخ الحركة، وتحديدا مؤسسها حسن البنا. ففكرة دخول البرلمان والمشاركة في الحياة النيابية ليست جديدة وليست بدعة اخترعها قادة الإخوان في دورة 1984 (التحالف مع حزب الوفد) ولا في دورة 1987 (التحالف مع حزبي العمل والأحرار) حتى يستنكرها قادة الجماعة. فكرة المشاركة في الدورات الانتخابية قديمة ويعتبر حسن البنا أول من أسسها ودعا إليها، بل قرر ترشيح نفسه في انتخابات العام 1942 في ظل حكومة كان يترأسها آنذاك حزب الوفد، وبلغ وقتها «عدد مرشحي جماعة الإخوان سبعة عشر مرشحا وعلى رأسهم المرشد العام حسن البنا نفسه في دائرة الإسماعيلية. وركز دعايته على تطبيق الشريعة الإسلامية. وفي تلك الآونة وقع صدام بين الوفد والإخوان عندما رفض النحاس باشا زعيم الوفد ترشيح حسن البنا في الانتخابات على أساس أن الإخوان جماعة دينية ولا تعمل بالسياسة (...) وفي محاولة أخرى وبعد إقالة وزارة النحاس باشا في تشرين الأول/ أكتوبر 1944 وحلّ مجلس النواب الوفدي، رشح حسن البنا نفسه مرة أخرى في انتخابات كانون الثاني/ يناير 1945، وفي دائرة الإسماعيلية أيضا، ووقتها أفتى الإخوان بأن الدين يبيح دخول الانتخابات مادام ذلك يؤدي إلى نشر الإسلام». (الإخوان في البرلمان، محمد الطويل، ص 45، 46).

تؤكد الخلافات الطارئة بين حركة الإخوان وحركات الجهاد والجماعات الإسلامية أن وجهات النظر لم تتناقض بسبب آراء قادة الحركة وقبولهم المساومة والتسوية، بل بسبب حصول تطور في التعارض انتهى إلى القطع مع ماضي الحركة ومؤسسها؛ مما يشير إلى وجود تيارين ينقسمان أيديولوجيا ويختلفان في الرأي والاجتهاد والممارسة. وتحتل مسألة الموقف من العنف والأسلوب السلمي نقاط تماس تعيد إنتاج التوتر بين الطرفين في كل فترة زمنية. (يقدم كتاب محمد الطويل «الإخوان في البرلمان» فكرة عامة عن دور القوى الإسلامية في مجلس الشعب المصري ومشروعاتهم واقتراحاتهم ومناقشاتهم. الناشر: المكتب المصري الحديث، الطبعة الأولى، القاهرة 1922، ص 360).

بدوره يمرحل الباحث مبارك تطور الفكرة الديمقراطية عند جماعة الإخوان، ويرى أنها كانت قبل العام 1952، تدعو إلى حل الأحزاب جميعها بدعوى «أنها تؤدي إلى تمزيق وتشتيت وحدة الأمة». إلا أن حركة الإخوان أعادت النظر في موقفها السابق بعد تعرضها للحل والملاحقة والاضطهاد في فترة الحكم الناصري الذي امتد إلى العام 1970. (ص 339).

بعد المصالحة المشروطة مع النظام بدأت الحركة إصدار مجلة «الدعوة» وأخذت منذ العام 1971 تتحدث عن الديمقراطية ورفض الفتنة واحترام الدستور. وعلى رغم الاتفاق على مضمون الفكرة، استمر النقاش في الأساليب وأشكال تحقيق الأهداف سلميا. ويستعرض مبارك آراء قيادات الحركة عن الفكرة الديمقراطية ويسجل تصريحات عبدالقادر عودة الذي يرى أن الإسلام سبق التشريعات المدنية في مسألة الديمقراطية حين «أسس نظرية الشورى لتكميل الشريعة ورفع الجماعة ودفع أفرادها على التفكير في المسائل العامة والاهتمام بها والاشتراك في الحكم بطريق غير مباشر والسيطرة على الحكام ومراقبتهم». ويرى أن نظام الحكم في الإسلام ليس دينيا ولا ديمقراطيا؛ لأنه «يقيد الحاكمين والمحكومين بما أنزل الله». ويخالف مأمون الهضيبي رأي زميله ويرى أن حركة الإخوان اختارت الديمقراطية «باقتناع وإيمان»، ويؤكد أنها الأساس الأول «للبناء الاقتصادي والاجتماعي وهي أرض الأقوياء الذين يلتزمون بالدستور ويقيمون التوازن بين الحقوق والواجبات ويسعون بين الرأي والرأي الآخر لتحقيق مصالح المجتمع». ويتجه عصام العريان وسيف الإسلام حسن البنا الاتجاه نفسه ويطالبان بالمزيد من الديمقراطية وإلغاء «جميع القوانين المقيدة للحرية»، وخصوصا تكوين الأحزاب والجمعيات والاتحادات والنقابات والهيئات والأندية. (ص 340، 341).

ويعلق مبارك على عدم ظهور أي مواقف متعارضة مع الديمقراطية حتى الآن عند جماعة الإخوان لكنه يلاحظ أنه «يمكننا أن نرصد تشوشا وخلطا بين الديمقراطية والشورى». ويستنتج أنه مع تغير الظروف السياسية والاجتماعية في مصر «أصبح للإخوان المسلمين رؤية تكاد تكون متناقضة تماما مع ما كان يدعو إليه حسن البنا من قبلُ». ويفسّر مصطفى مشهور (مرشد الإخوان السابق في مصر) الخلاف بين التصورين؛ لأنه «نحن في الأصل جماعة ولسنا حزبا وقد ظهرت فكرة مطالبتنا بحزب لكي نستطيع ممارسة نشاطنا بشكل شرعي». (ص 341، 342).

يخلص مبارك إلى «أن قادة الإخوان يرون إمكانية للتوفيق بين الديمقراطية والشورى ويتقبلون التعددية الحزبية بشرط عدم تعارضها مع المبادئ الدينية»، على حين - والرأي له - لا «تكتفي حركة الجهاد الإسلامي برفض الديمقراطية ولكنها توجه انتقادات حادة للإخوان المسلمين لتبنيهم لها» (هشام مبارك، الإرهابيون قادمون - دراسة مقارنة بين موقف الإخوان المسلمين وجماعات الجهاد من قضية العنف (1938 - 1994)، مركز المحروسة للنشر والخدمات الصحافية، الطبعة الأولى، القاهرة 1995، ص 343).

تهاجم وثيقة «معالم العمل الثوري» قبول حركة الإخوان فكرة الديمقراطية وتدعو بدلا عنها إلى وحدة فصائل الحركة الإسلامية وحشدها «لمواجهة الجاهلية». وترفض مجلة «الفتح» الناطقة باسم حركة الجهاد اللعبة الديمقراطية؛ لأنها «فكرة غربية تمخضت من الخبرة التاريخية للمجتمعات الأوروبية»، وتؤكد أنها لا تلتزم «إلا بالشرع الإلهي، والتشريع مصادره معروفة وهي الكتاب والسنة والإجماع والقياس»؛ لأن الناس في الإسلام «ليس لهم أي حق تشريعي حتى لو وافق كل الشعب على قضية ما»، وتطالب بعدم إهدار «الطاقات المؤمنة في هذا الطريق المسدود». وتميز حركة الجهاد بين الشورى والديمقراطية وتراهما مختلفتين ثم تميز بين المعارضة في النظام الديمقراطي والأخذ بالرأي الآخر في النظام الإسلامي، وتجد أن الأولى تعني تعدد الأحزاب، وتعني الثانية تعدد الآراء، وتنتهي الجهاد إلى رفض النظام الحزبي وترى أن الشورى واجبة (تعدد الآراء) ولكنها غير ملزمة، فالحرية في رأيها ليست سائبة بل مضبوطة.

تتجه الجماعة الإسلامية بدورها إلى تبني المنهج نفسه الذي تعتمده حركة الجهاد من مسائل الديمقراطية والتعددية والأكثرية والانتخاب والائتلاف والتفاوض مع السلطة، وترى أن «الديمقراطية تخالف الإسلام» وترفض التعددية؛ لأن «تعدد الأحزاب لا ينشأ إلا عن تعدد الآيديولوجيات». وهذا في رأي الجماعة الإسلامية ممنوع في الدولة المسلمة. وترى الجماعة أن الديمقراطية «هي الابن المدلل للعلمانية»، وتساوي بين الكفر والإيمان و «تقر حكم الأغلبية»، على حين «ليست الأغلبية على الحق بالضرورة». وترفض الجماعة محاولات الإخوان ربط الديمقراطية بالشورى وتنتقد موقف «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في الجزائر لموقفها من الديمقراطية وقبولها خوض المعركة البرلمانية وموافقتها على الشروط الدستورية لمشروع الانتخابات. (ص 344 - 348).

تكرر «الجماعة الإسلامية» وحركات الجهاد الموقف نفسه من الانتخابات والمشاركة في البرلمان وتعيب على المشاركين في اللعبة من حركات الإخوان والتنظيمات الإسلامية الأخرى؛ لأنها تقع «في المحاذير الشرعية أثناء الدعاية الانتخابية من الوعود الكاذبة والتدليس مما يكون له أثره السيئ على الدعوة والدعاة» (ص 356).

يُلاحَظ من البيانات والوثائق والتصريحات الصادرة أو المنسوبة إلى قادة الجماعات والجهاد طغيان المواقف والأفكار الطهرانية (التطهرية) في محاولتهم الابتعاد عن التلوث السياسي الذي قد يصيبهم في حال اتباعهم الأسلوب المرن والبراغماتي الذي تنتهجه حركة الإخوان في مصر أو الذي انتهجته «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» في الجزائر. ومن الواضح أن قادة الجماعات وحركات الجهاد يرفضون التكيف مع أي حال من الحالات. فالنصوص عندهم مطلقة ولا يجوز تفسيرها أو إعادة تفسيرها بحسب الأصول ووفق قواعد القياس والسنة والشروط التي وضعها أو اتبعها سابقا، وفي حالات أخرى أو متشابهة، عشرات الأئمة ومئات الفقهاء، فهم يعتبرون أن الحكم الإسلامي حكم ألهي وليس بشريا ولا يميزون بين الحكم والحكام الذين هم من البشر ويجب اختيارهم لا فرضهم بالقوة على الناس. وبسبب عدم تمييزهم بين حكم الشرع وحكم البشر فإنهم يخلطون بين أحكام الله والحكم الذي يمارسه وينفذه البشر وليس الله. ويفسر عدم وضوح ذاك التعارض المذكور بين المسألتين إقدامهم على احتقار الناس واستنكار فكرة الغالبية والأكثرية، في وقت تدعو منشوراتهم هؤلاء الناس إلى الحشد والالتحاق بهم للإطاحة بالحكومات الجاهلية وغير الشرعية. ويمكن القول إن مثل هذه الأفكار متأثرة بالفكر الأوروبي الذي ساد القارة في القرون الوسطى (وقبل عصر التنوير) أكثر بكثير من الفكر الإسلامي وتجارب الدولة الإسلامية وتراثها السياسي الغني بالعبر والدروس، وهو تراث لا يشير إلى الحكم الإلهي بل إلى الحكم الشرعي والعادل.

ربما يوضح الفارق المذكور بين المفهومين أن مصادر تفكير الجماعات الإسلامية وحركات الجهاد أقرب بكثير إلى التجارب الأوروبية ومناهجها من التجارب الإسلامية ومناهجها، كما يدل الفارق على مسألة مهمة وهي إن معظم قادة التيارات الإسلامية المعاصرة درس تعاليم الإسلام في المعاهد والجامعات الحديثة أو السجون وربما تعلمه بجَهْده الخاص ولم يتعلمه بكونه قواعدَ وأصولا كما تذهب مناهج الأزهر وتطبيقاته التدريبية والتعليمية.

على خط موازٍ يتجه الصادق المهدي في كتابه «تحديات التسعينات» إلى اتهام الجبهة الإسلامية السودانية بأنها استمدت «كل فكرها الديني من حركة الإخوان المسلمين في مصر، واستمدت كل فكرها السياسي السوداني من حزب الأمة، وكل أساليبها التنظيمية من الحزب الشيوعي السوداني» (إصدار شركة النيل للصحافة والطباعة والنشر، القاهرة، 1990، ص 205). ويتهم حزب الأمة السوداني في كتاب «الديمقراطية في السودان» الجبهة الإسلامية أيضا باستخدام الأساليب الشيوعية الانقلابية ويسمى «السيد أحمد سليمان الذي كان شيوعيا بارزا العام 1969 وأضحى قياديا بارزا في الجبهة الإسلامية أيضا العام 1989» بتوريط الجبهة في الانقلاب كما سبق له أن ورّط الحزب الشيوعي في انقلاب أيار/ مايو 1969. (مركز أبحاث ودراسات الأمة، أكتوبر 1990، ص 15).

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1988 - الخميس 14 فبراير 2008م الموافق 06 صفر 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً